في مدينة جدة تسري حركة فنية شابة ونشطة ومتحمسة، تمتد على مدار العام عبر الصالات الفنية المعروفة والناشئة وتحتضن معارض لفنانين معروفين وصاعدين، ولكن عروس البحر الأحمر، كما يحلو لأهل المدينة تسميتها، تنتعش بفرحة ورشاقة خلال شهر فبراير (شباط) مع انطلاق عدد من الفعاليات الفنية التي تمتد على أنحاء المدينة، وتصل لذروتها في المعرض الرئيسي «21.39» والذي يقيمه المجلس الفني السعودي ويحمل عنوان «سفر» لهذا العام، ويزامنه معرض جماعي ضخم بعنوان «تدفق».
لا بد من الإشارة للوجود الكثيف للجمهور في افتتاح المعرضين الأسبوع الماضي. في «سفر» تزاحم الجمهور لدخول المعرض، وبدا من الزحام على الأبواب أن هناك أعدادا غفيرة بالداخل، وهكذا شققت طريقي بصعوبة لدخول المعرض ولأحاول معاينة الأعمال الفنية المعروضة قدر الإمكان خاصة مع تعذر الوقوف لفترة طويلة أمام كل عمل بسبب الزحام. اللافت هو عدد الحضور من الشباب، والاهتمام الذي لاقته الأعمال المقدمة والالتفاف حول الفنانين المشاركين للحديث معهم حول أفكارهم وأعمالهم المعروضة.
مبدئيا تنوعت الأعمال المقدمة في الوسائل المستخدمة من التصوير إلى النحت إلى الفيديو آرت إلى الغرافيتي. ويشارك في المعرض الذي قام على تنسيقه سام بردويل وتيل فيلراث 17 فنانا وفنانة.
فكرة المعرض وعنوانه «سفر» متعددة المستويات، فهي تعتمد على عملية التعرّف حيث يعكس المعرض ما يكتشفه المسافر من أشياء ومعلومات فضلا عن تعرفه إلى الآخرين واكتشاف الأماكن المهجورة والمعالم المعروفة. وفي هذا الإطار امتد المعرض بفعاليات مختلفة في أربع مناطق في مدينة جدة حيث سيستضيف كل مكان تركيبات مخصصة تتلاءم مع الروايات التاريخية والمعاصرة التي يحكيها كل مكان من هذه الأمكنة.
في الجزء الأول والذي يقام عادة في مجمع تجاري حديث «غولد مور مول» قدمت أعمال الفنانين الـ17، أما الجزء الثاني فيقام في وسط المدينة التاريخي ويعبر عن مفهوم المنزل، ولهذا الغرض استغل المعرض مبنى تاريخيا يعود للقرن التاسع عشر وهو بيت الخنجي الذي كان لفترة طويلة منزلا (رباط) للسيدات المطلقات والوحيدات. الجزء الرابع يتناول التطور الحديث للمدينة وتحديدا مدينة الملك عبد الله الاقتصادية عبر 8 من أعمال الفيديو لفنانين عالميين.
