لماذا الفلسفة بصيغة المؤنث؟

تجد شرعيتها في طبيعة الموضوعات التي تناولتها فيلسوفات

حنا أرنت
حنا أرنت
TT

لماذا الفلسفة بصيغة المؤنث؟

حنا أرنت
حنا أرنت

تناولت كتب عدة موضوع المرأة والفلسفة، من قبيل: نساء - فلاسفة، والفلاسفة والمرأة، ونساء الفلاسفة. وأغلب الظن، أن هذه الكتب، عالجت علاقة الفلاسفة بالمرأة لبيان مواقفهم الحياتية منها عامة، أو لإبراز دور بعض النسوة في حياة الفلاسفة، ووقف بعضها عند تجارب الحب التي خاضها بعض الفلاسفة مع النساء.
دشنا في سلسلة مقالاتنا هنا، البحث في سيرة وفلسفة بعض النساء اللواتي دخلن عالم التفلسف من بابه الواسع، وتحملن عبء التفرغ للفكر الفلسفي، تدريسًا وتأليفًا، في مجتمعات ذكورية بامتياز، حيث جددت الرأسمالية آليات السيطرة والهيمنة الذكورية على عالم الفكر، وخصصن معظم أوقاتهن للتنقل بين الجامعات، ومنهن من تحملت ويلات الحروب والاضطهاد الفاشي والديني واللغوي والثقافي، وبخاصة في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما نجد منهن من تخلين عن الحياة الأسرية وعزفن عن الإنجاب للتفرغ للفلسفة.
من المعلوم جيدًا، أن الفلاسفة - الذكور، هيمنوا على تاريخ الفلسفة. فلاسفة - ذكور لم ينفلت منهم من سلطة المجتمعات الذكورية، إلا النزر اليسير. ولكن مع تناسل مقاومات الحركة النسائية، وانتزاعها حق المساواة والحرية والإنصاف، لولوج مجالات عمل كانت، إلى عهد قريب، حكرًا على الرجال، ومع الدور الذي لعبته الأنظمة الديمقراطية والحركات النسائية في العالم، سيتعزز دور المرأة في المجتمعات الغربية التي أقرت أنظمة علمانية، منحت للنساء حقوقًا لم يكن يسمح بها من ذي قبل.
لم يعد السؤال في مجتمعات اليوم يتعلق بالحاجة إلى تحرير المرأة، كما طرح في بداية القرن العشرين (مع الموجة النسوية الأولى). بل صار سؤالاً ينصبّ حول مستقبل هذا التحرر، من زاوية أن هناك مشكلات جديدة صاحبت الاعتراف بالمرأة ودورها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، من قبيل الحقوق الجنسية، والاختلاف الجنسي والتحول الجنسي...ناهيك عن التعدد الثقافي والديني واللغوي.
ماذا لو قلبنا التاريخ رأسًا على عقب، فإذا كان تاريخ الفكر الفلسفي، في مجمله، تاريخًا ذكوريًا بامتياز كتبه فلاسفة ذكور، فماذا عساه يصير لو كان تاريخًا نسويًا؟ ماذا لو كانت النساء هن اللواتي لعبن دورًا مهمًا في تاريخ هذا الفكر؟ ألن نجد أنفسنا أمام قضايا فلسفية مغايرة، ومنهجيات فلسفية مختلفة، ولربما أمام فكر مختلف جذريًا عن فلسفة الفلاسفة الذكور، وأمام فلسفة جديدة حتى لا نقول فلسفة نسوية؛ لأن هذا النعت يضمر بين ثناياه نزعة ذكورية، حيث يتم التمييز بين فلسفة ذكورية وأخرى نسوية؟
