التونسيون في صدارة الجماعات المتطرفة... لماذا؟

علماء دين يلومون «علمانية» بورقيبة وبن علي... وخصومهم يتهمون «التهميش»

التونسيون في صدارة الجماعات المتطرفة... لماذا؟
TT

التونسيون في صدارة الجماعات المتطرفة... لماذا؟

التونسيون في صدارة الجماعات المتطرفة... لماذا؟

تتابع وسائل الإعلام التونسية نشر مزيد من أسماء نجوم الرياضة والفن والمشاهير والأثرياء، من الجنسين، الذين غادروا تونس خلسة وانضموا إلى «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية أو الأصولية المتشددة في ليبيا وسوريا والعراق، إلى جانب مئات من العاطلين عن العمل وأبناء الأحياء الفقيرة في العاصمة والمدن الداخلية. وفي حين تتضارب الدراسات الأمنية والسياسية في تقديراتها لنسبة التونسيين بين مقاتلي «القاعدة» وتنظيم داعش الإرهابي المتطرف، تؤكد مصادر تونسية وأممية مختلفة أن حاملي الجواز التونسي أصبحوا في الصفوف الأولى للراديكاليين والمتشددين العرب، وبالذات، الجماعات المتورطة في أبشع أنواع الجريمة المنظمة والتهريب والإرهاب في دول الساحل والصحراء الأفريقية وأوروبا والمشرق العربي. فكيف تطوّرت سلوكيات قطاع عريض من شباب تونس، المعروف باعتداله وانفتاحه، نحو التشدد والتطرف والجريمة المنظمة والإرهاب؟ وهل تكفي الحلول الأمنية والعسكرية لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة، أم تحتاج إلى إجابات فكرية ودينية وثقافية واجتماعية اقتصادية؟ أم ستحتاج البلاد إلى استراتيجية شاملة جديدة في معالجتها للأسباب العميقة للإرهاب، وبينها الإخفاق التربوي والفراغ الديني وغياب سياسات تنموية ناجحة تفتح الآفاق للشباب والأجيال الصاعدة؟
بمعزل عن الحركات الإرهابية والمتطرفة، يفسّر رئيس وزراء تونس الأسبق الهادي البكوش، وكثرة من علماء الاجتماع والدراسات السياسية والفكرية في تونس بروز «ظاهرة الإسلام السياسي المعاصر» و«حركة الاتجاه الإسلامي» التونسية قبل 40 سنة بـ«السياسات العلمانية» التي اعتمدتها الدولة في عهدي رئيسي تونس، منذ استقلالها عن فرنسا حتى اندلاع الثورات العربية في 2011، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
* خطوات بورقيبة
ويسجل عمر التريكي، الباحث في العلوم السياسية، أن بورقيبة ومستشاريه أصدروا منذ صيف 1956 أول قانون للأحوال الشخصية في العالم العربي يمنع تعدد الزوجات، ويسمح للمرأة بطلب الطلاق، وهو ما اعتبره جانب من الرأي العام التونسي تمردًا على التشريع الإسلامي، واستفزازًا لمعتقدات الشعب. بينما يعتبر المؤرخ عبد الجليل التميمي، أن من بين ما استفز المتديّنين باكرًا في تونس إقدام بورقيبة بعد سنتين فقط من الاستقلال عن فرنسا على إغلاق جامع الزيتونة، وهو أحد أعرق جامعات العالم الإسلامي. واتخذ بورقيبة ورفاقه هذه الخطوة على الرغم من الدور الذي لعبه طلاب هذه الجامعة وأساتذتها في قيادة حركة التحرّر الوطني ضد فرنسا منذ مطلع القرن العشرين.
وفي 1961، دعا بورقيبة الشعب مرارًا عبر الإذاعات للإفطار في شهر رمضان. كما أزاح غطاء رأس ثلة من النساء التونسيات باللباس التقليدي الوطني في مواكب رسمية بثها التلفزيون الرسمي تحت مبرّر «مواكبة قوانين الحداثة والتقدم ومتطلبات التنمية». وكانت كل هذه الإجراءات سببا، حسب مفتي تونس السابق حمدة السعيد وعدد من الفقهاء «في إحداث فراغ في مجال المرجعيات العلمية والفقهية والثقافية الإسلامية وتشجيع التشدّد والتطرف». وبما أن «الطبيعة لا تحب الفراغ»، كما يقول وزير الشؤون الدينية السابق نور الدين الخادمي، سيطر على كثير من الجوامع والفضاءات الثقافية الإسلامية خطباء «من الدعاة البسطاء والأميين والوعاظ الذين يفتقرون إلى مؤهلات علمية، ولا يستوعبون الفكر الإسلامي المستنير والتفسير العقلاني الذي عرف به أعلام جامعة الزيتونة ومصلحوها ورواد التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر كالمشايخ سالم بوحاجب، ومحمد الخضر حسين، وعبد العزيز الثعالبي، والطاهر بن عاشور، والطاهر حداد، والفاضل بن عاشور، ومحمد المختار السلامي».