وعودة لـ«سفر» لا بد من التنويه بأعمال فنية متميزة جذبت الأبصار وأطلقت الحديث بين الجمهور حول المعاني التي تتناولها. من تلك الأعمال عمل ضخم للفنان السعودي ناصر السالم الذي يتألق في هذا المعرض عبر ترجمته لجملة «يتباهون في البنيان» باستخدام الأعمدة الخرسانية الخالية من الألوان، لا بد من القول إن وجود تلك الأعمدة الطويلة داخل المعرض جذبت أبصار الكثيرين والتف حولها زوار المعرض لمحاولة فهم ما تعنيه. يلفت النظر أيضا وجود مرآة عاكسة معلقة في السقف فوق الأعمدة، ومن خلالها يمكن قراءة الجملة «يتباهون في البنيان» مكونة من الأعمدة، الفكرة جريئة ومبدعة في وقت واحد وتعكس مهارة الفنان في تغيير مفهوم استخدام الخط العربي في التعبير الفني. يقف ناصر السالم بجانب عمله وأنتهز الفرصة لسؤاله حوله. ببساطته المحببة يجيبني مشيرا إلى أن العمل القائم أمامنا يختلف عن عمل سابق له يحمل اسم «يتعالون في البنيان» والذي كان يختلف في الحجم بشكل كبير، حيث كان يمكن للمتفرج رؤية العمل من عدة جهات ويمكنه أيضا قراءة الجملة بسهولة أكبر. يشير إلى أن العمل يعبر عن المعمار بالخط، و«فكرة التعبير عن الهوية المعمارية المرتبطة بهوية الإنسان، العمل يمثل حوارا بين العمارة والخط معطيا الصدارة للخط»، وهو ما يمكن ملاحظته من تجريد العمدان الخرسانية من اللون والزخرف، فهي مجردة تماما، وتترك لحروف الجملة الحرية في تكوينها وتحديد هويتها.
من الأعمال اللافتة أيضا عمل للفنان الشاب أحمد عنقاوي، والذي يعتمد فيه على مهارات الفن الإسلامي والتكرار في الأشكال الهندسية المعلقة أمامنا في تركيب فني بديع. آلاف القطع الخشبية الهندسية التقليدية التي استوحاها الفنان من شكل خلية النحل، تتماوج وتغير أشكالها بفعل حركة الهواء الذي تثيره حركة الزوار. وحسب بيان المعرض فإن عمل أحمد عنقاوي يتطرق لمواجهة ما بين التكرار التقليدي في المنحوتات الهندسية الإسلامية وطبيعة مكان المعرض الصناعية القاسية. من خلال وضع القطع الخشبية في مكان فارغ واعتمادا على تغييرات في الحركة والضوء تبرز أنماطا متناغمة تشكل الحوار بين الفوضى والنظام وبين الماضي والحاضر.
من جانبها تستمر الفنانة دانا عورتاني في استكشاف الأشكال الإسلامية الهندسية، فتقدم عملا مزدوجا بين الفيديو والتكوين. تقول الفنانة في شرح عملها: في العمل «أغطي أرض مساحة العرض برسومات نمطية باستخدام الرمال الملونة مما يذكرنا بالبلاط الإسلامي التقليدي، أما الرمال فهي محلية صبغتها بنفسي باستخدام أصباغ طبيعية». تقوم الفنانة في الفيديو بتدمير النمط الذي صنعته قبل المعرض في بيت مهجور في أحد أحياء جدة القديمة. وتشير إلى أن هدفها من وضع الأشكال الملونة إلى جانب مقطع الفيديو للتعليق بشكل رمزي على تدمير الهوية الثقافية والتراث حاليا.
يشار إلى أن مبادرة فنّ جدة «21.39» تعد مبادرة غير ربحية أطلقها المجلس الفني السعودي، وتستوحي اسمها من الإحداثيات الجغرافية لمدينة جدة (21.5433° شمالا، 39.1728° شرقًا) وتسعى لترسيخ الظاهرة الفنية التي بقيت لعقود ترى مدينة جدة في طليعة المدن التي تتصدّر المشهد الفني المعاصر في المملكة العربية السعودية.
وقد أسس المجلس الفني السعودي عام 2014 برئاسة الأميرة جواهر بنت ماجد. وهو منظمة غير ربحية تسعى لتعزيز الفن والثقافة بالمملكة العربية السعودية، ودعم الإبداع على الصعيد المحلي وعلى الصعيد الوطني، ويتألف المجلس من مجموعة من محبي الفن المحليين الذين يرغبون في المساهمة في المجتمع من خلال تعزيز الفن والثقافة.
«سفر» و«تدفق» يملآن «عروس البحر الأحمر» بالإبداع والجمال
جدة تطلق معرضها السنوي للفنون «21.39»
«سفر» و«تدفق» يملآن «عروس البحر الأحمر» بالإبداع والجمال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة