نشاط متبادل في ترويج ثقافة العنف والكراهية

بين الجماعات الإرهابية واليمين المتطرف

غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط»)  - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط») - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
TT

نشاط متبادل في ترويج ثقافة العنف والكراهية

غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط»)  - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط») - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)

عاشت بعض الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وألمانيا وغيرها، في الآونة الأخيرة، ارتفاعًا لافتًا للأصوات اليمينية المتطرفة المناهضة للأجانب والمؤمنة بفوقية الرجل الأبيض. كذلك، تتعالى في بعض الدول في آسيا وأفريقيا أصوات الجماعات المتطرفة باسم الدين، بالأخص في مناطق الصراع والاضطراب السياسي. وفي المقابل، لا تزال جماعات متطرفة ترفع شعارات إسلامية كـ«داعش» و«بوكو حرام» تكتسب الكثير من المؤيدين، على الرغم من مشاهد العنف والوحشية والقتل. إن ما يحدث يبدو وكأنه يزكي نظرية الأكاديمي الأميركي صموئيل هنتينغتون التي تحدثت عن «صراع الحضارات» في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.
يصعب استيعاب مدى قدرة الخطابات والآراء المتطرفة على كسب مؤيدين وغسل أدمغتهم وإقناعهم بشرعية قتل الأبرياء، وإن تضمن ذلك استهداف المقدسات الدينية. ولكن واضح جدًا في المقابل تأثير خطاب الكراهية وقدرته على التغلغل إلى عقول البعض في مهاجمته الآخر بناءً على العرق أو الدين أو الجنس، وسهولة التحريض على العنف وجرائم الكراهية التي تعزّزت في حقبة زاد فيها التقوقع والتعصب، نتيجة الأجواء المحمومة التي لا يصل فيها إلا صوت مقت الآخر، ومحاولة إلغائه أو القضاء عليه. ولقد شهدنا في الآونة الأخيرة تأييدًا شعبيًا لقيادات وسياسيين حوت حملاتهم السياسية خطابات تشوبها العنصرية؛ ما يؤكد وجود نوع من الموافقة الضمنية لفحواها.
* صوت اليمين المتطرف
وحقًا، حيثما نظرنا، نرى أن العالم اليوم يسقط في هاوية الأصولية الإقصائية أو الإلغائية، والرغبة في التقوقع والانعزال. وأن الابتعاد عن الاعتدال ومنطق الحوار أفسح المجال لاختلاف بات تهديدا للأمن، وأعطى للأصوات المتطرفة قدرة على استقطاب المؤيدين من خلال خطابات الكراهية وشيطنة الآخر.
الترويج للتطرف والعنف السياسي يأتي في ثلاثة أشكال:
- الشكل الأول هو الطرق التقليدية التي تستخدم استراتيجياتها منذ أيام التنظيمات السابقة الأقل وهجًا في استخدامها التقنية في عملية الاستقطاب، كتنظيم «القاعدة»، الذي يعتمد أساسًا على خطابات أبرز قادته بأساليب إقناع وقدرة على التأثير، إضافة إلى الكتب والمنشورات التي تختار اقتباسات قرآنية أو تاريخية يجرى انتقاؤها حسب ما يرونه مناسبًا.
- الشكل الثاني هو عبر النزول إلى الساحة واختيار شخصيات جذابة تتغلغل إلى داخل المجتمعات الصغيرة سعيًا وراء الاكتشاف والتجنيد.
- الشكل الثالث، وهو الذي جعل تنظيم داعش يتفوق على التنظيمات الأخرى، هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بنجاح وبكثافة حسابات ومواد تحريضية يصار إلى عرضها على الملأ، والغوص في العالم الافتراضي بتواصل سريع مع من يسعون إلى استقطابهم.
