ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

الدوافع الخفية لمعارك الرئيس الأميركي الجديد مع الصحافيين

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى
TT

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

باستثناء القنوات الإعلامية المملوكة لإمبراطور الإعلام الأميركي الأسترالي روبرت مردوخ، تشن كبريات المؤسسات الإعلامية الأميركية حربا شرسة على الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ أعلن ترشحه للرئاسة. ويبادل ترمب وأنصاره هجمات الإعلام التقليدي بهجمات مضادة لا تقل شراسة، رغم غياب التكافؤ بين الطرفين.
ومن المفارقات أن هذه الحرب، التي لا تزال مستمرة حتى الآن، خدمت ترمب أكثر مما أضرت به أثناء حملته الانتخابية، إن لم تكن هي سبب وصوله للرئاسة... كونها حققت له انتشارًا واسعًا لم يحصل عليه أي مرشح آخر غيره لا في المراحل التمهيدية ولا في التصفيات اللاحقة. كما أسفرت هذه الحرب عن انتشار وجهات نظره المثيرة للجدل انتشار النار في الهشيم.
بغض النظر عما إذا كان دونالد ترمب، قبل انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة، قد تعمد إشعال الحرب وإثارة الجدل حول نفسه لتحقيق الهدف المشار إليه، أم أنه يؤمن بالفعل بما كان يجاهر به من آراء مثيرة للجدل، فالشيء المؤكد هو أنه لم يعد في صالحه استمرار هذه الحرب أو تصاعد الهجمات الإعلامية عليه. ذلك أنه لم يعد مرشحًا بل بات رئيسًا يتوجب عليه التخفيف من المعارك الجانبية. ولكن، مع ذلك نجد أنه يواصل صب الزيت على نار هذه الحرب بدلاً من محاولة إطفاء لهيبها.
وحقًا، لم يكف ترمب، منذ لحظة إعلان فوزه، عن استهداف الإعلام والإعلاميين وإطلاق أبشع الأوصاف عليهم، مثل قوله في خطاب ألقاه أمام موظفي وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، في مقر الوكالة بولاية فيرجينيا إن الصحافيين «من أقل البشر أمانة على وجه الأرض». وبدلاً من محاولة كسب الإعلاميين أو التخفيف من نقمتهم عليه، يبدو ترمب مصمما على خوض حرب وراء أخرى ليس فقط ضد إعلام التيار الليبرالي... بل وحتى مع جزء من الإعلام المعبّر عن التيار الوسطي في الحزب الجمهوري ذاته الذي ينتمي إليه. فما هو السبب يا ترى في إصرار الرئيس على خوض مجابهات لا تبدو نتائجها في صالحه بعد فوزه في الانتخابات؟!
لقد أجاب ترمب بنفسه عن هذا السؤال من دون أن يُطرح عليه عندما قال في خطاب تنصيبه يوم 20 يناير (كانون الثاني) الماضي إنه يمثل «حركة سياسية تاريخية لم يسبق العالم أن عرف لها مثيلا من قبل». وتابع أن يوم تنصيبه سيحفر في الذاكرة بأنه اليوم الذي استعاد فيه الشعب السلطة في الولايات المتحدة. ورغم استعادة «الشعب» للسلطة، حسب تعبير ترمب، فإن المهمة لم تنته بوصوله للرئاسة بل ستستمر لتحقيق أهداف الحركة السياسية التي قال إنه يمثلها.
يفسر ما جاء في هذا الخطاب معنى أبرز إعلان تلفزيوني إبان حملته الانتخابية للرئاسة الذي تضمن الشعار الشهير «إنها حركة وليست حملة انتخابية».
أما ما هي هذه الحركة التي يعتقد ترمب أن التاريخ سيتذكرها في صفحاته، وتستحق منه أن يغامر بخوض عداوات ومجابهات مع تيارات سياسية ذات أذرع إعلامية قوية، فهذا ما لم يكشفه ترمب بصورة مباشرة لا في خطاب التنصيب أو ما سبقه من خطابات. بل إنه أغفل ذكره في إعلانات الترويج لبرنامجه الانتخابي من ليلة إعلانه العزم على خوض السباق الرئاسي في منتصف عام 2015، إلى ليلة فوزه بالرئاسة يوم 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، ولكن عدم الإعلان الصريح عن أهداف حركته لا يعني أن الرسالة لم تفهم أو لم تصل إلى المعنيين بها من طرفي المعادلة في المجتمع الأميركي.
