من التاريخ: أتاتورك ومولد الدولة التركية

ضياء غوكالب
ضياء غوكالب
TT

من التاريخ: أتاتورك ومولد الدولة التركية

ضياء غوكالب
ضياء غوكالب

انهارت الدولة العثمانية في أعقاب خسارتها الحرب العالمية الأولى أمام الحلفاء، وتعرضت أراضيها للاحتلال كما تابعنا في الأسبوع الماضي. إذ استولى الأسطول البريطاني على المضايق التركية (مضيقي البوسفور والدردنيل)، بينما احتلت اليونان غرب الأناضول بمباركة بريطانية، وتوسع الأرمن في شرق الأناضول، وفرض الحلفاء على السلطان العثماني الضعيف «اتفاقية سيفر» Sevres عام 1920، التي جرّدت الدولة العثمانية من كل ممتلكاتها الأوروبية والعربية والفارسية على حد سواء. وهكذا، لم يتبق لها إلا دويلة صغيرة في وسط الأناضول، بيد أن الصمود التركي على أيدي القائد العسكري مصطفى كمال «أتاتورك» غير مصير هذه الدولة.
تشير المصادر التاريخية المؤكدة أن «أتاتورك» (أي «أبو الأتراك») كان ابنا لموظف في الجمارك بولاية سلانيك (تيسالونيكي، في شمال شرقي اليونان اليوم) العثمانية، ولقد التحق بالجيش العثماني واستطاع أن يتدرج إلى أن أصبح قائد الجبهة الشمالية العثمانية، بعدما استطاع وقف الإنزال الغربي المعروف بحملة «غاليبولي». وبفضل هذا الإنجاز صار بطلاً قوميًا، إلا أن السلطان لم يكن على دراية بأن أعظم قواده كان يعتنق فكر حركة «تركيا الفتاة» التي كانت تريد أن تطوّر الدولة العثمانية من دون الإخلال بهويتها الأممية الإسلامية، ولكنه سرعان ما فارق هذا الفكر الذي لم يعد يروق له لاعتقاده الراسخ بأن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يكون على أنقاض فكر أممي.
وبالتالي، انجذب «أتاتورك»، الذي كان قارئًا جيدًا للفكر الغربي، إلى الفكر القومي وأهمية بناء الدول على مفاهيم مرتبطة بقومية الدولة وهويتها الحقيقية. ثم إنه تأثر كثيرًا بفكر الكاتب العثماني ضياء غوكالب Ziya Gokalp وغيره ممن دعوا لبناء دولة تركية حديثة قوامها القومية التركية المبنية على التاريخ الطويل للقبائل التي استوطنت الأناضول وتبنت اللغة التركية، وميراثها اللغوي والتاريخي والثقافي الموحّد الذي يمكن على أساسه بناء مقومات دولة أكثر تجانسًا من الإمبراطورية المتفرقة المترهلة فكريًا وعسكريًا وإداريًا.
هذا التوجه القومي الصريح وضع «أتاتورك» في صدام مباشر مع حركة «تركيا الفتاة» و«جمعية الاتحاد والترقّي» التي كانت تحكم البلاد بعدما فشل السلطان العثماني في كبح جماحها. ومع تسليم السلطان بـ«اتفاقية سيفر» المهينة وتقليص الدولة إلى دويلة صغيرة في وسط الأناضول، انشق «أتاتورك» عن حكومة إسطنبول ورفض الانصياع للاتفاقية وشروطها، متخذًا من مدينة أنقرة عاصمة له. ومنها أطلق حرب تحرير «الوطن» وطرد الحلفاء واليونانيين من البلاد وإزاحة التهديد والاحتلال الأرميني لها شرقًا.
على الفور، أصدر السلطان أوامر باعتقال القائد المتمرد، غير أن جنرالات الجيش العثماني رفضوا الانصياع للأوامر وانضموا إلى «أتاتورك» في نضاله، فشكّل الرجل برلمانًا وحكومة موازيين، وبدأ رحلة تأسيس «الدولة التركية» بحرب استقلال واسعة النطاق.
ووجه «أتاتورك» جهوده الأولية لبناء جيش قوي مؤهل لمواجهة الغزاة وقوات السلطان العثماني، التي كانت قد سعت للقضاء على حكومة أنقرة، إذ جهز السلطان جيشًا عثمانيًا قويًا وحركه صوب أنقرة لتصفية الحكومة الموازية. وقدمت بريطانيا يومذاك دعمًا مباشرا حيث رأت في «حكومة أنقرة» الوليدة» ندًا قويًا لأهدافها السياسية والاستراتيجية بالنسبة لتركيا. إلا أن جيش «أتاتورك» استطاع التغلب على الجيش العثماني، كما أن حنكته السياسية جعلته يتفادى الصدام المباشر مع القوات البريطانية المسيطرة على المضايق التركية.
وبعدها، بمجرد أن تخلص من خطر حكومة السلطان، وجه «أتاتورك» جهوده نحو الجبهة الشرقية حيث هاجم القوات الأرمينية بقوة وحزم، واستطاع أن يحرر الأناضول من وجودهم، ولكن ليس قبل أن يتوغل الجيش اليوناني حتى أصبح على بعد أقل من ستين كيلومترًا من العاصمة أنقرة في مدينة سقارية. وهنا تجلّت الموهبة العسكرية لهذا القائد الفذ الذي هدّد أي متراجع من جيشه بالقتل. وهو ما مكنه من إلحاق هزيمة منكرة باليونانيين هزيمة أدت إلى انسحابهم غربا.
