وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (5): «سي آي إيه» تجري تقييمًا ذاتيًا لإخفاقاتها

بعد قبول طهران القرار الأممي لوقف إطلاق النار وإنهاء حرب الخليج الأولى

سيدة إيرانية تودع ابنها المتجه للقتال في العراق (غيتي)
سيدة إيرانية تودع ابنها المتجه للقتال في العراق (غيتي)
TT

وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (5): «سي آي إيه» تجري تقييمًا ذاتيًا لإخفاقاتها

سيدة إيرانية تودع ابنها المتجه للقتال في العراق (غيتي)
سيدة إيرانية تودع ابنها المتجه للقتال في العراق (غيتي)

خلال العام الأخير من الحرب العراقية الإيرانية، وعلى وجه التحديد قبل منتصف 1988، بدأت تظهر مؤشرات انتهاء المعارك، ومع ذلك استمر غالبية محللي الشأن الإيراني في وكالة الاستخبارات المركزية في تقديم استنتاجات خاطئة، عبر دائرة تحليل المعلومات إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ونائبه جورج بوش، ووزير خارجيته جورج شولتز، مفادها أن المرشد الديني الإيراني آية الله الخميني لن يقبل أبدًا بوقف غير مشروط لإنهاء الحرب مع العراق، في ظل التوازن القائم بين البلدين الجارين المتحاربين.
وخلافًا لتوقعات المحللين، أعلنت طهران قبولها لقرار أممي يدعو إلى وقف إطلاق النار، وهو ما جعل مسؤولي الوكالة يشعرون بالإحراج أمام صناع القرار. ولهذا السبب، قررت دائرة تحليل المعلومات في الوكالة مراجعة الكم الهائل من تقارير النصف الأول من عام 1988، في محاولة لمعرفة ما المقدمات الخاطئة التي قادت إلى التوصل لنتائج خاطئة.
ولجأ المعنيون بالتقويم إلى أسلوب علمي بحثي في المراجعة، إذ انتهى عملهم بورقة بحثية هدفت إلى استخلاص الدروس المستفادة من الأخطاء، وفي الوقت ذاته تقديم ما يشبه المرافعة لمسؤولي الوكالة بأن الإخفاق الجزئي لم يكن خطيرًا، استنادًا إلى نتائج وثيقة التقييم التي رأينا تسليط الضوء عليها هنا في الحلقة الخامسة والأخيرة، لما تتضمنها من إشارات وتلخيصات لتقارير كثيرة سبقت زمنيًا التاريخ الأصلي لهذه الوثيقة.
يعود تاريخ الوثيقة الأصلي إلى 17 أغسطس (آب) من عام 1988، وصنفت صفحاتها الـ12 بين «سري» و«سري للغاية».
رفعها ريتشارد ج. كير، نائب مدير دائرة المعلومات، إلى مدير وكالة المخابرات المركزية ونائبه حينها.
وهذا ما جاء في مقدمتها:
أرفق إليكم مع هذه المذكرة تقييمًا لتقارير موظفي دائرة تحليل المعلومات عن الإصرار الإيراني على مواصلة الحرب (مع العراق)، وأعتقد أنه من المفيد أن نتمعن جيدًا في مدى سلامة تقييمنا للضغوط التي تعرضت لها إيران قبل موافقتها على قرار الأمم المتحدة الشهر الماضي (يوليو/ تموز).
كما أعتقد أن تقييمًا مثل هذا جيد جدًا. وإذا كان هناك ما يمكن الإشارة إليه بشأن التقييم، فهو أن اتضاح الرؤية جاء بعد فوات الأوان، فلم تكن الرؤية واضحة لدينا بما فيه الكفاية في حينه، عن الجدل الداخلي الذي لا بد أنه قد جرى في إيران قبل إعلان قبول القرار. وأظن أن نتائج ذلك النقاش لم تكن قابلة للتأكد منها في ذلك الحين، وستجدون في المقتطفات المختصرة الملحقة بالتقييم المرفق معلومات مفيدة جدًا لفهم مراحل تطور تحليلاتنا.
وهناك واقعة معينة حيرتنا أكثر من غيرها، وهي اللامبالاة التي قابل بها الإيرانيون إسقاط طائرتهم. لقد كانت توقعات محللينا المدونة تؤكد أن الحادث سيدفع إيران إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددًا ضد الولايات المتحدة، وإلى تصعيد الحرب نفسها. ولكن على غير المتوقع، يبدو أن الحادث اعتبر بسيطًا أو هامشيًا إلى حد ما، من وجهة نظر الإيرانيين.

