نشاط متبادل في ترويج ثقافة العنف والكراهية

بين الجماعات الإرهابية واليمين المتطرف

غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط»)  - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط») - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
TT

نشاط متبادل في ترويج ثقافة العنف والكراهية

غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط»)  - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط») - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)

عاشت بعض الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وألمانيا وغيرها، في الآونة الأخيرة، ارتفاعًا لافتًا للأصوات اليمينية المتطرفة المناهضة للأجانب والمؤمنة بفوقية الرجل الأبيض. كذلك، تتعالى في بعض الدول في آسيا وأفريقيا أصوات الجماعات المتطرفة باسم الدين، بالأخص في مناطق الصراع والاضطراب السياسي. وفي المقابل، لا تزال جماعات متطرفة ترفع شعارات إسلامية كـ«داعش» و«بوكو حرام» تكتسب الكثير من المؤيدين، على الرغم من مشاهد العنف والوحشية والقتل. إن ما يحدث يبدو وكأنه يزكي نظرية الأكاديمي الأميركي صموئيل هنتينغتون التي تحدثت عن «صراع الحضارات» في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.
يصعب استيعاب مدى قدرة الخطابات والآراء المتطرفة على كسب مؤيدين وغسل أدمغتهم وإقناعهم بشرعية قتل الأبرياء، وإن تضمن ذلك استهداف المقدسات الدينية. ولكن واضح جدًا في المقابل تأثير خطاب الكراهية وقدرته على التغلغل إلى عقول البعض في مهاجمته الآخر بناءً على العرق أو الدين أو الجنس، وسهولة التحريض على العنف وجرائم الكراهية التي تعزّزت في حقبة زاد فيها التقوقع والتعصب، نتيجة الأجواء المحمومة التي لا يصل فيها إلا صوت مقت الآخر، ومحاولة إلغائه أو القضاء عليه. ولقد شهدنا في الآونة الأخيرة تأييدًا شعبيًا لقيادات وسياسيين حوت حملاتهم السياسية خطابات تشوبها العنصرية؛ ما يؤكد وجود نوع من الموافقة الضمنية لفحواها.
* صوت اليمين المتطرف
وحقًا، حيثما نظرنا، نرى أن العالم اليوم يسقط في هاوية الأصولية الإقصائية أو الإلغائية، والرغبة في التقوقع والانعزال. وأن الابتعاد عن الاعتدال ومنطق الحوار أفسح المجال لاختلاف بات تهديدا للأمن، وأعطى للأصوات المتطرفة قدرة على استقطاب المؤيدين من خلال خطابات الكراهية وشيطنة الآخر.
الترويج للتطرف والعنف السياسي يأتي في ثلاثة أشكال:
- الشكل الأول هو الطرق التقليدية التي تستخدم استراتيجياتها منذ أيام التنظيمات السابقة الأقل وهجًا في استخدامها التقنية في عملية الاستقطاب، كتنظيم «القاعدة»، الذي يعتمد أساسًا على خطابات أبرز قادته بأساليب إقناع وقدرة على التأثير، إضافة إلى الكتب والمنشورات التي تختار اقتباسات قرآنية أو تاريخية يجرى انتقاؤها حسب ما يرونه مناسبًا.
- الشكل الثاني هو عبر النزول إلى الساحة واختيار شخصيات جذابة تتغلغل إلى داخل المجتمعات الصغيرة سعيًا وراء الاكتشاف والتجنيد.
- الشكل الثالث، وهو الذي جعل تنظيم داعش يتفوق على التنظيمات الأخرى، هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بنجاح وبكثافة حسابات ومواد تحريضية يصار إلى عرضها على الملأ، والغوص في العالم الافتراضي بتواصل سريع مع من يسعون إلى استقطابهم.
* التوحش عبر الكتب
لا تعد الحملات الدعائية لنشر البغضاء اكتشافًا جديدًا، ولا تقتصر على الأصولية الدينية، بل ترتبط بشكل عام بالتأصيل الفكري الذي طغى عليه في السابق النازية أو اليمين المتطرف بشكل عام. وكأبرز مثال على قوة تأثير الكتب وخطابات الكراهية كتاب «يوميات تيرنر» التي نشرت عام 1978. وهو عبارة عن رواية من تأليف الأميركي اليميني المتطرف ويليام لوثر بيرس (نشرها تحت اسم مستعار هو آندرو ماكدونالد) جاءت في تلك الحقبة، جزءا من سلسلة روايات ذات طابع عنصري وتحريضي تغوص في عوالم العنصرية والنازية، وتدعو إلى القومية البيضاء والاستعلاء على الأعراق الأخرى. ولقد حظر الكتاب في ألمانيا بسبب اعتماد موضوعه على الفكر النازي، ولمدى تأثيره التخريبي على الرأي العام؛ إذ تسبب في حدوث 200 جريمة قتل تتضمن التفجير الإرهابي الذي ارتكبه الأميركي تيموثي ماكفي 19 أبريل (نيسان) 1995، حين فجر أحد المباني الحكومية الكبرى في مدينة أوكلاهوما سيتي الأميركية. وعدت عملية التفجير تلك أكبر عملية إرهابية محلية في أميركا، وظهر فيها تأثر ماكفي بهذه الرواية التي استلهم عقب قراءتها نقمته وبغضه للحكومة الأميركية؛ الأمر الذي يشي بخطورة ومدى قابلية البعض التأثر بخطابات الكراهية، أو أي موضوعات تنشر في هذا المضمون.
من جهة أخرى، اشتهر عدد من كتب تنظيم «القاعدة» وأحد أشهرها كتاب «إدارة التوحش» لأبي بكر ناجي. وما هذا الكتاب إلا تجميع لمقالاته التي سبق نشرها عبر منتدى «أنا مسلم». وإلى جانب شرح الكتاب أبرز استراتيجيات وأهداف التنظيم، فإنه يتطرق إلى منهجية استقطاب المؤيدين عبر رفع الحالة الإيمانية والمخاطبة المباشرة والعفو والتأليف بالمال، وأهمية «جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس، كل الناس، استقطاب، فيذهب فريق منهم إلى جانب أهل الحق، وفريق إلى جانب أهل الباطل، ويتبقى فريق ثالث محايد ينتظر نتيجة المعركة لينتصر المنتصر. علينا جذب تعاطف هذا الفريق وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان، وبخاصة أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المرحلة الحالية».
على النسق ذاته، تظهر رسالة «أبو مصعب الزرقاوي» إلى أسامة بن لادن في 14 فبراير (شباط) 2004، التي يسعى فيها إلى التحذير من الشيعة بوصفهم خطرا يحدق بالمسلمين وعدوا يبطن الخبث؛ إذ يقول الإرهابي المتطرف الراحل «إن الناظر المتئد والمبصر المتفحص ليدرك أن التشيع هو الخطر الداهم، والتحدي الحقيقي، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (سورة المنافقون:4)، إن رسالة التاريخ تصدقها شهادة الواقع لتشي بأوضح بيان، أن التشيع دين لا يلتقي مع الإسلام، إلا كما يلتقي اليهود مع النصارى تحت لافتة أهل الكتاب.
* الخطاب التحريضي
ولعل الدعايات الأقدم والأكثر شيوعا وقدرة على التأثير، هي خطب الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر المبغضة لليهود والشهيرة بحدتها. من خلال مثل هذه الخطب يجري إلغاء الآخر وشيطنته واستعمال لغة صدامية عنيفة ضده.
وبعد عقود من موت هتلر، ظهر أسلوب «أبو بكر البغدادي» زعيم تنظيم داعش الإرهابي الذي يسعى للحصول على مؤيدين من خلال خطبه. ومنها خطابه الأخير الذي نشر في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وفيه حث المقاتلين مناشدًا «حولوا ليل الكافرين نهارًا وخرّبوا ديارهم دمارًا واجعلوا دماءهم أنهارًا».
ويظهر هنا الحرص على اختيار كلمات منتقاة بلغة رفيعة تحمل تهديدًا لمن يحمل سلطة بإمكانه ممارستها. ثم قال: «فيا أهل نينوى عامة والمجاهدون خاصة، إياكم والضعف عن جهاد عدوكم ودفعه؛ فإن هذا ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق. يا معشر المجاهدين والأنصار امضوا على بصيرتكم واستمروا على عزيمتكم». عبارات كتلك يستحيل أن يتقبلها شخص يؤمن بأهمية التحاور مع الآخر. إنها تفتن أشخاص لديهم قابلية للتطرف وتوجههم نحو استعمال العنف من أجل تحقيق أهداف قد تكون خيالية بعيدة عن الواقع. وبالتالي، مثل هذه الخطب تسعى إلى إلغاء الآخر واستخدام لغة صدامية بلهجة دينية يتم عبرها الترهيب والإقناع بعدم مناقشة أي شخص تفاصيل هذا الخطاب.
وعلى مسافة قريبة نجد خطبًا أخرى تهدف إلى إثارة البغض ضد طائفة معينة كتصريح المتحدث الرسمي لـ«داعش» «أبو محمد العدناني» في محاولته إضرام الطائفية في العراق ضد الشيعة تحديدًا «لقد آن لكم يا أهل السنة العراق أن تعرفوا الحقيقة، وأنه لا تعايش مع الروافض ولا سلام، وأن تدركوا أن الرافضة المشركين شر من وطأ الثرى شر من اليهود والصليبيين». وفي مثل هذه الخطب يستخدم القيادي المتطرف خطابا وعظيا دينيا يفرض تفاصيله، ليجري ترهيب الآخرين وإقناعهم أن من الخطأ أن يناقش أي شخص تفاصيل مثل هذا الخطاب، ومن ثم ما عليه إلا تنفيذ أوامر زعيم «داعش»، وتقديم الولاء والطاعة والإذعان له. هنا نحن أمام توجه متطرف يقوم على إلغاء الآخر والإيمان بأن الإسلام القويم لا تجسده إلا جماعته وسط ثقافة تكفير وتخوين الآخر.
ولا يقتصر هذا النهج الإلغائي على الجماعات المتطرفة التي تزعم التكلم باسم الإسلام في الشرق الأوسط، بل هناك أمثلة كثيرة في الغرب مثل الإرهابي العنصري النرويجي أندرس بريفيك الذي ارتكب جرائم إرهابية في النرويج عام 2011. وهذا الرجل نشر كتاباته المعادية للإسلام عبر «فيسبوك» و«تويتر» وموقع إلكتروني خاص به، وعرف بموقفه المتشدد من الأجانب والهجرة. وثمة دراسة أعدها الأكاديمي دايفيد ياناغيزاوا دروت، في جامعة هارفارد وجامعة زيورخ، أوضح كيف ساهمت خطابات الكراهية لمحطة إذاعة وتلفزيون لبر دي ميل كولين في راوندا بجرائم الإبادة الجماعية العنيفة في أكثر من ألف قرية. ولقد ازداد العنف المدني نتيجة تغطية الراديو بمعدل 65 في المائة، والعنف المنظم بنسبة 77 في المائة لمتابعة الإذاعة المذكورة.