* علمانية أم إرهاب؟
ولا يتردّد بعض زعماء الجيل الأول من التيار الإسلامي الشبابي التونسي، مثل منصف بن سالم، وزير التعليم العالي بعد ثورة 2011، في تحميل حكومات بورقيبة وبن علي مسؤولية بروز ظواهر التطرف والتشدد والأصولية والإرهاب في تونس. بل إن راشد الغنوشي، زعيم حزب «حركة النهضة» وصف المتطرفين الإرهابيين بـ«أبناء بن علي»، واعتبر أنهم من «ضحايا الفراغ الديني والعلمي، وحملات القمع التي تعرّض لها رموز الفكر الإسلامي التونسي المعتدل طوال العقود الماضية. كذلك، يرجع رضوان المصمودي، رئيس مركز دراسة الإسلام والديمقراطية في تونس، انتشار الراديكالية باسم الدين إلى ما يصفه بـ«السياسات العلمانية المتأثرة بالمنهج الفرنسي الجاكوبي المتطرف»، الذي يختلف عن علمانية البلدان الأنجلو سكسونية «حيث لا تمارس الدولة إرهابًا على الأفراد والمجتمع من أجل إلزامها بالعداء للدين تحت يافطة التمرّد على الكنيسة ورجالاتها».
وفي الواقع، يطنب بعض رموز التيارات الإسلامية التونسية المتشددة، منذ سقوط حكم بن علي عام 2011، في التشهير بما يصفونه «ديكتاتورية النظام العلماني التونسي إبان عهدي بورقيبة وبن علي، رغم إعلان النظام التونسي منذ عام 1987 المصالحة مع الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي، وزيارات بن علي مرارًا للجوامع التونسية وللحرمين الشريفين لأداء مناسك العمرة. كما يتهكمون على صفة «حامي حمى الدين» التي كانت تطلق على بن علي، الذي يتهمونه بدوره بالترويج لقيم أوروبا الغربية المتعارضة في كثير من مسلّماتها مع مرجعيات الثقافة العربية الإسلامية.
* خلط التدين والإرهاب
من ناحية أخرى، يسجل محمد القوماني، نائب رئيس «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» سابقًا، أن من بين أسباب انتشار التطرّف والغلو بين الشباب التونسي في العقدين الماضيين «القمع الشديد الذي تعرض له عشرات الآلاف من نشطاء حركة الاتجاه الإسلامي المعتدلة التي غيّرت اسمها إلى (حركة النهضة) عام 1988 بعد تعهد كاذب من السلطات بمنحها تأشيرة حزب قانوني». بينما يعتبر المفكر والكاتب أيمن بن سالم، أن من بين «غلطات النظام التونسي خلال السنوات الـ55 من عهدي بورقيبة وبن علي، الخلط بين الحق في التديّن وممارسة الشعار في الجوامع والانتماء إلى أحزاب سياسية معارضة ذات ميول دينية». كما فسّر الكاتب علي اللافي بروز التشدّد الديني بـ«بعض القوانين والمناشير الزجرية خلال العقود الماضية»، وبينها قانون منع الحجاب المعروف بمنشوري 108 لعام 1981 و29 لعام 1987 اللذين حضرا ارتداء «الزي الطائفي» (أي تغطية شعر الرأس بالنسبة للفتيات والنساء) ومنشور غلق المساجد فور انتهاء الصلاة.
وحقًا، تداخلت الأبعاد العقائدية والسياسية في الصراعات بين قطاع من شباب تونس وسلطاتها، إبان عهدي بورقيبة وبن علي، عندما كشفت المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الدولية جوانب من الاضطهاد والتعذيب الذي تعرض له متدينون من الشباب. وتعمّقت القطيعة بعدما شملت الإيقافات والمضايقات المراهقين وكهولاً من الجنسين عند خروجهم من الجوامع بتهمة «التعاطف» مع «حركة النهضة» أو مع جماعات كـ«جماعة الدعوة والتبليغ» التي تمنع عناصرها من الخوض في السياسة. ويعتبر المفكّر والمؤرخ محمد ضيف الله، أن هذا المناخ أفرز نواة «المجموعات المتطرفة التكفيرية» و«التنظيمات الدينية المسلحة» المتأثرة بأدبيات زعماء الجماعات الأصولية المتشددة في الجزائر ومصر وأفغانستان والعراق. وتزايد وزن أولئك الزعماء بسبب تمادي السلطات في مضايقة نشطاء المجتمع المدني والمعارضة العلمانية المعتدلة وقيادات «حركة النهضة» بمن فيهم من غادروا السجون وعادوا من المنافي واعتزلوا الحياة السياسية.
