من التاريخ: أتاتورك ومولد الدولة التركية

ضياء غوكالب
ضياء غوكالب
TT

من التاريخ: أتاتورك ومولد الدولة التركية

ضياء غوكالب
ضياء غوكالب

انهارت الدولة العثمانية في أعقاب خسارتها الحرب العالمية الأولى أمام الحلفاء، وتعرضت أراضيها للاحتلال كما تابعنا في الأسبوع الماضي. إذ استولى الأسطول البريطاني على المضايق التركية (مضيقي البوسفور والدردنيل)، بينما احتلت اليونان غرب الأناضول بمباركة بريطانية، وتوسع الأرمن في شرق الأناضول، وفرض الحلفاء على السلطان العثماني الضعيف «اتفاقية سيفر» Sevres عام 1920، التي جرّدت الدولة العثمانية من كل ممتلكاتها الأوروبية والعربية والفارسية على حد سواء. وهكذا، لم يتبق لها إلا دويلة صغيرة في وسط الأناضول، بيد أن الصمود التركي على أيدي القائد العسكري مصطفى كمال «أتاتورك» غير مصير هذه الدولة.
تشير المصادر التاريخية المؤكدة أن «أتاتورك» (أي «أبو الأتراك») كان ابنا لموظف في الجمارك بولاية سلانيك (تيسالونيكي، في شمال شرقي اليونان اليوم) العثمانية، ولقد التحق بالجيش العثماني واستطاع أن يتدرج إلى أن أصبح قائد الجبهة الشمالية العثمانية، بعدما استطاع وقف الإنزال الغربي المعروف بحملة «غاليبولي». وبفضل هذا الإنجاز صار بطلاً قوميًا، إلا أن السلطان لم يكن على دراية بأن أعظم قواده كان يعتنق فكر حركة «تركيا الفتاة» التي كانت تريد أن تطوّر الدولة العثمانية من دون الإخلال بهويتها الأممية الإسلامية، ولكنه سرعان ما فارق هذا الفكر الذي لم يعد يروق له لاعتقاده الراسخ بأن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يكون على أنقاض فكر أممي.
وبالتالي، انجذب «أتاتورك»، الذي كان قارئًا جيدًا للفكر الغربي، إلى الفكر القومي وأهمية بناء الدول على مفاهيم مرتبطة بقومية الدولة وهويتها الحقيقية. ثم إنه تأثر كثيرًا بفكر الكاتب العثماني ضياء غوكالب Ziya Gokalp وغيره ممن دعوا لبناء دولة تركية حديثة قوامها القومية التركية المبنية على التاريخ الطويل للقبائل التي استوطنت الأناضول وتبنت اللغة التركية، وميراثها اللغوي والتاريخي والثقافي الموحّد الذي يمكن على أساسه بناء مقومات دولة أكثر تجانسًا من الإمبراطورية المتفرقة المترهلة فكريًا وعسكريًا وإداريًا.
هذا التوجه القومي الصريح وضع «أتاتورك» في صدام مباشر مع حركة «تركيا الفتاة» و«جمعية الاتحاد والترقّي» التي كانت تحكم البلاد بعدما فشل السلطان العثماني في كبح جماحها. ومع تسليم السلطان بـ«اتفاقية سيفر» المهينة وتقليص الدولة إلى دويلة صغيرة في وسط الأناضول، انشق «أتاتورك» عن حكومة إسطنبول ورفض الانصياع للاتفاقية وشروطها، متخذًا من مدينة أنقرة عاصمة له. ومنها أطلق حرب تحرير «الوطن» وطرد الحلفاء واليونانيين من البلاد وإزاحة التهديد والاحتلال الأرميني لها شرقًا.
على الفور، أصدر السلطان أوامر باعتقال القائد المتمرد، غير أن جنرالات الجيش العثماني رفضوا الانصياع للأوامر وانضموا إلى «أتاتورك» في نضاله، فشكّل الرجل برلمانًا وحكومة موازيين، وبدأ رحلة تأسيس «الدولة التركية» بحرب استقلال واسعة النطاق.
ووجه «أتاتورك» جهوده الأولية لبناء جيش قوي مؤهل لمواجهة الغزاة وقوات السلطان العثماني، التي كانت قد سعت للقضاء على حكومة أنقرة، إذ جهز السلطان جيشًا عثمانيًا قويًا وحركه صوب أنقرة لتصفية الحكومة الموازية. وقدمت بريطانيا يومذاك دعمًا مباشرا حيث رأت في «حكومة أنقرة» الوليدة» ندًا قويًا لأهدافها السياسية والاستراتيجية بالنسبة لتركيا. إلا أن جيش «أتاتورك» استطاع التغلب على الجيش العثماني، كما أن حنكته السياسية جعلته يتفادى الصدام المباشر مع القوات البريطانية المسيطرة على المضايق التركية.
وبعدها، بمجرد أن تخلص من خطر حكومة السلطان، وجه «أتاتورك» جهوده نحو الجبهة الشرقية حيث هاجم القوات الأرمينية بقوة وحزم، واستطاع أن يحرر الأناضول من وجودهم، ولكن ليس قبل أن يتوغل الجيش اليوناني حتى أصبح على بعد أقل من ستين كيلومترًا من العاصمة أنقرة في مدينة سقارية. وهنا تجلّت الموهبة العسكرية لهذا القائد الفذ الذي هدّد أي متراجع من جيشه بالقتل. وهو ما مكنه من إلحاق هزيمة منكرة باليونانيين هزيمة أدت إلى انسحابهم غربا.