* الاستقطاب إلكترونيًا
من ناحية أخرى، سيطر الاهتمام في الآونة الأخيرة على الدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي في كسب المؤيدين، وتأجيج الرأي العام التي تفوق في استراتيجياتها تنظيم داعش. ولكن بزغت أيضًا جماعات جديدة من اليمين المتطرف في الغرب. وتذكر دراسة أعدها الباحث الأميركي جي أم برغر، من جامعة واشنطن، أنه على الرغم من تفوق «داعش» في سطوته على وسائل التواصل الاجتماعي واعتباره أحد أبرز التنظيمات الإرهابية من حيث القدرة على التجنيد واستغلال هذه الوسائل، فإن ثمة متطرفين آخرين نجحوا في التغلغل في العالم الافتراضي. أبرز هؤلاء حركة القوميين (العنصريين) البيض في الولايات المتحدة، الذين ارتفع حضورهم في موقع «تويتر» بما يزيد على 600 في المائة منذ عام 2012. ويظهر تأثر هؤلاء بمبادئ عرقية متطرفة، وأهمها النازية؛ إذ تظهر الدراسة أن من أكثر الأفلام الوثائقية تداولا في أوساط القوميين البيض في «تويتر» فيلم عن هتلر.
وتوضح دراسة برغر، من جهة أخرى، بالتفصيل طرق استقطاب الجماعات للمؤيدين عبر العالم الإلكتروني، كما يلي:
الأولى - مرحلة الاستكشاف التي يتم عبرها استكشاف المؤيدين أو المتعاطفين ممن يمكن اكتسابهم.
الثانية - تكوين مجتمع مصغّر أو مجموعة إلكترونية يقوم فيها أعضاء «داعش» بمد المؤيدين لتنظيمهم بالمعلومات بصفة مستمرة.
الثالثة - مرحلة العزل، وفيها ينصح المجند الجديد بأن ينعزل عن الآخرين؛ وذلك بهدف التأثير على آرائه والسيطرة عليه دون مؤثرات خارجية.
الرابعة - الانتقال إلى الرسائل الخاصة ليتم وقتئذ توصية مناصري «داعش» بالتواصل بصفة خاصة عبر قنوات مشفرة.
الخامسة - التعريف بالمهام المتوقعة من قبل المؤيدين والحث على اتخاذ خطوات عملية بصفتها جزءا من التنظيم، كالسفر للانضمام إلى التنظيم أو القيام بعمليات إرهابية في بلادهم. عبر القنوات المذكورة يكثف البث المرئي والمنشورات المؤثرة. وعلى سبيل المثال نشر تنظيم داعش بثا مرئيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحت مسمى «على خطى والدي» يظهر فيه تدريب طفلين فرنسيين عبر دروس واستعمال للسلاح. ويتحدث فيها طفل في الثانية عشرة من عمره بلغة فرنسية بلهجة تهديد «أقول لفرنسا سوف نقتلكم كما قتلتم إخواننا في أراضي الدولة الإسلامية اليوم في الشام وغدا في باريس».
مثل هذه المنهجية تمزج ما بين التأثير على الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى طرق التأثير على الأطفال وتجاوز مرحلة الإقناع إلى التلقين وزرع الكراهية والرغبة في قتل الآخر ليصبحوا أكثر شراسة ورغبة في أعمال العنف من خلال التخرج من برامج تحت مسمى «أشبال الخلافة». وهذه استراتيجية متبعة لجميع المنضمين إلى تنظيم داعش رجالا ونساء. وقد تنتقل عملية الإقناع إن أتيحت الفرصة إلى الساحة من خلال اختيار شخصيات تحمل جاذبية معينة أو قدرة على الإقناع بأهمية القتال، كما حدث مع الداعية البوسني الأصل «أبو تيجما» الذي كان يتخذ من المساجد في بلدان نمساوية مختلفة فرصة لاستقطاب الشباب. ولقد اعتقل في النمسا إثر تجنيده عشرات الشباب ممن تتراوح أعمارهم ما بين 14 وثلاثين سنة، وإقناعهم بضرورة نشر الإسلام من خلال «الجهاد»، والانضمام إلى صفوف التنظيم الداعشي في سوريا.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.