* التوحش عبر الكتب
لا تعد الحملات الدعائية لنشر البغضاء اكتشافًا جديدًا، ولا تقتصر على الأصولية الدينية، بل ترتبط بشكل عام بالتأصيل الفكري الذي طغى عليه في السابق النازية أو اليمين المتطرف بشكل عام. وكأبرز مثال على قوة تأثير الكتب وخطابات الكراهية كتاب «يوميات تيرنر» التي نشرت عام 1978. وهو عبارة عن رواية من تأليف الأميركي اليميني المتطرف ويليام لوثر بيرس (نشرها تحت اسم مستعار هو آندرو ماكدونالد) جاءت في تلك الحقبة، جزءا من سلسلة روايات ذات طابع عنصري وتحريضي تغوص في عوالم العنصرية والنازية، وتدعو إلى القومية البيضاء والاستعلاء على الأعراق الأخرى. ولقد حظر الكتاب في ألمانيا بسبب اعتماد موضوعه على الفكر النازي، ولمدى تأثيره التخريبي على الرأي العام؛ إذ تسبب في حدوث 200 جريمة قتل تتضمن التفجير الإرهابي الذي ارتكبه الأميركي تيموثي ماكفي 19 أبريل (نيسان) 1995، حين فجر أحد المباني الحكومية الكبرى في مدينة أوكلاهوما سيتي الأميركية. وعدت عملية التفجير تلك أكبر عملية إرهابية محلية في أميركا، وظهر فيها تأثر ماكفي بهذه الرواية التي استلهم عقب قراءتها نقمته وبغضه للحكومة الأميركية؛ الأمر الذي يشي بخطورة ومدى قابلية البعض التأثر بخطابات الكراهية، أو أي موضوعات تنشر في هذا المضمون.
من جهة أخرى، اشتهر عدد من كتب تنظيم «القاعدة» وأحد أشهرها كتاب «إدارة التوحش» لأبي بكر ناجي. وما هذا الكتاب إلا تجميع لمقالاته التي سبق نشرها عبر منتدى «أنا مسلم». وإلى جانب شرح الكتاب أبرز استراتيجيات وأهداف التنظيم، فإنه يتطرق إلى منهجية استقطاب المؤيدين عبر رفع الحالة الإيمانية والمخاطبة المباشرة والعفو والتأليف بالمال، وأهمية «جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس، كل الناس، استقطاب، فيذهب فريق منهم إلى جانب أهل الحق، وفريق إلى جانب أهل الباطل، ويتبقى فريق ثالث محايد ينتظر نتيجة المعركة لينتصر المنتصر. علينا جذب تعاطف هذا الفريق وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان، وبخاصة أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المرحلة الحالية».
على النسق ذاته، تظهر رسالة «أبو مصعب الزرقاوي» إلى أسامة بن لادن في 14 فبراير (شباط) 2004، التي يسعى فيها إلى التحذير من الشيعة بوصفهم خطرا يحدق بالمسلمين وعدوا يبطن الخبث؛ إذ يقول الإرهابي المتطرف الراحل «إن الناظر المتئد والمبصر المتفحص ليدرك أن التشيع هو الخطر الداهم، والتحدي الحقيقي، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (سورة المنافقون:4)، إن رسالة التاريخ تصدقها شهادة الواقع لتشي بأوضح بيان، أن التشيع دين لا يلتقي مع الإسلام، إلا كما يلتقي اليهود مع النصارى تحت لافتة أهل الكتاب.
* الخطاب التحريضي
ولعل الدعايات الأقدم والأكثر شيوعا وقدرة على التأثير، هي خطب الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر المبغضة لليهود والشهيرة بحدتها. من خلال مثل هذه الخطب يجري إلغاء الآخر وشيطنته واستعمال لغة صدامية عنيفة ضده.