رفسنجاني هو من أقنع الخميني بوقف الحرب
على النقيض من الدراسات الأكاديمية التي تتألف من ثلاثة أجزاء، تبدأ بالمقدمة ثم التفاصيل وتنتهي بالخاتمة، فإن التقارير الاستخبارية تنحو منحى مختلفًا من حيث الترتيب، حيث تراعي ضيق الوقت وكثرة المهام لدى صناع القرار، فتبدأ بالخلاصة أو بالنقاط الجوهرية التي توصل إليها المحلل أو المحللون، ثم تدخل في شرح كيفية الوصول إلى تلك النتائج. فإذا تمكن صانع القرار من قراءة الورقة كاملة، فهو شيء جيد، وإن اكتفى بقراءة السطور الأولى منها، فيكون جوهر الموضوع قد وصل إليه، لأنه مدون في تلك السطور التي لا يجب إهدارها بمقدمات أو شروح يفضل ألا تتصدر الأوراق المقدمة لكبار مسؤولي الدولة.
ولم تخرج ورقة التقييم الخاصة بتقارير الحرب العراقية الإيرانية عن هذه القاعدة، إذ إن دائرة المعلومات تولت إعدادها بهدف تحديد مكامن الخطأ، والكشف عن الدروس المستفادة من الإخفاق المفترض، ولهذا فقد بدأ التقييم بإيراد النتائج في نقاط جوهرية، على رأسها استدراك الوكالة أن المزيد من الاهتمام كان يجب أن يولى لدور هاشمي رفسنجاني الذي رجحت أنه كان راغبًا وقادرًا على تغيير موقف آية الله الخميني، وهو من تولى إقناعه بتجرع السم.

مجال الدراسة
كما استعرضت الوثيقة تقييمًا للإعلام، والمواد المتعلقة بإيران والعراق في النشرة الاستخبارية اليومية، والأبحاث والمذكرات والنقاط المكتوبة التي كانت بمثابة أساس لإحاطات شفوية. واستعرضت المذكرات والمراسلات المتبادلة بين الوكالات المختلفة خلال الفترة من 1 يناير (كانون الثاني) 1988 إلى 20 يوليو 1988. وركزت على إيجاد إجابات للأسئلة التالية:
ما المواضيع التحليلية الرئيسية والاستنتاجات التي ثبت صحتها؟ وهل تم عرضها بفاعلية واستمرارية؟
هل كانت الاستنتاجات بصورة عامة صحيحة في تفسيرها للأحداث والتقييمات والتحليلات؟
كيف تم تطوير توقعاتنا للتطورات المستقبلية، على وجه التحديد قرار إيران قبول وقف إطلاق النار؟
هل قدم المحللون العاملون في الملف العراقي الإيراني تغطية كافية خلال الفترة المشمولة بالتقرير؟

