جدل العلاقة بين الحالة الفكرية و«الصحوة» الأصولية

قراءة من تجارب الماضي والحاضر

عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

جدل العلاقة بين الحالة الفكرية و«الصحوة» الأصولية

عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)

يظل ضروريًا في اللحظة الإقليمية والعالمية الراهنة، التي لا تبرز إلا التطرف وسخونة وحسم التشدد شرقا وغربا، دور المثقف الإنساني والمعرفي كمصدر للمعنى والقيم. يظل ضروريا ينبغي العودة إليه، دورا ورسالة بشكل كبير، ليس فقط لتنوير العالم ولا لتغييره بل للمحافظة على بقاء قيمه الإنسانية ومواجهة الأصوليات الصاعدة الجديدة بعد فشل الآيديولوجيات. رغم كثرة المؤسسات والمنابر الصانعة للوعي والمعلومة، تعاني الحالة الفكرية العربية، بتشكلاتها المختلفة، الأكاديمية والإبداعية والنظرية، حالة من السيولة والتشظي لا يخفيها ضعف الاتصال والتفاعل والتأثير العام، أو ينبه إليها غياب استراتيجيات السياسات الثقافية الناظمة والمنظمة لها.
كان ولا يزال إلحاح البعض، من آن لآخر، على ضرورة إنتاج مشروع فكري عربي وإسلامي، لمواجهة أفكار التطرف وحركاته، ضروريا وشرعيا إلى حد كبير، من أجل ضبط السيولة ومواجهة التحديات ونظم لحن للخروج من الأزمات العالقة والمستمرة.
وتزداد شرعية هذا الطرح في واقعنا الراهن، خاصة أمام تحدي «الصحوة» الأصولية، عند استكشاف العلاقة بين الحالة الثقافية ودور المثقف من جهة، وانتشار أفكار التطرف من جهة أخرى.
وهنا يمكن تحديد أربع قواعد تضبط هذه العلاقة بين حالة الوعي العام أو وجود مشروع فكري من عدمه، وبين صعود أو تراجع أفكار التطرف، هي كما يلي:
أولا: متى تتراجع الأصوليات؟
ثبت تراجع الحركات الأصولية والمتطرفة في فترات صعود مشاريع قوية بديلة، سواء في ذلك مشروع النهضة والإصلاح في نهايات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، فقد تراجعت القوى التقليدية والماضوية بدرجة كبيرة أمام جهود مدرسة الإصلاحية الإسلامية التي مثلها السيد جمال الدين الأفغاني (توفي سنة 1897 ميلادية) والإمام محمد عبده (توفي سنة 1905 ميلادية) وعبد الرحمن الكواكبي (توفي سنة 1902) وغيرهم وهي مدرسة واسعة، كما ضمت في صفوفها اتجاهات متعددة ومختلفة، ضمت «عقلانيين» و«حريين» أمثال أديب إسحاق، و«داروينيين» كالدكتور شبلي الشميّل، كما ضمت أمثال الليبرالي لطفي السيد وولي الدين يكن وعلي الغاياتي ومصطفى وعلي عبد الرازق وقاسم أمين... كما ضمت رفيق العظم وأحمد حافظ عوض، ولم يكن السيد محمد رشيد رضا وريثها الوحيد أو الأبرز خاصة في مرحلة تحوله - بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 - داعية وممهدا لتنظيمات استعادة هذه الخلافة، رغم أنه كان ينتقدها قبل ذلك، ويسفه أستاذه الإمام محمد عبده رحمهما الله.
ولقد تعرض محمد عبده لمحاولات اغتيال وتصفية أحيانا، وهوجم أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي ألف أحد التقليديين من الأزهر رسالة ضده بعنوان «تحذير الأمم من كلب العجم» وحمل عليه الحملات كلها معاصره ومجايله المقرب من العثمانيين أبو الهدى الصيادي حينها، كذلك تعرض الكواكبي وعلي عبد الرازق وغيرهما لمثل ذلك، ولكن على الرغم من ذلك برزت أفكار هؤلاء بل ما دعوا له من أفكار حداثية، كحقوق المرأة والدستورية والمواطنة، والاستقلال عن الترك، ومؤسسات تحديثية كالبرلمان والجامعة والصحافة وتنشيط الترجمة وإعادة اكتشاف التراث وإحياء تاريخيته. (كان محمد عبده أول من أوصى ودعا لنشر مقدمة ابن خلدون الشهيرة في الأزهر، كما دعا وشجع على إحياء كثير من كتب التراث المهملة خلف المتون، وأشرف بنفسه على إصدار بعضها). بل وتمكنوا من أمثال الشيخ عليش وبعده محمد شاكر وغيرهما من التقليديين عن سدة المشهد بشكل واضح حينها.