ستكون لثورة المساواة في الحقوق، ولولوج عالم الشغل والفكر والثقافة، انعكاسات جديدة على بنيات التفكير، وعلى طبيعة القضايا الفلسفية، كما نجد ذلك في عالم السياسة والاقتصاد. لذا؛ نعتقد، من دون أن نجزم، أن التاريخ المقبل للفلسفة، سيكون تاريخًا مغايرًا ومختلفًا، ليس بسبب ثورة المساواة والحقوق وحدها، وإنما بسبب اجتياح النساء نسب الساكنة العالمية، وتفوقهن في مجالات التعليم والسياسة والاقتصاد على حد سواء، وبسبب ثورة الحب كما نظر لها لوك فيري وألان باديو.
إننا أمام فكر فلسفي يطرح قضايا سياسية راهنة، تتصل بالفلسفة السياسية تحديدًا، حيث التقينا بوجوه بارزة لعبت أدورًا مهمة في التنظير لقضايا لم تطرح من قبل، كما هو الشأن بالنسبة للفيلسوفة جوديث بتلر Judith Butler أو سيلا بنحبيب Seyla Benhabib، أو نانسي فريزر Nancy Fraser، وبوجوه لم تلق كامل الحفاوة والاهتمام في الجامعات وكليات الفلسفة، على الأقل في عالمنا العربي، من قبيل سيمون فايل Simon Weill، وصبا محمود Saba Mahmood، وإديث شتاين Edith Stein، وآين راند Ayn Rand، وبفيلسوفة نقدية معاصرة تنتمي إلى المدرسة الماركسية، وتحاول إعادة النظر في موضوع البطريركية (الأبوية)، وفق مستجدات البحث الأنثربولوجي والسوسيولوجي الراهن، هي نادية دو موند Nadia de Monde.
إذا كان اهتمام إديث شتاين قد انحصر، أساسًا، في الفينومينولوجيا متأثرة بأستاذها إدموند هوسرل E، Husserl وفي الأنثربولوجيا الفلسفية، وتكبدت عناء العيش حيث حرمتها الحياة من الأبوة، واختارت، عنوة، حضن الكنيس؛ هربًا من ويلات النازية التي لاحقتها إلى كرملية هولندا، لتتخلص منها بمعية أختها روز، في أبشع الصور في محرقة أشفيتز الغازية سنة 1942. فإن اهتمام آين راند، التي اختارت الهرب من الاتحاد السوفياتي في اتجاه الولايات المتحدة الأميركية، سينصب حول النزعة الموضوعية، حيث تبحث عن عالم خاص بجون غالت (بطل روايتها «الإضراب»): عالم فرداني بامتياز، حيث تعلي قيم «فضيلة الأنانية» (عنوان كتابها المميز) بدل قيم كانط المتعالية. فعبارتها المدوية: «امنحني الحرية أو الموت»، تقر أن الفرد يمتلك قيمته في ذاته، من حيث إنه مكتفٍ بذاته، ولا يتوجب أن تحبسه الغيرية التي أفسدت على الفرد قيمه الأخلاقية النبيلة. ووراء السعي نحو التخلص من قيم الغيرية، فإن من واجبات الدولة العمل فقط على حفظ مصلحة الأفراد الذاتية؛ لأننا «لسنا دولة ولا مجتمعًا بقدر ما نحن تجمع بشري مبني على إرادتنا، ويستجيب لمصلحتنا الفردية». وهؤلاء الأفراد يتقاسمون مجموعة من القيم خارج أي قوانين أو قواعد. لذا؛ لا ينبغي ألا نقبل إلا القيم الموضوعية الضامنة لروح الأنانية العقلية، أو أنانية المصلحة الفردية، التي تمثل نقيض الغيرية أو عقلية القطيع (الجماعية)، حيث الفرد هو أساس كل الأخلاق يوجد لذاته وليس لغيره.
ما يجمع هاته الوجوه في اعتقادنا، هو ذلك الصوت النسوي النقدي الذي تغفله بعض الأقلام الفلسفية، ولا تمنحه ما يستحق من اهتمام. فجميعهن، على الرغم من اختلاف مشاربهن واتجاهاتهن الفلسفية، وانتماءاتهن العقدية واختياراتهن السياسية، تركن أثرًا فلسفيا عميقًا، ناهيك عن الخيوط الناظمة بعض المفاهيم التي نحتناها، حيث التداعي قائم: الحق في الحقوق كافة، الشر، التوتاليتاريا، الاعتراف والرغبة (حيث التوليف بين سبينوزا وهيغل كما فعلت بتلر).