إخفاق التوقعات
«غني عن القول إننا لم نتوقع أن الحكومة الإيرانية ستغير (موقفها الراسخ) لمدة ثماني سنوات، وتقبل بوقف غير مشروط لإطلاق النار»، هكذا قيمت الوكالة أداءها الاستخباراتي في حرب الخليج الأولى.
ولكنها عادت لتبرر: «الطريق الوحيد الذي كنا سنعلم من خلاله بالتغيير الجذري في موقف إيران قبل إعلانه هو عن طريق مصدر لنا داخل دائرة الحكم الضيقة في طهران، وحتى هذا المصدر قد يكون قادرًا على إبلاغنا قبل أيام معدودة فقط من إعلان القرار».
ما أبداه محللونا في التحليلات المتعلقة بسير الحرب هو مدى التأرجح على الجانب الإيراني من وضع مريح إلى وضع يمكن تحمله، وفي الأخير وضع صعب مع حلول منتصف العام، ثم سرعان ما تحول إلى صعب جدًا إلى درجة لا تطاق في يوليو.

جيش إيراني متقهقر
ونوه التقرير إلى أن المحللين كانوا قد لاحظوا كذلك على الجيش الإيراني أن الروح المعنوية لجنوده قد أصبحت منخفضة، والاحتكاكات بين أفراده أصبحت كثيرة، فضلاً عن النقص الخطير في المعدات واللوازم، وصعوبة في التجنيد، وضعف في التدريب والقيادة. وفي المقابل، يختلف الأمر على الجانب العراقي، فهذه العوامل السلبية يقابلها تزايد روح العمل الجماعي بين أفراد القوات العراقية، وتم بذل جهد مفيد في التركيز على توظيف الحرب الكيماوية من قبل العراقيين، وتأثيرها على سير الصراع. وتجمع كل الاستنتاجات على أن جهود إيران غير مجدية لإجبار الولايات المتحدة وحلفائها من دول الخليج، على حد سواء، من خلال الوسائل الدبلوماسية والعسكرية.

الاستنتاجات الرئيسية
* غالبية المحللين ظلوا طوال الشهور السابقة لوقف إطلاق النار على قناعة بأنه لا شيء يمكن أن يجبر خميني إيران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات سوى تهديد وجودي لنظامه.

* في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) من عام 1988 بدأت تظهر أقلية من المحللين لها وجهة نظر مخالفة مفادها أن طهران أصبحت مستعدة لإجراء محادثات.

* رأي الغالبية هو ما تم إدراجه في التقديرات الاستخباراتية العديدة، في النشرة الاستخبارية اليومية وفي الملف اليومي الخاص بالرئيس، وكذلك في جميع الأوراق البحثية والدراسات الأكثر تفصيلاً.

* كانت وجهتا النظر المتنافستان تعكسان اختلافًا في فهم المحللين للمناقشات التي كان تجري بين القيادات الإيرانية طوال هذه الفترة.

* ابتداء من أبريل (نيسان) بدأ المحللون إجراء نقاشات بشأن إمكانية التغيير في التفكير الإيراني بشأن وقف الحرب.

* أجمع الفريقان المتنافسان في وجهتي النظر، على صعوبة، وربما استحالة، التنبؤ بمتى يُمكِن إقناع آية الله الخميني بـ«تجرع السم»، حسب وصفه هو نفسه لمشاعره من وقف الحرب.

* كان يجب تولية المزيد من الاهتمام لدور رفسنجاني، الذي من المرجح أنه كان راغبًا وقادرًا على تغيير موقف آية الله الخميني، وكان من تولى إقناعه على تجرع السم.

* طوال الفترة ما بين 1 يناير (كانون الثاني) و20 يوليو (تموز) 1988، لم يتوقع غالبية المحللين مطلقًا أن تقبل الحكومة الإيرانية بوقف إطلاق نار غير مشروط.

* تحليلات الوثيقة كشفت ظهورًا تدريجيًا للنكسات العسكرية، والمشكلات الاقتصادية، والفشل الدبلوماسي في طهران، بحلول يوليو، مما وضع الخميني تحت ضغط كبير وحد من خياراته بشكل كبير.

* جرى توثيق حقيقة أن إيران بدأت بالتقهقر في حربها مع العراق.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!