البحث في سجن {أبو سليم} عن الأب الفقيد

الروائي الليبي هشام مطر مترجمًا إلى الفرنسية عن الإنجليزية

هشام مطر  -  سجن أبو سليم حيث اختفى أبو الروائي
هشام مطر - سجن أبو سليم حيث اختفى أبو الروائي
TT

البحث في سجن {أبو سليم} عن الأب الفقيد

هشام مطر  -  سجن أبو سليم حيث اختفى أبو الروائي
هشام مطر - سجن أبو سليم حيث اختفى أبو الروائي

هشام مطر، اسم غير متداول في البلاد العربية رغم شيوع صيته في العالم الغربي، وحصول أعماله (بلد الرجال، وتشريح اختفاء، وعودة) جوائز عدة، وتكريم في أكثر من محفل أدبي وأكاديمي، وترجمة أعماله، التي كتبت بالإنجليزية، لأكثر من لغة، منها العربية. روايته الأخيرة تمت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية تحت عنوان «الأرض التي تفصل بينهم»، ونالت جائزة أفضل رواية أجنبية. تدور أعمال الكاتب مجتمعة حول ليبيا بلده الأم، بفواجعها، وإخفاقاتها، ومخاوفها، ومكامن الرعب فيها، وبوضعها السياسي الذي انعكس بشكل مباشر على الحياة الاجتماعية والسلم الأهلي، وعلى حياة عائلته بشكل كبير.
هذا الكاتب الذي نشأ في عائلة غنية نسبيًا يعبر عنها في وصفه للمنزل في القاهرة، وأمه التي كانت تقوم بتحضير وجبات فاخرة لعشرات الأشخاص الذين كانوا يقصدون المنزل باستمرار للاجتماع بوالده جاب الله مطر، كونه كان ضابطا في الجيش الليبي، ثم دبلوماسيا في نيويورك، حيث ولد الكاتب، ثم انقلب على معمر القذافي ليترأس المعارضة المسلحة في تشاد، ويستقر في القاهرة حيث تم اختطافه.
تدور أحداث هذه الرواية حول قصة الكاتب الذاتية، قصة صبي فقد والده مبكرا بعد اختطافه من قبل المخابرات الليبية بالتواطؤ مع المخابرات المصرية. صبي كتم في أعماقه مأساة فراق أب كان هاويًا للشعر، ويحفظ منه الكثير، ولا يني أن يردد على مسمع الصبي قصيدة بدر شاكر السياب: مطر. وربما توافق الاسمين جذب انتباه الصبي لها أكثر من قصيدة أخرى. وربما شغف الوالد بالشعر جعل هشام اليافع يجرب نظم القوافي، والتي بقيت طور التجربة ولم تتعدها، لكن هذا المهندس المعماري المتخرج من جامعة لندنية، اكتشف في ذاته موهبة الكتابة، وبقيت رغبته الشعرية في حالة انتظار، وكذا مهنة الهندسة التي اكتشف منها تأثير المكان والفضاء على سلوك الفرد، بأصواته، وحركاته، وتصرفاته التي تختلف من مبنى إلى آخر، هي بدورها بقيت في حالة انتظار مؤقت كما يقول المثل الفرنسي: «المؤقت فقط هو الذي يدوم»، كرغبته الجامحة في أن يصبح قائد أوركسترا، والتي أيضا بقيت ضمن ملفات الأماني في ذاكرة الانتظار. كل هذه الأماني تلاشت أمام الكتابة النابعة من الجرح الذي لم يندمل من فقدان الوالد في زنازين القذافي، وربما قتل في مجزرة سجن أبو سليم الرهيب. لم تكن الكلمة سهلة، فالإبداع صعب المنال، لكن هشام مطر المهندس والموسيقي (عازف غيتار) عرف كيف يوظف مهنة البناء في رفع أعمدة وجدران رواياته، ويهندس فضاءات مختلفة، ومتمايزة، ينتقل بالقارئ من موضع إلى آخر، من عاصمة إلى عاصمة، كما ينتقل من فضاء معماري إلى فضاء معماري آخر، مع إيقاع حزين، مع كل نقلة. فالحزن هو سمة مستمرة عبر البحث عن الأب المفقود، الذي لازمه ولا يزال، إذ يقول: «لقد تعلمت العيش من دون بلدي، ولكن لم أتعلم من دون أبي». كأن قوس كمان بوكريني يحز فوق الأوتار نغمة تنز ألمًا لا تنتهي.