لا يسعنا في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز، على الرغم من الكليشيهات التي تظهرها بعض الأنظمة السياسية في هذه الرقعة من العالم، إلا أن نعلي من شأو التفكير الفلسفي الذي تركته تلك الوجوه النقدية وغيرها (وأغلبهن لا يزال على قيد الحياة)، في سبيل الدفع بتفكير من هذا النوع في مجتمعاتنا، حيث لا تزال النساء عرضة لكل أنواع الاضطهاد والتهميش والتحقير، بفضل بنيات التسلط الذكورية المتعششة في تربتنا، والتي ترسخها في عالم اليوم، تيارات محافظة لن تزيدنا إلا انتكاسة نحو الوراء (الماضي الذهبي الذي يحلمون به وينادون به، حيث تطالب المرأة بالخنوع والطاعة والخضوع لسلطة الرجل بدعوى «ناقصة عقل ودين»). فالتنوير يقتضي أول الأمر، الخروج مع حالة الوصاية والخضوع. فكيف يمكن قبول ما نشاهده، يوميًا، من مآس وجرائم في حق النساء، والدعوة إلى «جهاد النكاح»، وإلى حق سبي نساء العدو (هذا إذا صح فعلا أنه عدو)؟ كيف لنا السكوت عن أنظمة تبتغي إبقاء الوضع على ما هو عليه؟
يزداد لدي اليقين، أن ثورة الحقوق والمساواة قد أدت فعلاً إلى تحولات عميقة، بدأت تظهر بوادرها في أنحاء الكوكب الأزرق. وعلى الرغم من أن هدف الليبرالية السياسية والرأسمالية العالمية، هو إدخال النساء، في إطار أسطورة «مقاربة النوع»، إلى عالم المال والأعمال؛ بهدف تلطيف الاستغلال وترسيخ الاستعباد الجديد للنساء، فإنها، في حقيقة الأمر، تحفر قبرها بنفسها؛ لأن الفردانية كمبدأ، قد تؤدي بالمجتمعات المعاصرة، إلى نتائج عكسية. يجري تبرير الفردانية بدعوى الحرية الفردية التي هي شرط الديمقراطية الليبرالية، لكن يجري تناسي أن الحرية في شموليتها، والسياسية تحديدًا، هي شرط لا مناص منه؛ لأن منح الاستقلالية المادية للمرأة هو مفتاح تحررها الشامل. هكذا ترى نادية دو موند، أن «النساء تستعمل جيشا احتياطيا للصناعة (ماركس) في الاقتصاد الرأسمالي – يدمج في فترات التوسع الاقتصادي، ولكنه يسرّح في فترة الانكماش الاقتصادي أو فترات الأزمة. ويجري تبرير هذه الممارسة، بفكرة آيديولوجية مفادها، أن الرجل هو من يلبي أساسًا حاجيات الأسرة، وأن المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل بصفتها ربة بيت. وتستخدم النساء مكان قوة العمل الذكورية، لإضعاف الطبقة العاملة وتقسيمها. كما تستعمل النساء، بطبيعة الحال، في أقسام «ضعيفة» و«هامشية» من الطبقة العاملة، كما هو حال المهاجرين والمهاجرات».
تجد الفلسفة بصيغة المؤنث إذن، شرعيتها في طبيعة الموضوعات التي تناولتها تلك الوجوه المنتقاة، بقليل من التفصيل ولكن بعمق فلسفي حي، يروم إبراز دورها في تاريخ الفلسفة المعاصرة.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.