جدل العلاقة بين الحالة الفكرية و«الصحوة» الأصولية

قراءة من تجارب الماضي والحاضر

عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

جدل العلاقة بين الحالة الفكرية و«الصحوة» الأصولية

عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)

يظل ضروريًا في اللحظة الإقليمية والعالمية الراهنة، التي لا تبرز إلا التطرف وسخونة وحسم التشدد شرقا وغربا، دور المثقف الإنساني والمعرفي كمصدر للمعنى والقيم. يظل ضروريا ينبغي العودة إليه، دورا ورسالة بشكل كبير، ليس فقط لتنوير العالم ولا لتغييره بل للمحافظة على بقاء قيمه الإنسانية ومواجهة الأصوليات الصاعدة الجديدة بعد فشل الآيديولوجيات. رغم كثرة المؤسسات والمنابر الصانعة للوعي والمعلومة، تعاني الحالة الفكرية العربية، بتشكلاتها المختلفة، الأكاديمية والإبداعية والنظرية، حالة من السيولة والتشظي لا يخفيها ضعف الاتصال والتفاعل والتأثير العام، أو ينبه إليها غياب استراتيجيات السياسات الثقافية الناظمة والمنظمة لها.
كان ولا يزال إلحاح البعض، من آن لآخر، على ضرورة إنتاج مشروع فكري عربي وإسلامي، لمواجهة أفكار التطرف وحركاته، ضروريا وشرعيا إلى حد كبير، من أجل ضبط السيولة ومواجهة التحديات ونظم لحن للخروج من الأزمات العالقة والمستمرة.
وتزداد شرعية هذا الطرح في واقعنا الراهن، خاصة أمام تحدي «الصحوة» الأصولية، عند استكشاف العلاقة بين الحالة الثقافية ودور المثقف من جهة، وانتشار أفكار التطرف من جهة أخرى.
وهنا يمكن تحديد أربع قواعد تضبط هذه العلاقة بين حالة الوعي العام أو وجود مشروع فكري من عدمه، وبين صعود أو تراجع أفكار التطرف، هي كما يلي:
أولا: متى تتراجع الأصوليات؟
ثبت تراجع الحركات الأصولية والمتطرفة في فترات صعود مشاريع قوية بديلة، سواء في ذلك مشروع النهضة والإصلاح في نهايات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، فقد تراجعت القوى التقليدية والماضوية بدرجة كبيرة أمام جهود مدرسة الإصلاحية الإسلامية التي مثلها السيد جمال الدين الأفغاني (توفي سنة 1897 ميلادية) والإمام محمد عبده (توفي سنة 1905 ميلادية) وعبد الرحمن الكواكبي (توفي سنة 1902) وغيرهم وهي مدرسة واسعة، كما ضمت في صفوفها اتجاهات متعددة ومختلفة، ضمت «عقلانيين» و«حريين» أمثال أديب إسحاق، و«داروينيين» كالدكتور شبلي الشميّل، كما ضمت أمثال الليبرالي لطفي السيد وولي الدين يكن وعلي الغاياتي ومصطفى وعلي عبد الرازق وقاسم أمين... كما ضمت رفيق العظم وأحمد حافظ عوض، ولم يكن السيد محمد رشيد رضا وريثها الوحيد أو الأبرز خاصة في مرحلة تحوله - بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 - داعية وممهدا لتنظيمات استعادة هذه الخلافة، رغم أنه كان ينتقدها قبل ذلك، ويسفه أستاذه الإمام محمد عبده رحمهما الله.
ولقد تعرض محمد عبده لمحاولات اغتيال وتصفية أحيانا، وهوجم أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي ألف أحد التقليديين من الأزهر رسالة ضده بعنوان «تحذير الأمم من كلب العجم» وحمل عليه الحملات كلها معاصره ومجايله المقرب من العثمانيين أبو الهدى الصيادي حينها، كذلك تعرض الكواكبي وعلي عبد الرازق وغيرهما لمثل ذلك، ولكن على الرغم من ذلك برزت أفكار هؤلاء بل ما دعوا له من أفكار حداثية، كحقوق المرأة والدستورية والمواطنة، والاستقلال عن الترك، ومؤسسات تحديثية كالبرلمان والجامعة والصحافة وتنشيط الترجمة وإعادة اكتشاف التراث وإحياء تاريخيته. (كان محمد عبده أول من أوصى ودعا لنشر مقدمة ابن خلدون الشهيرة في الأزهر، كما دعا وشجع على إحياء كثير من كتب التراث المهملة خلف المتون، وأشرف بنفسه على إصدار بعضها). بل وتمكنوا من أمثال الشيخ عليش وبعده محمد شاكر وغيرهما من التقليديين عن سدة المشهد بشكل واضح حينها.