وهكذا، لم تكن فقط لحظة الأنوار الغربية التي استطاعت أن تخرج أوروبا من العصور الوسطى للتاريخ الحديث وعصور الحداثة. بل على طريقتها وطريقها، استلهمت وأسست جهود الاستنارة العربية - كما كانت تسمى قبل ستينات القرن الماضي - في مصر وسائر الحواضر العربية، آثارا مهمة في مختلف المجالات، وهدمت كثيرًا من العوائق الثقافية والتقليدية في الوعي والفكر الاجتماعي والثقافي.
ثانيا: أهمية السياسات الثقافية البديلة.
تراجعت الأصولية، أفكارا ومشروعا وتنظيمات، حين وجد مشروع بديل، يمتلك سياسات ثقافية تمكن لمقولاته. وهو ما حدث في لحظات معينة كالبورقيبية في تونس، وعلى نقيضها حدث كذلك مع أطروحات الناصرية في مصر، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، في الخمسينات أو الستينات من القرن الماضي.
وليس مهما أن نذكّر بانحسار جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عهد عبد الناصر الذي لم يتردد في إصدار قرار بإعدام سيد قطب سنة 1966 ميلادية رغم رجاءات كثير من الدول والنخب في المنطقة. ولم يتأثر نظامه بهذا القرار ولا شرعيته داخليا رغم ذلك، وهو ما قد يصح تفسيره بوجود مشروع شامل. وهذا المشروع وإن اختلفنا معه علينا أن نقر بأنه أجاد توظيف وسائطه الفكرية والإعلامية والفنية - من أم كلثوم إلى عبد الحليم حافظ إلى صلاح جاهين وغيرهم كثيرون - ووضع سياسة ثقافية سطرها وزيره المثقف الراحل الدكتور ثروت عكاشة في كتاب أصدره في ستينات القرن الماضي بعنوان «السياسة الثقافية في مصر» وظف فيه فنونا كالمسرح والسينما. وكذلك أنشأ هيئات كالثقافة الجماهيرية وقصور الثقافة ونشط فيه مجال النشر الرسمي المعبر، وأنشأ إعلاما مرئيا ومسموعا استطاع أن يكون خادما جيدا لهذا المشروع كذلك.
إن هذا الاهتمام والوعي بأهمية السياسات الثقافية وأهمية الطرح النخبوي للجماهير توعية وحشدا ضد المقولات الانغلاقية، أو بديلا عنها، يملآن الأبنية المعنوية لها، ولا يجعلها مباحة ومستباحة لمقولات التطرف وتصوراته.
ثالثا: تمدد الأصوليات وسط السيولة والأزمات
إن الأصولية والتطرف، العنيف بالخصوص، المؤمن والمعتقد في تصورات الصراع والنفي والصدام بالمختلف، مشروع يتمدد في حالات السيولة والفراغ بغياب مشاريع موازية عقلانية وإصلاحية تقيد من انطلاقته وتكشف زيف ولا تاريخية مقولاته... مشاريع تطلقها النخب وتتمدد وسط القواعد والجماهير كذلك، وتتفاعل معها. ثم إن أزمات المشاريع البديلة تجعل الأصوليات تطرح نفسها حلا شعاراتيا وكليا بديلا لها ينغرس عاطفيا في رحم «الهوية» الدينية والثقافية وينطلق خيالا أسطوريا طموحا نحو أستاذية العالم والهيمنة عليه، ضدا على قوانين التاريخ زمانا ومكانا.
قاعدة أخرى، تؤكدها لنا السنوات القليلة الماضية، هي أن الأصوليات تنتج أصوليات مضادة، فينتج الإرهاب «الإسلاموفوبيا»، وينتج الآخر المتشدد يمينا متشددا. ووفق هذه القاعدة أنتجت النصرة الإيرانية، في لونها وسلوكها الطائفي المناصر لنظام بشار الأسد في سوريا، وميليشياتها الراديكالية التابعة والموالية لها وللولي الفقيه الحاكم في إيران، جماعات ونصرات مضادة كجبهة النصرة التي انقسمت فيما بعد للنصرة و«داعش» و«خلافته» المزعومة... وهكذا جرت عسكرة ثورة كانت أكثر ثورات العرب رشدا ولا عنفية حين انطلقت من براءة أطفال درعا في مارس (آذار) 2011 ولم تتهور للمطالبة بإسقاط النظام قولا واحدا، بل دعت لحواره وإصلاحه الذي يظل يتعالى على الاستجابة له مركزا على القمع والانتهاك اغتصابا لبراءتها.
ثم إن الأصوليات - بطابعها الاحتجاجي أيضا - تصعد وتنمو مع الأزمات والإكراهات الاقتصادية والاجتماعية وتعثر التنمية وتوظف هذه المسائل في معارضها للأنظمة، وطرحا لنفسها بديلا ونقيضا يكفر بالأنظمة ويحاربها.
رابعا: قدرة التنظيمات على توظيف التواصليات:
تبدو المواقع التواصلية تكريسا لفردية مفرطة في الفضاء العام، وتنتج قراءات ومعرفة عشوائية غير منظمة في الغالب، إلا لمن ضبطها لأغراض ومتابعات معينة، إخبارية أو متخصصة دون سواها، لكنها في العموم كذلك، وكانت هذه الفردية أحد حوامل الشعبوية والفكر اليميني المتشدد الصاعد في الغرب، كما أنها خانت سريعا الوعد بها والذي حملته وبشرت به في الانتفاضات العربية سنة 2011، حين كان لـ«تويتر» و«فيسبوك» بالخصوص دور مهم في فعالياتها ودعواتها المدنية، لكن سريعا ما قفزت عليهما التنظيمات الأصولية ورموزها وصارت هي المسيطرة على هذا العالم ما بعد الحديث دون القوى الحديثة غير المنظمة.
بينما تمتلك الأصوليات وجماعات التطرف العنيف شعارات مشحونة وصلبة وجذابة دائما، كما تملك إصرار عناصرها وتنظيماتها على نشر أفكارها وتبرير ممارساتها الخارجة والبشعة، في ظل الهجمات المضادة لها. وكان أيمن الظواهري يفاخر في كتابه «التبرئة» بأن «القاعدة» نجحت قبل عام 2011 في السيطرة على الإنترنت، عكس ما توقع من الأخيرة، وكانت «القاعدة» تمتلك حتى عام 2005 ما يقرب من خمسة آلاف موقع ومدونة.
من هنا، ظل تأثير استخدام التنظيمات الأصولية والآيديولوجية للمواقع التواصلية أكبر بكثير عن تأثير معارضيهم وخصومهم من التيارات المعتدلة والمدنية بشكل واضح؛ إذ استخدمتها «القاعدة» واستخدمها «داعش» - وأخواتهما من جماعات التطرف - منبرا دائما لنشر أفكارها وتأكيد حضورها، ومساحات دائمة للتوسع والتجنيد والتمدد والاتصال بشكل واضح، وجاءت الصحوة ضد نشاط هذه التنظيمات متأخرة قليلا خلال العام الماضي.
وحسبنا أن نذكر أن معدل عمر المقاتلين الأجانب في «داعش» - الذين تم تجنيدهم عبر المواقع التواصلية، عامي 2014 و2015 كان في المتوسط 24 سنة فقط، وجندوا عبر مواقع كـ«فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» وغيرها. وكانت حسابات التنظيم خلال فترة صحوته بعد سيطرته على الموصل ثم إعلان «خلافته» المزعومة عام 2014 تصدر بخمس لغات، في وقت واحد، ويجري تداولها عبر آلاف الحسابات الحقيقية والوهمية.
هذا بينما تبدو خطوط المواجهة والمكافحة للفكر المتطرف في الفضاء الإلكتروني أو غيره مشتتة، تبحث عن نظم مستمر مفقود بين كثير من مؤسساتها، ولا تتراكم خبراتها، بشكل واضح، وتبحث عن استراتيجيات ومواثيق فاعلة لتجديد الخطاب أو الوعي الديني، أو تحديد الفكر العربي والإسلامي بعموم، وتبدو صورة الجزر المنعزلة الكثيرة والمنفصلة حتى في أوساط النخبة المفكرة هي المسيطرة على المشهد بشكل كبير.
ومن الدقة استحضار أن المواقع التواصلية ليست تواصلية أو اتصالية تماما، بل هي تكرر أو تؤكد وسائط الواقع القائمة، وأحيانا تضعفها بل تبقى غايتها الأخيرة هي ترجمتها في العالم الحقيقي ليس أكثر، وكثير منها لا يغادر عالمه الافتراضي وجمهوره الذي لا يتفاعل معها دائما، وإن تفاعل يتفاعل معها بشكل مؤقت غير منظوم وغير مؤمن ملتزم بأطروحاتها.
ختاما، من الضروري مراجعة حالة الوعي العام، وعمليات صناعة الأفكار وتاريخها وإعادة الاعتبار بالخصوص للسياسات الثقافية الضرورية في مواجهة الصحوات الأصولية، وهو ما يستدعي بشكل أساسي إعادة الاعتبار للمثقف نفسه كمركز ومصدر للأفكار والتصورات بموازاة الداعية التنظيمي المحرض، وإن بدت عودة جديدة لقضية قديمة هي العلاقة بين التجديد والتقليد، أو معركة «العمائم والطرابيش» أواخر العقد الثاني من القرن العشرين في مصر.
إن تثمين دور المثقف من جديد ضرورة، لأن ثمة عبئا ومسؤولية كبيرة وثقيلة تقع على كاهله، في هذا السياق من التشظي المعلوماتي والتشتت المعرفي، الذي تستفيد منه تنظيمات وأفكار الأصولية الصلبة، بينما تتكرس سيولة القيم والتوجهات احتجاجا واستقطابا ينكر قيمة المعرفة فضلا عن التغيير أو التطوير، ولكن يظل العبء الأكبر على المؤسسات الواعية في تدوير هذه النخب والاستثمار فيها والتشبيك الناظم فيما بينها، وتجسير الفجوات بين النخب الحقيقية والجماهير.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.