التاريخ بين الحقيقة والتأويل

الوثيقة التاريخية مدانة إلى أن تثبت براءتها وتتحقق صحتها

التاريخ بين الحقيقة والتأويل
TT

التاريخ بين الحقيقة والتأويل

التاريخ بين الحقيقة والتأويل

ينتمي علم التاريخ إلى العلوم الإنسانية التي جاءت مبكرة، على خلاف العلوم الحقة. وهذه الأخيرة كانت نموذجا، وقبلة سعت وراء تقليدها كل البحوث التي شاءت أن تستحق لقب علم؛ وذلك بمحاولة تحقيق الشروط العلمية التي هي، في نهاية المطاف، الدقة والموضوعية، على أساس أن الدقة تعني الذهاب بالدراسة نحو الصرامة، التي يعد مثالها الأعلى، لغة الرياضيات. لهذا؛ نجد مثلا، أن العالم في مجال العلوم الحقة، لا يقول إن الجسم ساخن، بل يقول وطلبا للدقة، إن درجة الحرارة هي 140 درجة مئوية. وعوضا عن التعبير البلاغي الفضفاض؛ كون أن الغزالة سريعة كالبرق، سيقول إن سرعتها بلغت مثلا 60 كلم في الساعة. أما الموضوعية، فهي تعني باختصار، إبعاد الموضوع المدروس عن الذاتية. بعبارة أخرى، فإنه لا يمكن أن تتسم أي دراسة بطابع الموضوعية، إلا إذا تركت الموضوع نظيفا ونقيا من شوائب الذات الوجدانية. ونقصد بذلك، أن الباحث يسعى إلى طرد كل الميول العاطفية، إضافة إلى الانتماء والآيدولوجيا والقناعات الخاصة؛ لأنها تشوه الموضوع وتلوث صفاءه، ومن ثم تنقص درجة علميته.
من هو المؤرخ إذن؟ ومتى يكون الشخص الذي يروي التاريخ عالما؟ أليس شاهد العيان في حدث معين قد يحكي لنا مجريات الأحداث؟ وهل يكفي ذلك لكي نسميه بالعالم؟ إلى أي حد يكون عمل المؤرخ موضوعيا؟ بكلمة واحدة، هل علم التاريخ يلتزم بشروط العلمية؟
إن الأمر في الحقيقة أكثر تعقيدا من سرد المعطيات. فعالم التاريخ، هو ذلك الباحث الذي يسعى إلى ضبط الأحداث التاريخية، عن طريق التقصي والبحث المضني في الوثائق، وكل المصادر التاريخية المتاحة له (نقوش، نقود قديمة، مخطوطات، كل بقايا ومخلفات الماضي...) وبأكبر قدر ممكن من الحياد والموضوعية. لهذا؛ نجد عالم التاريخ شديد التحقيق والنقد للمعطيات التاريخية. يشهر سيف الشك في كل خطوة يخطوها، ويمكن، إجمالا، تقسيم عمله النقدي إلى نوعين، هما:
النقد الخارجي: وهو فحص للوثيقة التاريخية، من حيث شكلها، وطريقة كتابتها، والخط المستخدم فيها، ونوعية الورق، والأسلوب المتبع، والتوقيع المستعمل... ويقال الأمر نفسه عن الأبنية والآثار وباقي المخلفات الأخرى، حيث يجري البحث فيها عن نوعية البناء، والتصميم الهندسي، والمواد المستعملة، باعتبارها تؤكد حقبة زمنية وحضارية معنية. هذا الأمر، يجعل علم التاريخ في حاجة إلى علوم أخرى مساعدة، كالأركيولوجيا (علم الآثار)، والجيولوجيا والكيمياء (مثلا تقنية التأريخ وتحديد عمر المخلفات بواسطة الكربون 14 المشع)، ناهيك عن ضرورة التسلح بعلوم اللغات القديمة. وكمثال على ذلك، لنتصور مؤرخا يريد التأريخ لحدث ينتمي إلى القرن العاشر للميلاد، معتمدا على وثيقة وحيدة، راج بين المؤرخين، أنها تنتمي إلى تلك الحقبة. إلا أن البحث والتقصي والنقد الخارجي للوثيقة (ورقها، مدادها، خطها، خاتمها...)، أثبت جميعه، أنها تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي. في هذه الحالة، تكون الوثيقة منحولة ومزيفة، وهو ما ستكون له تبعاته الخطيرة، وهي التشكيك في صدقية الحدث التاريخي نفسه.
النقد الداخلي: وهو اختراق للوثيقة من الداخل، حيث يعمل المؤرخ على توجيه نقد باطني لها، من خلاله يحاول بلوغ عمق المضمون، ولا يكتفي بالظاهر من النص. فقراءة ما بين السطور، مطلب ملح، قصد الوصول إلى النوايا والمقاصد الحقيقية للمدون التاريخي. إن المؤرخ يعرف جيدا، أن النص يحتوي على طبقات من المعاني، ويضم، في ثناياه، الكثير من المسكوت عنه. لهذا؛ فلا مناص من استنطاق الوثيقة، وجعلها تبوح بأسرارها، وعدم الاكتفاء بالسطحي من المنطوق، الذي قد يكون مزيفا وعكس الواقع التاريخي تماما. وبعبارة أوضح نقول: إن الوثيقة التاريخية مدانة حتى تثبت براءتها. فتصور معي مثلا، أن لدينا مؤرخا يريد ضبط أحداث الحرب العالمية الثانية، وفي حوزته وثائق كثيرة. من المؤكد أنه سيقوم بعد التأكد من سلامة هذه الوثائق بنقد خارجي، بالاشتغال على نقدها داخليا أيضا، وذلك بالاطلاع على المضمون، والغوص في عمق المحتوى، منقبا عن آيديولوجية وقناعة كاتب الوثيقة وميوله، والبحث، كذلك، عن المصالح التي تخدمها الوثيقة. بعبارة أوضح، السؤال عن المستفيد من المكتوب. بكلمة واحدة، على المؤرخ التأكد من الظروف والملابسات والسياقات التي ظهرت فيها الوثيقة.
إذن، نستنتج أن عمل المؤرخ الجاد، سواء بنقده الخارجي أو الداخلي، شاق جدا، بل هو ملغوم يحتاج إلى الجهد والصبر؛ قصد إعطاء أحداث تاريخية أكثر دقة وضبطا.