الحقيقة يصعب على أي مراقب تفسير أقوال وأفعال ترمب ما لم يتوصل أولا إلى فهم أهداف حركته والأسباب التي أدت لنجاحه في انتخابات الرئاسة على حساب عائلتين سياسيتين في الولايات المتحدة وهما عائلة بوش وكلينتون.
هناك وسيلة سهلة يمكن عن طريقها فهم أهداف ترمب حركته السياسية وهي أخذ أجزاء من خطاباته وتصريحاته أو تغريداته والإبدال بكلمة «الشعب» أو «الناس» أو «الصالحين» أو ما شابه ذلك كلمة «البيض»، أي أفراد الغالبية البيضاء في المجتمع الأميركي. ومن يريد التعمق أكثر في هذا الأهداف عليه أن يستعيض عن كلمة «الأشرار» ومرادفاتها في أقواله بكلمة «الأقليات».
فعندما قال ترمب في خطاب تنصيبه إن التاريخ سيذكر يوم 20 يناير 2017 باعتباره اليوم الذي استعاد الناس فيه حكم هذه الأمة، فإنه يقصد على الأرجح أنه اليوم الذي استعاد فيه البيض» حكم الأمة.
* التمييز الإيجابي
الواقع أنه يوجد في الكونغرس الأميركي كتل للمشرّعين السود تهتم بالدفاع عن حقوق الناخبين السود. وتوجد منظمات تهتم بحقوق المهاجرين من ذوي الأصل اللاتيني، وكذلك جمعيات تعنى بحقوق المسلمين الأميركيين، إلى آخر القائمة. كذلك تُعطي الجامعات أفضلية في المنح الدراسية ومعايير القبول للأميركيين من ذوي الأصل الأفريقي، وتعطي الحكومة الفيدرالية الأفضلية في القروض العقارية والتجارية والوظائف للأقليات وغيرها من الميزات والفوائد. وعندما تتساوى مؤهلات متنافسين اثنين في أي سباق وظيفي أو دراسي... فإن الأولوية لا تكون لصالح الأبيض من بين المتنافسين، وذلك تطبيقا لقوانين سنها أجداد الرجل الأبيض منذ سنين للأخذ بيد الأقليات ورفع مستواها.
ولقد عرفت جميع فترات التاريخ المعاصر للولايات المتحدة حركات سياسية تتبنى الدفاع عن حقوق الأقليات بمختلف أطيافها، وحقق النضال السياسي لهذه الأقليات مكاسب لا يستهان بها. ولكن منح هذه المكاسب للأعراق المختلفة داخل المجتمع الأميركي لم يشكل خطرًا وجوديًا على الغالبية البيضاء. وما كانت الغالبية البيضاء في أي فترة من تلك الفترات تخشى على نفسها من أن تصبح أقلية، بل إن أبرز المناضلين من أجل منح الأقليات حقوقها الإنسانية كانوا قادة من البيض. وكمثال كان الرئيس إبراهام لنكولن، وهو رجل أبيض لا أسود، أكثر من خدم الأقلية السوداء ووضع قواعد تحريرها من الرق.
إذن ما الذي استجد ليشعر الأميركيون البيض بالقلق؟ ولماذا بات البيض يعتبرون أنفسهم أنهم «المنسيون»؟ يمكن العثور على إجابة لهذا التساؤل بالإنصات للهمس الخافت في أوساط الغالبية البيضاء بأنهم يتآكلون عدديًا لصالح الأقليات. وتزداد المخاوف أكثر من أن نسبة المواليد بين الأقليات وموجات الهجرة من المجتمعات غير الأوروبية باتت تهدد البيض بأن يغدوا أقلية ربما بعد أقل من نصف قرن. ولقد استغل ترمب ذلك فخاطب مكامن القلق لدى هؤلاء. ويمكن القول إن أهم أهداف حركته غير المعلنة هي الحفاظ على مصالح الغالبية البيضاء، وأولها أن تظل غالبية للأبد.