ومن ثم، تفاقمت عقدة الاضطهاد لدى نسبة من الشباب المتدين والمحافظ بنتيجة استفحال التهميش للمرجعيات والنخب الوطنية وللجامعيين والمثقفين الإسلاميين المستنيرين، مثل مجموعة «اليسار الإسلامي» أو «الإسلاميين التقدميين» و«الإسلاميين المستقلين»، التي تزعمها مثقفون معتدلون وكتاب حقوقيون بارزون مثل أحميدة النيفر، وصلاح الجورشي، وعبد العزيز التميمي. وكانت الحصيلة أن عوّض أميون متدينون الفقهاء والمفكرين والعلماء في وقت تابعت وزارتا الداخلية والشؤون الدينية سياسة عزل الأئمة، الذين عُرفوا بقدر من الجرأة في تناول القضايا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وإن كانوا مقربين من الحزب الحاكم.
* الإسلام الاحتجاجي
وعلى الرغم من وقوف المنظمات الحقوقية وبعض الأحزاب الليبرالية واليسارية المعتدلة ضد قمع الإسلاميين ومحاكماتهم، تعمق العداء بين تيار من الشباب المتديّن والأطراف الماركسية والليبرالية؛ لأن السلطات تحالفت مع شخصيات من رموز المعارضة العلمانية ضمن استراتيجية «فرّق تسد». ولذلك؛ أدى سقوط حكم بن علي إلى انفجار صراعات إعلامية سياسية وعقائدية عنيفة بين قطاعات من اليساريين والليبراليين والإسلاميين العائدين من المنافي والسجون. وزاد الأزمة عمقا اتهام العلمانيين للإسلاميين بتحمل «المسؤولية السياسية» لاغتيال السياسيين المعارضين الكبيرين شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي.
وبرزت منذ الأسابيع الأولى بعد الثورة دعوات للثأر من النخب العلمانية التي اتهموها بالتحالف مع النظام السابق ضدهم في سنوات الجمر. وحملوهم مسؤولية المشاركة في شيطنة المعارضة ذات الميول الإسلامية طوال عقود من حكم بورقيبة وبن علي. وتسببت هذه الصراعات في توسيع الفجوة بين فئات واسعة من الشبان التونسيين المتأثرين بالمدارس اليسارية والليبرالية الغربية من جهة، وخصومهم المتأثرين بمن وصفهم عالم اجتماع ووزير سابق بزعماء «الإسلام الاحتجاجي».
* نصفهم خريجو جامعات
لكن إنفاق الدولة التونسية لنحو ثلث موازنتها للتربية والشؤون الاجتماعية جعل من تونس واحدة من الدول العربية القليلة التي فرضت إجبارية التعليم وحق الالتحاق بالجامعات بالنسبة لكل الفائزين بالبكالوريا. وقدّر الصادق شعبان، وزير التعليم العالي السابق، عدد طلبة الجامعات التونسية من الجنسين في آخر عهد بن علي بنحو نصف مليون في بلد يحوم عدد سكانه حول العشرة ملايين فقط. لذلك؛ كشفت دراسات جديدة عن فسيفساء المتشددين والإرهابيين التونسيين أن نحو نصفهم لديهم مستوى جامعي. وأكدت هذه الحقيقة دراسة ميدانية اجتماعية سياسية أعدها مركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب، التابع لـ«المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» عن «ظاهرة الإرهاب في تونس». وأوضحت عضو هذه الهيئة العلمية لهذه الدراسة إيمان قزارة، أن المركز جمع 384 ملفا قضائيا خلال الفترة المتراوحة بين سنتي 2011 و2015 جرى خلالها تتبّع أكثر من 2224 متهما بالإرهاب، واختيرت عينة تتكوّن من 1000 متهم. الدراسة بينت، أن ثلاثة أرباع المتهمين من بين أصحاب الـ2224 ملفا شباب دون الثلاثين، وأن 40 في المائة من العينة التي تم اعتمادها في الدراسة لهم مستوى جامعي، بينما درس أكثر من 95 في المائة منهم في المعاهد الثانوية. وكان الاستنتاج الكبير من قبل هؤلاء الباحثين الاجتماعيين والنفسانيين وغيرهم توجيه اتهامات للمنظومة التربوية التي أصبحت تعطي أولوية للكم على حساب الكيف.