ابن خلدون وعلل العمران

في الثقافة الإسلامية، ثمة من تنبه إلى بعض عملية الضبط تلك التي يسعى إليها المؤرخ. ولنا في أصحاب علوم الحديث المثال الواضح، باعتبارهم دارسين علم أصول وقواعد السند والمتن، من حيث القبول والرد؛ بهدف التمييز بين الصحيح وغير الصحيح من الأحاديث النبوية. فهم عملوا على عدم تقبل الخبر إلا بعد معرفة سنده، بحيث كانوا يتتبعون سلسلة الرجال الموصلة للمتن. فظهر عندهم علم الجرح والتعديل والكلام على الرواة، ومعرفة المتصل أو المنقطع من الأسانيد. لكن بحديثنا عن تخصص التاريخ الصرف، ستبرز في تاريخنا الإسلامي شخصية متميزة، هو العلامة عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) برائعته: «المقدمة»، وبطريقته المنهجية التي تتجنب ما يجب أن يكون وتميل إلى ما هو كائن، وتهتم بالواقع الاجتماعي وفق ظروفه ومعطياته الموضوعية. فقد كان يِؤمن بأن التاريخ، يخضع لقوانين صارمة مثله مثل ظواهر الطبيعة. وسيؤكد ابن خلدون، أن التاريخ ليس أبدا تجميعا وتكديسا للأحداث. بل هو تمحيص وتدقيق لها وفق «علل العمران». وفكرة العمران عنده، تكاد تؤدي معنى «القوانين الاجتماعية» نفسه؛ فالمؤرخ في نظره، هو من يكشف عن طبائع العمران والخصائص التي تخضع لها الأحداث.
يرفض ابن خلدون من المؤرخ حكي الأحداث حيثما اتفق، غثا وسمينا. بل عليه، عوضا عن ذلك، البحث عن المعقولية والأسباب المحركة للوقائع، ومحاولة سبرها بمعيار الحكمة وتحكيم النظر والبصيرة، إلى درجة أنه وجّه لوما إلى المؤرخين الذين سبقوه. فهم تاهوا، في أحيان كثيرة، في بيداء الوهم والغلط، معتبرا عملهم مجرد نقل وجمع للروايات، دونما ضوابط دقيقة تفرق بين الأسطوري والحقيقي من الأخبار. وكمثال يستشهد به ابن خلدون على غياب التدقيق وضعف التحقيق والتساهل في الرواية، ما ذكره المؤرخ المسعودي؛ إذ قال عنه: «وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، وأن موسى، عليه السلام أحصاهم، في التيه، بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح، خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة أو يزيدون». هذه الرواية يراها ابن خلدون غير قابلة للتصديق. فالمسعودي وقع في شطط لا يقره عقل. وما سبب ذلك إلا جهله بطبائع العمران والأحوال، أو لنقل غياب فهم السياقات الجغرافية والاستراتيجية. إذ كيف يتسع التيه لمثل هذا العدد الضخم؟ فالأرض ضيقة ولا يمكن أن تستوعب كل العدد المذكور.
لقد كان ابن خلدون صرخة واضحة نحو العلمية في التاريخ، ودعوة صريحة لتحقيق الأخبار وفق مقياس العقل والبرهان، ومقارنة الوقائع التاريخية بأشباهها. لهذا؛ وجدناه يلوم بعض فحول المؤرخين القدامى؛ لأنهم قدموا الروايات كما سمعوها من دون اكتراث للمعقولية، واحتساب للسياقات والظروف التي تعد مقياسا لضبط الخبر. أو بتعبيره هو نقول، إن المؤرخين كانوا يشتغلون من دون استيعاب لطبائع العمران؛ مما عرضهم لنقل زائف للأحداث.
لكن وعلى الرغم من كل ما سبق ذكره، هل يمكن الطمع في نقل أمين للتاريخ؟ هل إذا اشتغلنا وفق علل العمران، بالتعبير الخلدوني، أو النقد الخارجي والداخلي بالتعبير الحديث، سنتمكن حقا من نقل أحداث الماضي بشكل صادق؟ أليس المؤرخ قبل كل شيء ذاتا، لها وجدان وميول وقناعات ودين وفلسفة وانتماء طبقي وسياسي يهدد جميعه الموضوعية في الصميم؟ وهل حقا يمكن تكرار الحدث التاريخي؟ ألسنا نعجز عن إعادة ما فات البارحة بالشاكلة نفسها؟ فما بالك بما حدث قديما؟ أليس قدر المؤرخ أن يقرأ أحداث الماضي بعيون الحاضر؟ وهو الأمر الذي يشوش على صفاء القديم. بعبارة أكثر دقة، هل هناك حقيقة تاريخية يمكن بلوغها أم مجرد تأويل تاريخي؟ ألم يقل «إدوارد كار» مخاطبا المؤرخ: «اجمع وقائعك أولا وحللها، وبعد ذلك، أقحم نفسك في خطر رمال التأويل»؟.



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).