وكان «أتاتورك» قد تعمد ترك اليونانيين يتقدمون صوبه بكل قوة كي يطيل خطوط إمدادهم ما يسهل مهمة ضربهم. وحقًا، بمجرد هزيمتهم، تحرك «أتاتورك» بجيشه صوب الغرب لدحر فلولهم، وانقض عليهم في مدينة أفيون قره حصار خلال أغسطس (آب) 1922، وهزمهم مرة أخرى. ثم كانت المعركة الفاصلة بالقرب من مدينة إزمير التي دارت في 9 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، وفيها حقق القائد التركي انتصاره الكبير وأجلاهم عن البلاد تمامًا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما ساعد على هزيمة الجيش اليوناني المعتدي أن حكومة آرثر لويد جورج في بريطانيا قد سقطت، وهكذا خرج الحليف الأول للغزو اليوناني من الساحة السياسية الدولية، وهو ما أسهم في دحرهم.
بمجرد استعادة «أتاتورك» زمام الأمور في الأناضول باشرت حكومته في أنقرة سعيها لتغيير شروط «اتفاقية سيفر» المجحفة التي وقعتها حكومة السلطان. وسعت بريطانيا لإعادة التفاوض مع تركيا على أساس وفد من حكومة أنقرة ينضم إليه ممثلون من حكومة السلطان، إلا أن «أتاتورك» رفض ذلك تمامًا وأصر على أن يكون الوفد موحدًا تحت قيادة حكومته في أنقرة. وأرسل بالفعل وفدًا للتفاوض مع الحلفاء في مدينة لوزان السويسرية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1922، واستطاع الوفد بحنكة كبيرة، مستغلاً الانتصارات المتتالية للجيش التركي، فرض أمر واقع جديد على الحلفاء.
وبناء عليه، بعد أشهر من المفاوضات في عام 1923، جرى التوقيع على «اتفاقية لوزان» التي أعادت لتركيا هيبتها من جديد من خلال الاعتراف بـ«حكومة أنقرة» ممثلاً شرعيًا للدولة التركية الجديدة وإعادة منطقة تراقيا – أو تراكيا – الشرقية (في أقصى الغرب) إليها، فضلاً عن ترسيم الحدود وفقًا لرؤية «أتاتورك» بالسيطرة على هضبة الأناضول كاملة. كذلك، ألغت الاتفاقية جميع الامتيازات الممنوحة للأجانب المقيمين في السلطنة العثمانية وفقًا لقوانين بلادهم وليس للقانون العثماني. ولكن الأمر الوحيد الذي أصرّ عليه الحلفاء كان منع تركيا من تحصين مضيقي الدردنيل والبوسفور وبحر مرمرة.
وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1923 أعلن عن قيام «الدولة التركية» خلفًا للدولة العثمانية من حيث مفهوم توارث الدول في القانون الدولي. ولكن حقيقة الأمر أن «أتاتورك» كان قد سبق له اتخاذ خطوة مهمة للغاية في نوفمبر من عام 1922 من خلال برلمان أنقرة، إذ قرّر أن يفصل بين «السلطنة» من ناحية و«الحكومة» بخلع السلطان محمد السادس من إدارة الدولة واعتماد حكومة أنقرة ممثلاً شرعيًا وحيدًا للدولة العثمانية.
غير أن الخطوة الأكثر تأثيرًا على مستوى العالم الإسلامي تمثّلت بقرار البرلمان التركي في 1923 إعلان «الجمهورية التركية»، وهو ما وضع مؤسسة ومفهوم الخلافة على المحك... ولكن ليس لفترة طويلة. إذ تبع ذلك يوم 3 مارس (آذار) 1924 تصويت البرلمان التركي لصالح «إلغاء الخلافة العثمانية» بالكامل، وهو ما ترك حالة من الفراغ السياسي في مفهوم الشرعية داخل الكثير من الدول والمجتمعات الإسلامية. ولكن على الصعيد التركي كانت خطوة بالغة الأهمية للجمهورية الفتية التي كان لـ«أتاتورك» رؤية مختلفة لمسارها، فما فعله «أتاتورك» غيّر مسار التكوين السياسي والفكري للدولة التركية وفصلها عن ماضيها السياسي والثقافي من خلال تطبيق صارم لمفاهيم القومية التركية والتي شملت مسح جزء كبير من التراث الفكري العثماني.
وعلى الرغم من أن الدولة التركية تعدّ من الناحية السياسية والقانونية الوريث الشرعي للدولة العثمانية، فهي من الناحية الفعلية والآيديولوجية مثلت انقطاعًا كاملاً عن هذه الجذور.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.