وبعد عقود من موت هتلر، ظهر أسلوب «أبو بكر البغدادي» زعيم تنظيم داعش الإرهابي الذي يسعى للحصول على مؤيدين من خلال خطبه. ومنها خطابه الأخير الذي نشر في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وفيه حث المقاتلين مناشدًا «حولوا ليل الكافرين نهارًا وخرّبوا ديارهم دمارًا واجعلوا دماءهم أنهارًا».
ويظهر هنا الحرص على اختيار كلمات منتقاة بلغة رفيعة تحمل تهديدًا لمن يحمل سلطة بإمكانه ممارستها. ثم قال: «فيا أهل نينوى عامة والمجاهدون خاصة، إياكم والضعف عن جهاد عدوكم ودفعه؛ فإن هذا ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق. يا معشر المجاهدين والأنصار امضوا على بصيرتكم واستمروا على عزيمتكم». عبارات كتلك يستحيل أن يتقبلها شخص يؤمن بأهمية التحاور مع الآخر. إنها تفتن أشخاص لديهم قابلية للتطرف وتوجههم نحو استعمال العنف من أجل تحقيق أهداف قد تكون خيالية بعيدة عن الواقع. وبالتالي، مثل هذه الخطب تسعى إلى إلغاء الآخر واستخدام لغة صدامية بلهجة دينية يتم عبرها الترهيب والإقناع بعدم مناقشة أي شخص تفاصيل هذا الخطاب.
وعلى مسافة قريبة نجد خطبًا أخرى تهدف إلى إثارة البغض ضد طائفة معينة كتصريح المتحدث الرسمي لـ«داعش» «أبو محمد العدناني» في محاولته إضرام الطائفية في العراق ضد الشيعة تحديدًا «لقد آن لكم يا أهل السنة العراق أن تعرفوا الحقيقة، وأنه لا تعايش مع الروافض ولا سلام، وأن تدركوا أن الرافضة المشركين شر من وطأ الثرى شر من اليهود والصليبيين». وفي مثل هذه الخطب يستخدم القيادي المتطرف خطابا وعظيا دينيا يفرض تفاصيله، ليجري ترهيب الآخرين وإقناعهم أن من الخطأ أن يناقش أي شخص تفاصيل مثل هذا الخطاب، ومن ثم ما عليه إلا تنفيذ أوامر زعيم «داعش»، وتقديم الولاء والطاعة والإذعان له. هنا نحن أمام توجه متطرف يقوم على إلغاء الآخر والإيمان بأن الإسلام القويم لا تجسده إلا جماعته وسط ثقافة تكفير وتخوين الآخر.
ولا يقتصر هذا النهج الإلغائي على الجماعات المتطرفة التي تزعم التكلم باسم الإسلام في الشرق الأوسط، بل هناك أمثلة كثيرة في الغرب مثل الإرهابي العنصري النرويجي أندرس بريفيك الذي ارتكب جرائم إرهابية في النرويج عام 2011. وهذا الرجل نشر كتاباته المعادية للإسلام عبر «فيسبوك» و«تويتر» وموقع إلكتروني خاص به، وعرف بموقفه المتشدد من الأجانب والهجرة. وثمة دراسة أعدها الأكاديمي دايفيد ياناغيزاوا دروت، في جامعة هارفارد وجامعة زيورخ، أوضح كيف ساهمت خطابات الكراهية لمحطة إذاعة وتلفزيون لبر دي ميل كولين في راوندا بجرائم الإبادة الجماعية العنيفة في أكثر من ألف قرية. ولقد ازداد العنف المدني نتيجة تغطية الراديو بمعدل 65 في المائة، والعنف المنظم بنسبة 77 في المائة لمتابعة الإذاعة المذكورة.
* الاستقطاب إلكترونيًا
من ناحية أخرى، سيطر الاهتمام في الآونة الأخيرة على الدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي في كسب المؤيدين، وتأجيج الرأي العام التي تفوق في استراتيجياتها تنظيم داعش. ولكن بزغت أيضًا جماعات جديدة من اليمين المتطرف في الغرب. وتذكر دراسة أعدها الباحث الأميركي جي أم برغر، من جامعة واشنطن، أنه على الرغم من تفوق «داعش» في سطوته على وسائل التواصل الاجتماعي واعتباره أحد أبرز التنظيمات الإرهابية من حيث القدرة على التجنيد واستغلال هذه الوسائل، فإن ثمة متطرفين آخرين نجحوا في التغلغل في العالم الافتراضي. أبرز هؤلاء حركة القوميين (العنصريين) البيض في الولايات المتحدة، الذين ارتفع حضورهم في موقع «تويتر» بما يزيد على 600 في المائة منذ عام 2012. ويظهر تأثر هؤلاء بمبادئ عرقية متطرفة، وأهمها النازية؛ إذ تظهر الدراسة أن من أكثر الأفلام الوثائقية تداولا في أوساط القوميين البيض في «تويتر» فيلم عن هتلر.
وتوضح دراسة برغر، من جهة أخرى، بالتفصيل طرق استقطاب الجماعات للمؤيدين عبر العالم الإلكتروني، كما يلي:
الأولى - مرحلة الاستكشاف التي يتم عبرها استكشاف المؤيدين أو المتعاطفين ممن يمكن اكتسابهم.
الثانية - تكوين مجتمع مصغّر أو مجموعة إلكترونية يقوم فيها أعضاء «داعش» بمد المؤيدين لتنظيمهم بالمعلومات بصفة مستمرة.
الثالثة - مرحلة العزل، وفيها ينصح المجند الجديد بأن ينعزل عن الآخرين؛ وذلك بهدف التأثير على آرائه والسيطرة عليه دون مؤثرات خارجية.
الرابعة - الانتقال إلى الرسائل الخاصة ليتم وقتئذ توصية مناصري «داعش» بالتواصل بصفة خاصة عبر قنوات مشفرة.
الخامسة - التعريف بالمهام المتوقعة من قبل المؤيدين والحث على اتخاذ خطوات عملية بصفتها جزءا من التنظيم، كالسفر للانضمام إلى التنظيم أو القيام بعمليات إرهابية في بلادهم. عبر القنوات المذكورة يكثف البث المرئي والمنشورات المؤثرة. وعلى سبيل المثال نشر تنظيم داعش بثا مرئيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحت مسمى «على خطى والدي» يظهر فيه تدريب طفلين فرنسيين عبر دروس واستعمال للسلاح. ويتحدث فيها طفل في الثانية عشرة من عمره بلغة فرنسية بلهجة تهديد «أقول لفرنسا سوف نقتلكم كما قتلتم إخواننا في أراضي الدولة الإسلامية اليوم في الشام وغدا في باريس».
مثل هذه المنهجية تمزج ما بين التأثير على الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى طرق التأثير على الأطفال وتجاوز مرحلة الإقناع إلى التلقين وزرع الكراهية والرغبة في قتل الآخر ليصبحوا أكثر شراسة ورغبة في أعمال العنف من خلال التخرج من برامج تحت مسمى «أشبال الخلافة». وهذه استراتيجية متبعة لجميع المنضمين إلى تنظيم داعش رجالا ونساء. وقد تنتقل عملية الإقناع إن أتيحت الفرصة إلى الساحة من خلال اختيار شخصيات تحمل جاذبية معينة أو قدرة على الإقناع بأهمية القتال، كما حدث مع الداعية البوسني الأصل «أبو تيجما» الذي كان يتخذ من المساجد في بلدان نمساوية مختلفة فرصة لاستقطاب الشباب. ولقد اعتقل في النمسا إثر تجنيده عشرات الشباب ممن تتراوح أعمارهم ما بين 14 وثلاثين سنة، وإقناعهم بضرورة نشر الإسلام من خلال «الجهاد»، والانضمام إلى صفوف التنظيم الداعشي في سوريا.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