وهكذا، لم تكن فقط لحظة الأنوار الغربية التي استطاعت أن تخرج أوروبا من العصور الوسطى للتاريخ الحديث وعصور الحداثة. بل على طريقتها وطريقها، استلهمت وأسست جهود الاستنارة العربية - كما كانت تسمى قبل ستينات القرن الماضي - في مصر وسائر الحواضر العربية، آثارا مهمة في مختلف المجالات، وهدمت كثيرًا من العوائق الثقافية والتقليدية في الوعي والفكر الاجتماعي والثقافي.
ثانيا: أهمية السياسات الثقافية البديلة.
تراجعت الأصولية، أفكارا ومشروعا وتنظيمات، حين وجد مشروع بديل، يمتلك سياسات ثقافية تمكن لمقولاته. وهو ما حدث في لحظات معينة كالبورقيبية في تونس، وعلى نقيضها حدث كذلك مع أطروحات الناصرية في مصر، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، في الخمسينات أو الستينات من القرن الماضي.
وليس مهما أن نذكّر بانحسار جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عهد عبد الناصر الذي لم يتردد في إصدار قرار بإعدام سيد قطب سنة 1966 ميلادية رغم رجاءات كثير من الدول والنخب في المنطقة. ولم يتأثر نظامه بهذا القرار ولا شرعيته داخليا رغم ذلك، وهو ما قد يصح تفسيره بوجود مشروع شامل. وهذا المشروع وإن اختلفنا معه علينا أن نقر بأنه أجاد توظيف وسائطه الفكرية والإعلامية والفنية - من أم كلثوم إلى عبد الحليم حافظ إلى صلاح جاهين وغيرهم كثيرون - ووضع سياسة ثقافية سطرها وزيره المثقف الراحل الدكتور ثروت عكاشة في كتاب أصدره في ستينات القرن الماضي بعنوان «السياسة الثقافية في مصر» وظف فيه فنونا كالمسرح والسينما. وكذلك أنشأ هيئات كالثقافة الجماهيرية وقصور الثقافة ونشط فيه مجال النشر الرسمي المعبر، وأنشأ إعلاما مرئيا ومسموعا استطاع أن يكون خادما جيدا لهذا المشروع كذلك.
إن هذا الاهتمام والوعي بأهمية السياسات الثقافية وأهمية الطرح النخبوي للجماهير توعية وحشدا ضد المقولات الانغلاقية، أو بديلا عنها، يملآن الأبنية المعنوية لها، ولا يجعلها مباحة ومستباحة لمقولات التطرف وتصوراته.
ثالثا: تمدد الأصوليات وسط السيولة والأزمات
إن الأصولية والتطرف، العنيف بالخصوص، المؤمن والمعتقد في تصورات الصراع والنفي والصدام بالمختلف، مشروع يتمدد في حالات السيولة والفراغ بغياب مشاريع موازية عقلانية وإصلاحية تقيد من انطلاقته وتكشف زيف ولا تاريخية مقولاته... مشاريع تطلقها النخب وتتمدد وسط القواعد والجماهير كذلك، وتتفاعل معها. ثم إن أزمات المشاريع البديلة تجعل الأصوليات تطرح نفسها حلا شعاراتيا وكليا بديلا لها ينغرس عاطفيا في رحم «الهوية» الدينية والثقافية وينطلق خيالا أسطوريا طموحا نحو أستاذية العالم والهيمنة عليه، ضدا على قوانين التاريخ زمانا ومكانا.
قاعدة أخرى، تؤكدها لنا السنوات القليلة الماضية، هي أن الأصوليات تنتج أصوليات مضادة، فينتج الإرهاب «الإسلاموفوبيا»، وينتج الآخر المتشدد يمينا متشددا. ووفق هذه القاعدة أنتجت النصرة الإيرانية، في لونها وسلوكها الطائفي المناصر لنظام بشار الأسد في سوريا، وميليشياتها الراديكالية التابعة والموالية لها وللولي الفقيه الحاكم في إيران، جماعات ونصرات مضادة كجبهة النصرة التي انقسمت فيما بعد للنصرة و«داعش» و«خلافته» المزعومة... وهكذا جرت عسكرة ثورة كانت أكثر ثورات العرب رشدا ولا عنفية حين انطلقت من براءة أطفال درعا في مارس (آذار) 2011 ولم تتهور للمطالبة بإسقاط النظام قولا واحدا، بل دعت لحواره وإصلاحه الذي يظل يتعالى على الاستجابة له مركزا على القمع والانتهاك اغتصابا لبراءتها.
ثم إن الأصوليات - بطابعها الاحتجاجي أيضا - تصعد وتنمو مع الأزمات والإكراهات الاقتصادية والاجتماعية وتعثر التنمية وتوظف هذه المسائل في معارضها للأنظمة، وطرحا لنفسها بديلا ونقيضا يكفر بالأنظمة ويحاربها.
رابعا: قدرة التنظيمات على توظيف التواصليات:
تبدو المواقع التواصلية تكريسا لفردية مفرطة في الفضاء العام، وتنتج قراءات ومعرفة عشوائية غير منظمة في الغالب، إلا لمن ضبطها لأغراض ومتابعات معينة، إخبارية أو متخصصة دون سواها، لكنها في العموم كذلك، وكانت هذه الفردية أحد حوامل الشعبوية والفكر اليميني المتشدد الصاعد في الغرب، كما أنها خانت سريعا الوعد بها والذي حملته وبشرت به في الانتفاضات العربية سنة 2011، حين كان لـ«تويتر» و«فيسبوك» بالخصوص دور مهم في فعالياتها ودعواتها المدنية، لكن سريعا ما قفزت عليهما التنظيمات الأصولية ورموزها وصارت هي المسيطرة على هذا العالم ما بعد الحديث دون القوى الحديثة غير المنظمة.
بينما تمتلك الأصوليات وجماعات التطرف العنيف شعارات مشحونة وصلبة وجذابة دائما، كما تملك إصرار عناصرها وتنظيماتها على نشر أفكارها وتبرير ممارساتها الخارجة والبشعة، في ظل الهجمات المضادة لها. وكان أيمن الظواهري يفاخر في كتابه «التبرئة» بأن «القاعدة» نجحت قبل عام 2011 في السيطرة على الإنترنت، عكس ما توقع من الأخيرة، وكانت «القاعدة» تمتلك حتى عام 2005 ما يقرب من خمسة آلاف موقع ومدونة.
من هنا، ظل تأثير استخدام التنظيمات الأصولية والآيديولوجية للمواقع التواصلية أكبر بكثير عن تأثير معارضيهم وخصومهم من التيارات المعتدلة والمدنية بشكل واضح؛ إذ استخدمتها «القاعدة» واستخدمها «داعش» - وأخواتهما من جماعات التطرف - منبرا دائما لنشر أفكارها وتأكيد حضورها، ومساحات دائمة للتوسع والتجنيد والتمدد والاتصال بشكل واضح، وجاءت الصحوة ضد نشاط هذه التنظيمات متأخرة قليلا خلال العام الماضي.
وحسبنا أن نذكر أن معدل عمر المقاتلين الأجانب في «داعش» - الذين تم تجنيدهم عبر المواقع التواصلية، عامي 2014 و2015 كان في المتوسط 24 سنة فقط، وجندوا عبر مواقع كـ«فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» وغيرها. وكانت حسابات التنظيم خلال فترة صحوته بعد سيطرته على الموصل ثم إعلان «خلافته» المزعومة عام 2014 تصدر بخمس لغات، في وقت واحد، ويجري تداولها عبر آلاف الحسابات الحقيقية والوهمية.
هذا بينما تبدو خطوط المواجهة والمكافحة للفكر المتطرف في الفضاء الإلكتروني أو غيره مشتتة، تبحث عن نظم مستمر مفقود بين كثير من مؤسساتها، ولا تتراكم خبراتها، بشكل واضح، وتبحث عن استراتيجيات ومواثيق فاعلة لتجديد الخطاب أو الوعي الديني، أو تحديد الفكر العربي والإسلامي بعموم، وتبدو صورة الجزر المنعزلة الكثيرة والمنفصلة حتى في أوساط النخبة المفكرة هي المسيطرة على المشهد بشكل كبير.
ومن الدقة استحضار أن المواقع التواصلية ليست تواصلية أو اتصالية تماما، بل هي تكرر أو تؤكد وسائط الواقع القائمة، وأحيانا تضعفها بل تبقى غايتها الأخيرة هي ترجمتها في العالم الحقيقي ليس أكثر، وكثير منها لا يغادر عالمه الافتراضي وجمهوره الذي لا يتفاعل معها دائما، وإن تفاعل يتفاعل معها بشكل مؤقت غير منظوم وغير مؤمن ملتزم بأطروحاتها.
ختاما، من الضروري مراجعة حالة الوعي العام، وعمليات صناعة الأفكار وتاريخها وإعادة الاعتبار بالخصوص للسياسات الثقافية الضرورية في مواجهة الصحوات الأصولية، وهو ما يستدعي بشكل أساسي إعادة الاعتبار للمثقف نفسه كمركز ومصدر للأفكار والتصورات بموازاة الداعية التنظيمي المحرض، وإن بدت عودة جديدة لقضية قديمة هي العلاقة بين التجديد والتقليد، أو معركة «العمائم والطرابيش» أواخر العقد الثاني من القرن العشرين في مصر.
إن تثمين دور المثقف من جديد ضرورة، لأن ثمة عبئا ومسؤولية كبيرة وثقيلة تقع على كاهله، في هذا السياق من التشظي المعلوماتي والتشتت المعرفي، الذي تستفيد منه تنظيمات وأفكار الأصولية الصلبة، بينما تتكرس سيولة القيم والتوجهات احتجاجا واستقطابا ينكر قيمة المعرفة فضلا عن التغيير أو التطوير، ولكن يظل العبء الأكبر على المؤسسات الواعية في تدوير هذه النخب والاستثمار فيها والتشبيك الناظم فيما بينها، وتجسير الفجوات بين النخب الحقيقية والجماهير.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.