تفكير دائم بالحالة التي عاش فيها في سجن أبو سليم، الذي غص بالمعارضين ضد القذافي، والذي يذكّر بسجن تدمر الأكثر رهبة، والذي امتلأ بالمعارضين ضد حافظ الأسد (ولصدف التاريخ أن السجنين شهدا مجزرتين رهيبتين، في نفس اليوم 29-6-1980 في تدمر، و29-6-1996 في سجن أبو سليم، وعدد القتلى متشابه 1270 قتيلا).
العائلة في القاهرة في حالة ترقب لكل خبر، لكل حركة، تأتي من الداخل الليبي، حيث الداخل مفقود والخارج موجود. يعود بالذاكرة إلى تلك الأوقات التي عاشها مع والده، يتذكر كلامه، مشاهداته لمباريات كرة القدم، لإلقائه الشعر، لكرمه للأصدقاء الذين تخلوا عنه مع أول منعطف. أيامه في نيويورك، ولندن، وباريس، وجنيف، والقاهرة، وهو في حالة انتظار لخبر سعيد، لرسالة تقول إنه حي، حتى ولو كان وراء القضبان، فقبل عام 1996 أرسلت رسالة سرية سربت من وراء القضبان إلى القاهرة، لكن بعد المجزرة توقفت الرسائل. المهم أن يصل خبر سعيد أم مفجع، المهم أن يضع حدا لحالة الانتظار، ملك الاحتضار. سنون أعقبتها سنون، والصبي المراهق، ثم الشاب اليافع، ثم الرجل الكاتب، ما زال البحث عن الحقيقة جاريًا، مع العم محمود الذي سجن مع أخيه جاب الله، وأفرج عنه في بداية الثورة، محمود العاشق للشعر أيضا كان يكتب أشعاره ومذكراته على غطاء مخدته التي هربها معه، لوحة تحمل كل معاني القهر، والحقد، وابنه عزو الذي التحق بالثوار واستشهد وهو يبحث عن عمه جاب الله في منزل القذافي في العزيزية، وأخوه حمد الذي أصيب بطلق ناري أيضًا من قناصة، وبعد علاجه رفض العودة إلى المنزل، والتحق بالثورة السورية إذ قال لأبيه المتوسل إليه بالعودة إلى المنزل: «يجب القضاء على كل هؤلاء الطغاة»، وبعد إصابته مرة أخرى في سوريا، عاد مضطرا إلى ليبيا بعد أن عولج في إسطنبول.
هذه الثورة التي انطلقت في بنغازي واقتحم الثوار فيها سجن أبو سليم، كانت بالنسبة لهشام انطلاقة الخلاص وجلاء الحقيقة التي لم يصل إليها، رغم تدخل سيف الإسلام القذافي في مرحلة ما من البحث دون جدوى. وكان لا بد من البحث مجددا، فعاد مع زوجته ديانا الأميركية إلى مسقط رأس والده أجدابيا، ولم يجرؤ على أن يمر بالسجن ورؤية زنزانة أبيه وكيف عاش فيها سنوات، قبل قتله في المجزرة (ربما). هذا السجن الذي لا يشبهه سجن آخر، حيث توضع مكبرات الصوت على مدار الساعة في الزنازين، تبث خطابات القذافي بصوت مرتفع تجعل المساجين يصلون إلى مرحلة الجنون. يقول العم محمود: «عندما أفرج عنا من قبل سيف الإسلام، طلب منا أن نوقع على رسالة اعتذار للزعيم القائد على معارضتنا له، فرفضنا».
يعود هشام للتنقيب عن كل من شاهد والده داخل السجن، أو عرف عنه شيئا، ربما ما زال حيا في مكان ما، منسيا بعد انطلاقة الثورة. لكن لا شيء يقطع الشك باليقين. في غرفة عزو الشهيد المليئة بصوره، ينام هشام في قيلولة قصيرة في بيت ابن عمه، حيث يحلم حلما قصيرا وكأنه عزو الشهيد، ثم يستيقظ ويدخل مطبخ زينب زوجة عمه التي كانت تحضر عجينة الوجبة، التي تنتهي فيها الرواية على المجهول المفتوح، على مصير جاب الله مطر، الذي خرج من سجن أبو سليم ولم يعد.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.