لتحقيق ذلك - حسب مناصري ترمب - لا بد للغالبية البيضاء أن يكون لها الحق كبقية أطياف المجتمع الأميركي في تنظيم نفسها والدفاع عن مصالحها، كما يفعل السود واللاتينيون والمسلمون، ولا يجوز أن يظل «البيض» وحدهم الذين يستهجن الجميع تنظيمهم أنفسهم أو دفاعهم عن مصالح تجمع بينهم كفئة من لون واحد. كذلك – حسب مناصري ترمب أيضًا - ما عاد البيض غالبية مثيرة لقلق الأقليات بل باتت هي القلقة، ولا سيما من خطر منبعه سبع دول إسلامية، يجب محاصرته في منابعه.
قد يكون دونالد ترمب أبرز القلقين لكنه لم يكن أولهم ولن يكون آخرهم. لقد غدا رمزًا لهؤلاء مع أنه كثيرا ما تبرأ من الجماعات العنصرية التي تجاهر بعنصريها، أو بتفضيل الجنس الأبيض على ما عداه. ولكن، على ما يبدو فإن الحركات السياسية الساعية للحفاظ على حق الغالبية البيضاء بألا تفقد وضعها كغالبية حققت أبرز نجاحاتها بوصول ترمب لموقع القرار الذي سيؤثر على حياة عشرات الملايين من البشر ليس خلال الأربع سنوات من رئاسته، بل ربما على مدى السنوات الـ40 المقبلة.
ونظرا لخطورة الموقع الذي يشغله ترمب، فإن المنابر الإعلامية القوية المعبّرة عن تيار واسع من ذوي التوجه الليبرالي - المصدوم بخسارة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون الرئاسة - تعمل على التمهيد لخطوات إسقاطه بحملات إعلامية قاسية. وبين هؤلاء نسبة كبيرة من البيض لهم رؤية مختلفة عن رؤية ترمب ويريدون تسخير الأقليات لخدمة رؤيتهم بدلا من استعدائهم. وبما أن الغالبية البيضاء منقسمة بالتساوي تقريبًا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ربح الديمقراطيون خلال السنين الماضية باستمالة الأقلية السوداء إلى جانبه. وردا على ذلك بدأ الجمهوريون يخططون لاستمالة الأقلية اللاتينية لتحقيق التوازن. وبما أن الحزب الديمقراطي قدم للبيت الأبيض رجلا أسود تعبيرًا عن حسن النوايا، كانت خطة الحزب الجمهوري أن يقوم بخطوة مشابهة بتبني السيناتور ماركو روبيو أو السيناتور تيد كروز (وهما من أصل لاتيني) لمعركة الرئاسة. وخاض الاثنان المنافسة بالفعل، لكن ترمب نجح في إثارة مخاوف الغالبية البيضاء وتمكن من تحويل أعداد كبيرة من مؤيدي الحزب الديمقراطي البيض للتصويت لصالحه بسبب انحيازه لمصالحهم العرقية.
* مهمة لم تنته بعد
الواضح أن ترمب مصمم على خوض المعارك السياسية والإعلامية مع خصومه بلا توقف. وأهم المؤشرات على ذلك أنه يعد العدة لإطلاق قناة تلفزيونية خاصة به، حسب ما أكدته مصادر إعلامية أميركية متعددة. ويأمل ترمب من قناته أن تتولى مهام الدفاع عنه وعن أجندته ومواجهة ما تطرحه قناة «سي إن إن» التي يعتقد أنها تناصبه العداء، وبالتالي يجب تفنيد «أكاذيبها»، كما كرر ترمب في غير مناسبة.
طبعًا الرجل ليس ساذجًا أو محدود الذكاء، ومن ثم، فالتفسير الأقرب إلى المنطق هو أن الرجل فعلا يعتبر نفسه مسؤولاً عن حركة سياسية لم تنته مهمتها، وأن أمامه مشوارا طويلا من الصراع لتحقيق أكبر قدر من الأهداف التي كانت سببا لانتخابه. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار المواجهة الإعلامية مع الخصوم عرضًا من أعراض صراع أكثر عمقا بين تيار واسع يمثله وتيار أوسع من الخصوم داخل الحزبين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري، يبدو أنه مصمم على تصيد أخطاء الرئيس الجديد والعمل على نزع شرعيته وإسقاطه من الرئاسة بكل الوسائل قبل إكمال فترته الأولى، لأنه أصبح خطرا على التوازن القائم. أما الأخطر من كل ذلك فهو أن المعارك الإعلامية أخذ تتطاول المؤسسات الأمنية الحكومية، ومنها الاستخبارات.
* أبرز جولات الحرب
كانت القرارات التي اتخذها ترمب قبل انقضاء أسبوعين من وجوده في البيت الأبيض من بين الأخطاء التي وجد فيها المتربصون به من خصومه وجبة دسمة ومغرية لشن حملة إعلامية على رئاسته هي الأكثر شراسة من كل ما سبقها من حملات.
وقد يظن البعض للوهلة الأولى أن دافع المنتقدين لما اتخذته إدارة ترمب من إجراءات ضد رعايا سبع دول إسلامية هو الغيرة على الحق. ولكن على الأرجح أن أكثر المسيسين من مهاجميه أرادوا فقط استغلال إجراءات ترمب ضد المسلمين كـ«حق يراد به باطل»، فالهدف الفعلي لهم هو تأليب العالم على الرجل ودحرجة الصخور في طريقه لإعاقته عن تنفيذ أجندة لا تروق للخصوم، وفي ذات الوقت تعبيد طريق آخر قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق رغبتهم بمحاكمته أو عزله.
ترمب، من جهته، يستعين في مواجهاته الراهنة بأسلحة قوية أهمها شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية اليمينية، التي يملكها روبرت مردوخ ملكية غير مباشرة وتقدم ما يخدم ترمب من مضامين عن طريق تضخيمها لمخاوف الأميركيين من «الإرهاب المتستر في أثواب اللاجئين أو المهاجرين». وهذه الجولة من الحرب الإعلامية لا تزال مستمرة ولم تظهر نتائجها بعد.
أما الجولة التي سبقتها، فهي تلك التي استهدفت ترمب خلال الفترة الواقعة بين 8 نوفمبر 2016 (يوم إعلان فوزه في الانتخابات) و20 يناير 2017 يوم تنصيبه. وكان من اللافت أن الحملة على ترمب في الفترة المشار إليها ركزت على هدف التشكيك في شرعيته عن طريق تضخيم الدور الروسي في إيصاله إلى الرئاسة.
إلا أن ترمب رد بذكاء، مدركًا أن أنجع وسيلة من وسائل الدفاع هي الهجوم، فبادر لاتهام أنصار منافسته الديمقراطية بتزييف ملايين الأصوات العائدة لموتى أو مهاجرين غير شرعيين ومطالبا بالتحقيق في ذلك، وسرعان ما رد عليه الخصوم بدفاع كاسح بأن الانتخابات كانت سليمة 100 في المائة، ولم يشبها أي تزييف... فكان هذا ما يريد سماعه بالضبط لما فيه من اعتراف بشرعية وصوله للرئاسة، في حين تناسى المدافعون عن سلامة الانتخابات ما سبق أن قالوه بأن التدخل الروسي تمخض عن فرض نتائج لم يكن الناخبون الأميركيون راغبين بها.
ونجح ترمب أيضًا بإفشال خطة التشكيك بولائه لبلاده عن طريق إبراز تعاملاته التجارية مع روسيا «العدو التقليدي» لأميركا، إلا أن النكسة الإعلامية الكبرى للخصوم وقعت عند لجوئهم لاختلاق قصة خضوعه للابتزاز الروسي بتسريب معلومات عن فضائح أخلاقية مختلقة زعم مصدرها أنها وقعت له قبل سنوات في فنادق موسكو باستدراج من الاستخبارات الروسية. وزعم التسريب أن الروس تمكنوا من تصويره في أوضاع مخلة بالآداب. ولتفنيد هذه المزاعم لجأ ترمب إلى سلاح «تويتر» الفتاك بإيصال وجهة نظره إلى جمهور من المتابعين يزيد عن عشرين مليون شخص. وساعده في ذلك أن القنوات والمنابر المناوئة له تتناقل كل تغريدة من تغريداته تقريبا بغرض السخرية منه، لكنها تحقق في ذات الوقت هدفًا عكسيًا يصب في مصلحته وهو إيصال رأي الرجل إلى جمهور واسع النطاق بدأ يرحب بأفكاره أو على الأقل يتمعن فيها. وانتهت هذه الجولة بالتالي لصالحه.
أما الجولة الأطول والأسبق زمنيا من الحرب الإعلامية بين ترمب وخصومه المتعددين أو منافسيه من جمهوريين وديمقراطيين فهي التي تمت في خضم الحملة الانتخابية، فكان لها ما يبررها، لأن من الطبيعي أن يتخلل الحملات الانتخابية للرئاسة مواجهات حامية. ولكن حملة ترمب الانتخابية لم تكن عادية، إذ إنها دشنت الحرب الإعلامية منذ اليوم الأول فيها عندما أعلن ترمب ترشحه للرئاسة، من بهو برجه في نيويورك المعروف باسمه. وتضمن إعلان الترشح أول تصريح أثار الجدل ولفت الانتباه إلى ترمب من قبل من ساءهم التصريح قبل أن يصل مضمونه إلى المتفقين معه. لقد تضمن تبيان الهدف الأول من الترشح هدف «إنقاذ أميركا» من موجات الهجرة غير الشرعية خصوصا من المكسيك. ووصف ترمب القادمين من الحدود الجنوبية لبلاده بأنهم تجار مخدرات وقتلة ولم تعرف الولايات المتحدة منهم إلا الشر. وتعهد في بيان الترشح ببناء جدار عازل على الحدود لوقف موجات التسلل وتحصين سوق العمل في الولايات المتحدة لمنع القادمين الجدد من سرقة الوظائف من المواطنين الأميركيين.
أنتجت هذه التصريحات زوبعة كبيرة وردود فعل لم تتوقف، وكان الرجل يعلم تماما أنه بهذه التصريحات سيخسر بلا شك أصوات الأقلية اللاتينية، لكنه لم يكترث. وبمجرد أن خمدت الزوبعة مع ذوي الأصول اللاتينية، فتح جبهة مع الأميركيين الأفارقة. ثم بمجرد أن هدأت هذه الجبهة، فجر مفاجأته الكبرى باقتراح منع دخول المسلمين الأراضي الأميركية. ومرة أخرى كان يعلم أنه يخسر أصوات الأقليات فيما كان منافسوه حريصين كل الحرص على أصوات تلك الأقليات.
* حسابات الربح والخسارة
واتضح لاحقا أن ترمب، بعقلية التاجر المحترف، كان يعلم أكثر من منافسيه بأن أي مكسب لا يمكن أن يأتي من دون خسارة. ومن أجل الحصول على أصوات وتعاطف الغالبية البيضاء لم يتردد في التضحية بأصوات الأقليات، بل والمجاهرة في العداء لهم. وكان الرجل بارعًا في الحساب والتعامل مع الأرقام، إذ إنه أدرك أنه لكي يكسب أربعة ناخبين من البيض على سبيل المثال فإن عليه أن يخسر على الأقل ناخبا واحدا من السود وآخر من اللاتينيين الهيسبانيكيين، أما المنافسون فقد أعماهم حرصهم على أصوات الأقليات عن التفكير بأصوات الغالبية فكانت النتائج مخيبة لآمالهم، ومن كسب منهم ناخبا من الأقليات خسر مقابله ثلاثة ناخبين من الأغلبية البيضاء، بمن في هؤلاء المرشحين هيلاري كلينتون التي كانت أقواهم وقاب قوسين أو أدنى من الرئاسة.
ولم تكن حملة ترمب الإعلامية حملة عادية، إذ إن هجماته لم تقتصر على الخصوم أو المنافسين السياسيين بل وزعها في كل الاتجاهات عن عمد. وكانت أهم غنائم معاركه هي التي حصدها من فتح جبهة مع الإعلام والإعلاميين، حيث تعمد أن يهاجم شبكات أخبار واسعة الانتشار أو مقدمي برامج مشاهير في هذه المحطات، مثل «فوكس نيوز» في بداية الأمر ثم «سي إن إن» لاحقا. وفي الوقت الذي كان ترمب يهاجم هذه المحطات فلم يكن يقاطعها بل يستفيد منها ويتعمد استثارتها للحصول على ردود فعل كانت بالنسبة له بمثابة دعاية مجانية لحملته ساعدته نهاية المطاف في تحقيق هدفه نحو الرئاسة.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».