من التاريخ: أتاتورك ومولد الدولة التركية

ضياء غوكالب
ضياء غوكالب
TT

من التاريخ: أتاتورك ومولد الدولة التركية

ضياء غوكالب
ضياء غوكالب

انهارت الدولة العثمانية في أعقاب خسارتها الحرب العالمية الأولى أمام الحلفاء، وتعرضت أراضيها للاحتلال كما تابعنا في الأسبوع الماضي. إذ استولى الأسطول البريطاني على المضايق التركية (مضيقي البوسفور والدردنيل)، بينما احتلت اليونان غرب الأناضول بمباركة بريطانية، وتوسع الأرمن في شرق الأناضول، وفرض الحلفاء على السلطان العثماني الضعيف «اتفاقية سيفر» Sevres عام 1920، التي جرّدت الدولة العثمانية من كل ممتلكاتها الأوروبية والعربية والفارسية على حد سواء. وهكذا، لم يتبق لها إلا دويلة صغيرة في وسط الأناضول، بيد أن الصمود التركي على أيدي القائد العسكري مصطفى كمال «أتاتورك» غير مصير هذه الدولة.
تشير المصادر التاريخية المؤكدة أن «أتاتورك» (أي «أبو الأتراك») كان ابنا لموظف في الجمارك بولاية سلانيك (تيسالونيكي، في شمال شرقي اليونان اليوم) العثمانية، ولقد التحق بالجيش العثماني واستطاع أن يتدرج إلى أن أصبح قائد الجبهة الشمالية العثمانية، بعدما استطاع وقف الإنزال الغربي المعروف بحملة «غاليبولي». وبفضل هذا الإنجاز صار بطلاً قوميًا، إلا أن السلطان لم يكن على دراية بأن أعظم قواده كان يعتنق فكر حركة «تركيا الفتاة» التي كانت تريد أن تطوّر الدولة العثمانية من دون الإخلال بهويتها الأممية الإسلامية، ولكنه سرعان ما فارق هذا الفكر الذي لم يعد يروق له لاعتقاده الراسخ بأن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يكون على أنقاض فكر أممي.
وبالتالي، انجذب «أتاتورك»، الذي كان قارئًا جيدًا للفكر الغربي، إلى الفكر القومي وأهمية بناء الدول على مفاهيم مرتبطة بقومية الدولة وهويتها الحقيقية. ثم إنه تأثر كثيرًا بفكر الكاتب العثماني ضياء غوكالب Ziya Gokalp وغيره ممن دعوا لبناء دولة تركية حديثة قوامها القومية التركية المبنية على التاريخ الطويل للقبائل التي استوطنت الأناضول وتبنت اللغة التركية، وميراثها اللغوي والتاريخي والثقافي الموحّد الذي يمكن على أساسه بناء مقومات دولة أكثر تجانسًا من الإمبراطورية المتفرقة المترهلة فكريًا وعسكريًا وإداريًا.
هذا التوجه القومي الصريح وضع «أتاتورك» في صدام مباشر مع حركة «تركيا الفتاة» و«جمعية الاتحاد والترقّي» التي كانت تحكم البلاد بعدما فشل السلطان العثماني في كبح جماحها. ومع تسليم السلطان بـ«اتفاقية سيفر» المهينة وتقليص الدولة إلى دويلة صغيرة في وسط الأناضول، انشق «أتاتورك» عن حكومة إسطنبول ورفض الانصياع للاتفاقية وشروطها، متخذًا من مدينة أنقرة عاصمة له. ومنها أطلق حرب تحرير «الوطن» وطرد الحلفاء واليونانيين من البلاد وإزاحة التهديد والاحتلال الأرميني لها شرقًا.
على الفور، أصدر السلطان أوامر باعتقال القائد المتمرد، غير أن جنرالات الجيش العثماني رفضوا الانصياع للأوامر وانضموا إلى «أتاتورك» في نضاله، فشكّل الرجل برلمانًا وحكومة موازيين، وبدأ رحلة تأسيس «الدولة التركية» بحرب استقلال واسعة النطاق.
ووجه «أتاتورك» جهوده الأولية لبناء جيش قوي مؤهل لمواجهة الغزاة وقوات السلطان العثماني، التي كانت قد سعت للقضاء على حكومة أنقرة، إذ جهز السلطان جيشًا عثمانيًا قويًا وحركه صوب أنقرة لتصفية الحكومة الموازية. وقدمت بريطانيا يومذاك دعمًا مباشرا حيث رأت في «حكومة أنقرة» الوليدة» ندًا قويًا لأهدافها السياسية والاستراتيجية بالنسبة لتركيا. إلا أن جيش «أتاتورك» استطاع التغلب على الجيش العثماني، كما أن حنكته السياسية جعلته يتفادى الصدام المباشر مع القوات البريطانية المسيطرة على المضايق التركية.
وبعدها، بمجرد أن تخلص من خطر حكومة السلطان، وجه «أتاتورك» جهوده نحو الجبهة الشرقية حيث هاجم القوات الأرمينية بقوة وحزم، واستطاع أن يحرر الأناضول من وجودهم، ولكن ليس قبل أن يتوغل الجيش اليوناني حتى أصبح على بعد أقل من ستين كيلومترًا من العاصمة أنقرة في مدينة سقارية. وهنا تجلّت الموهبة العسكرية لهذا القائد الفذ الذي هدّد أي متراجع من جيشه بالقتل. وهو ما مكنه من إلحاق هزيمة منكرة باليونانيين هزيمة أدت إلى انسحابهم غربا.
وكان «أتاتورك» قد تعمد ترك اليونانيين يتقدمون صوبه بكل قوة كي يطيل خطوط إمدادهم ما يسهل مهمة ضربهم. وحقًا، بمجرد هزيمتهم، تحرك «أتاتورك» بجيشه صوب الغرب لدحر فلولهم، وانقض عليهم في مدينة أفيون قره حصار خلال أغسطس (آب) 1922، وهزمهم مرة أخرى. ثم كانت المعركة الفاصلة بالقرب من مدينة إزمير التي دارت في 9 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، وفيها حقق القائد التركي انتصاره الكبير وأجلاهم عن البلاد تمامًا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما ساعد على هزيمة الجيش اليوناني المعتدي أن حكومة آرثر لويد جورج في بريطانيا قد سقطت، وهكذا خرج الحليف الأول للغزو اليوناني من الساحة السياسية الدولية، وهو ما أسهم في دحرهم.
بمجرد استعادة «أتاتورك» زمام الأمور في الأناضول باشرت حكومته في أنقرة سعيها لتغيير شروط «اتفاقية سيفر» المجحفة التي وقعتها حكومة السلطان. وسعت بريطانيا لإعادة التفاوض مع تركيا على أساس وفد من حكومة أنقرة ينضم إليه ممثلون من حكومة السلطان، إلا أن «أتاتورك» رفض ذلك تمامًا وأصر على أن يكون الوفد موحدًا تحت قيادة حكومته في أنقرة. وأرسل بالفعل وفدًا للتفاوض مع الحلفاء في مدينة لوزان السويسرية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1922، واستطاع الوفد بحنكة كبيرة، مستغلاً الانتصارات المتتالية للجيش التركي، فرض أمر واقع جديد على الحلفاء.
وبناء عليه، بعد أشهر من المفاوضات في عام 1923، جرى التوقيع على «اتفاقية لوزان» التي أعادت لتركيا هيبتها من جديد من خلال الاعتراف بـ«حكومة أنقرة» ممثلاً شرعيًا للدولة التركية الجديدة وإعادة منطقة تراقيا – أو تراكيا – الشرقية (في أقصى الغرب) إليها، فضلاً عن ترسيم الحدود وفقًا لرؤية «أتاتورك» بالسيطرة على هضبة الأناضول كاملة. كذلك، ألغت الاتفاقية جميع الامتيازات الممنوحة للأجانب المقيمين في السلطنة العثمانية وفقًا لقوانين بلادهم وليس للقانون العثماني. ولكن الأمر الوحيد الذي أصرّ عليه الحلفاء كان منع تركيا من تحصين مضيقي الدردنيل والبوسفور وبحر مرمرة.
وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1923 أعلن عن قيام «الدولة التركية» خلفًا للدولة العثمانية من حيث مفهوم توارث الدول في القانون الدولي. ولكن حقيقة الأمر أن «أتاتورك» كان قد سبق له اتخاذ خطوة مهمة للغاية في نوفمبر من عام 1922 من خلال برلمان أنقرة، إذ قرّر أن يفصل بين «السلطنة» من ناحية و«الحكومة» بخلع السلطان محمد السادس من إدارة الدولة واعتماد حكومة أنقرة ممثلاً شرعيًا وحيدًا للدولة العثمانية.
غير أن الخطوة الأكثر تأثيرًا على مستوى العالم الإسلامي تمثّلت بقرار البرلمان التركي في 1923 إعلان «الجمهورية التركية»، وهو ما وضع مؤسسة ومفهوم الخلافة على المحك... ولكن ليس لفترة طويلة. إذ تبع ذلك يوم 3 مارس (آذار) 1924 تصويت البرلمان التركي لصالح «إلغاء الخلافة العثمانية» بالكامل، وهو ما ترك حالة من الفراغ السياسي في مفهوم الشرعية داخل الكثير من الدول والمجتمعات الإسلامية. ولكن على الصعيد التركي كانت خطوة بالغة الأهمية للجمهورية الفتية التي كان لـ«أتاتورك» رؤية مختلفة لمسارها، فما فعله «أتاتورك» غيّر مسار التكوين السياسي والفكري للدولة التركية وفصلها عن ماضيها السياسي والثقافي من خلال تطبيق صارم لمفاهيم القومية التركية والتي شملت مسح جزء كبير من التراث الفكري العثماني.
وعلى الرغم من أن الدولة التركية تعدّ من الناحية السياسية والقانونية الوريث الشرعي للدولة العثمانية، فهي من الناحية الفعلية والآيديولوجية مثلت انقطاعًا كاملاً عن هذه الجذور.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».