وكان «أتاتورك» قد تعمد ترك اليونانيين يتقدمون صوبه بكل قوة كي يطيل خطوط إمدادهم ما يسهل مهمة ضربهم. وحقًا، بمجرد هزيمتهم، تحرك «أتاتورك» بجيشه صوب الغرب لدحر فلولهم، وانقض عليهم في مدينة أفيون قره حصار خلال أغسطس (آب) 1922، وهزمهم مرة أخرى. ثم كانت المعركة الفاصلة بالقرب من مدينة إزمير التي دارت في 9 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، وفيها حقق القائد التركي انتصاره الكبير وأجلاهم عن البلاد تمامًا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما ساعد على هزيمة الجيش اليوناني المعتدي أن حكومة آرثر لويد جورج في بريطانيا قد سقطت، وهكذا خرج الحليف الأول للغزو اليوناني من الساحة السياسية الدولية، وهو ما أسهم في دحرهم.
بمجرد استعادة «أتاتورك» زمام الأمور في الأناضول باشرت حكومته في أنقرة سعيها لتغيير شروط «اتفاقية سيفر» المجحفة التي وقعتها حكومة السلطان. وسعت بريطانيا لإعادة التفاوض مع تركيا على أساس وفد من حكومة أنقرة ينضم إليه ممثلون من حكومة السلطان، إلا أن «أتاتورك» رفض ذلك تمامًا وأصر على أن يكون الوفد موحدًا تحت قيادة حكومته في أنقرة. وأرسل بالفعل وفدًا للتفاوض مع الحلفاء في مدينة لوزان السويسرية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1922، واستطاع الوفد بحنكة كبيرة، مستغلاً الانتصارات المتتالية للجيش التركي، فرض أمر واقع جديد على الحلفاء.
وبناء عليه، بعد أشهر من المفاوضات في عام 1923، جرى التوقيع على «اتفاقية لوزان» التي أعادت لتركيا هيبتها من جديد من خلال الاعتراف بـ«حكومة أنقرة» ممثلاً شرعيًا للدولة التركية الجديدة وإعادة منطقة تراقيا – أو تراكيا – الشرقية (في أقصى الغرب) إليها، فضلاً عن ترسيم الحدود وفقًا لرؤية «أتاتورك» بالسيطرة على هضبة الأناضول كاملة. كذلك، ألغت الاتفاقية جميع الامتيازات الممنوحة للأجانب المقيمين في السلطنة العثمانية وفقًا لقوانين بلادهم وليس للقانون العثماني. ولكن الأمر الوحيد الذي أصرّ عليه الحلفاء كان منع تركيا من تحصين مضيقي الدردنيل والبوسفور وبحر مرمرة.
وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1923 أعلن عن قيام «الدولة التركية» خلفًا للدولة العثمانية من حيث مفهوم توارث الدول في القانون الدولي. ولكن حقيقة الأمر أن «أتاتورك» كان قد سبق له اتخاذ خطوة مهمة للغاية في نوفمبر من عام 1922 من خلال برلمان أنقرة، إذ قرّر أن يفصل بين «السلطنة» من ناحية و«الحكومة» بخلع السلطان محمد السادس من إدارة الدولة واعتماد حكومة أنقرة ممثلاً شرعيًا وحيدًا للدولة العثمانية.
غير أن الخطوة الأكثر تأثيرًا على مستوى العالم الإسلامي تمثّلت بقرار البرلمان التركي في 1923 إعلان «الجمهورية التركية»، وهو ما وضع مؤسسة ومفهوم الخلافة على المحك... ولكن ليس لفترة طويلة. إذ تبع ذلك يوم 3 مارس (آذار) 1924 تصويت البرلمان التركي لصالح «إلغاء الخلافة العثمانية» بالكامل، وهو ما ترك حالة من الفراغ السياسي في مفهوم الشرعية داخل الكثير من الدول والمجتمعات الإسلامية. ولكن على الصعيد التركي كانت خطوة بالغة الأهمية للجمهورية الفتية التي كان لـ«أتاتورك» رؤية مختلفة لمسارها، فما فعله «أتاتورك» غيّر مسار التكوين السياسي والفكري للدولة التركية وفصلها عن ماضيها السياسي والثقافي من خلال تطبيق صارم لمفاهيم القومية التركية والتي شملت مسح جزء كبير من التراث الفكري العثماني.
وعلى الرغم من أن الدولة التركية تعدّ من الناحية السياسية والقانونية الوريث الشرعي للدولة العثمانية، فهي من الناحية الفعلية والآيديولوجية مثلت انقطاعًا كاملاً عن هذه الجذور.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».