في السياق نفسه، أبرز فتحي التوزري، عالم النفس الاجتماعي ومساعد وزير الشباب التونسي السابق بعد ثورة 2011، العلاقة بين انتشار الأفكار الراديكالية في صفوف خريجي المعاهد والجامعات وحالة الإحباط التي يعيشها الشباب التونسي جراء انسداد الآفاق المهنية وأزمة سوق الشغل.
* جذور التنظيمات المسلحة
ويشاطر بعض الأكاديميين والباحثين الجامعيين بعض الجهات التي تفسر تزايد عدد الأصوليين التكفيريين التونسيين ببروز المجموعات المسلحة في تونس والجزائر قبل الثورات العربية في 2011، وكان من بين تلك التنظيمات المسلحة ما عرف في تونس بـ«مجموعة سليمان» التي رفعت السلاح ضد الدولة في نهاية 2005 ومطلع 2006. وكان من بين زعماء تلك المجموعة سيف الله بن عمر بن حسين، المعروف بتسمية «أبو عياض» الذي يعتبر منذ سنوات من بين أخطر قيادات الإرهابيين في تونس وليبيا. وكان من بين تلك المجموعات المسلحة خلية «القاعدة» في مدينة جرجيس على الحدود التونسية الليبية في 2005، التي تبين أنها وظفت شبكة الإنترنت مبكرًا للتواصل مع تنظيم القاعدة في أفغانستان ومسلحين من تنظيمات قريبة من «القاعدة في المغرب الإسلامي» وغيرها من الجماعات المسلحة المنتشرة في جبال الجزائر وصحاريها منذ مربع قرن. ولقد تعاقبت في تونس أواخر عهد بن علي عمليات الكشف عن جماعات مسلحة متشددة دينيًا ذات امتداد مغاربي، بينها «تنظيم أسد بن الفرات» و«تنظيم عقبة بن نافع» و«الجماعة الإسلامية المقاتلة».. وغيرها.
وكانت تلك المجموعات من بين نواة بروز تنظيم «أنصار الشريعة» في تونس وليبيا وغيره من الحركات الأصولية الراديكالية بعد سقوط بن علي والقذافي في 2011. ومن المفارقات أن بعض زعماء تلك المجموعات المتشددة والمسلحة كان قد أُخلي سبيلهم في عهد بن علي، أو مباشرة بعد اندلاع الثورات العربية ضمن إجراءات «العفو العام» التي صدرت لفائدة الغالبية الساحقة من المساجين والموقوفين.
* التهميش... وانسداد الآفاق
لكن محمد التومي، الخبير في دراسة أدبيات الجماعات المتطرفة والتنظيمات التكفيرية المسلحة، يرفض أن يفسر التحاق آلاف الشباب التونسيين والمغاربيين ببؤر التوتر في ليبيا وسوريا بالإرث عن مرحلة ما قبل الثورات العربية فقط. ويورد أن «الدراسات السوسيولوجية والفكرية التي أجراها مع فريق من باحثي الجامعة التونسية، أكدت العلاقة بين تعاظم تأثير التأويلات المتشددة للقرآن والسنة والمفاهيم الخاطئة عن الجهاد وإحساس الشباب بالتهميش والإخفاق والإحباط». وفي السياق ذاته، اعتبر سامي براهم، الباحث في المركز التونسي للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية ـ سيريس ـ، أن من بين أبرز دوافع التحاق الشباب التونسي بالمجموعات المتشددة «استفحال معاناته بسبب التهميش الاجتماعي والثقافي، وفشل سياسات الدولة في مجالات التحصين الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي والأخلاقي والمهني والمادي».
* لماذا يغادرون تونس؟
لكن، حتى إذا سلمنا جدلاً بالأسباب الكثيرة لنزوع قطاع من الشباب التونسي نحو التشدد، لماذا اختارت نسبة منهم الهجرة من تونس إلى بلدان أوروبية وعربية وإسلامية كثيرة... وأصبح بعضهم يتزعم الجماعات المسلحة فيها؟ سامي براهم اعتبر أن السبب هو عجز المجموعات المتشددة عن أن توطن لمشروعها وأفكارها داخل تونس، حيث توسع هامش الحريات بعد «ثورة يناير»2011، وأن المجتمع التونسي المنفتح والمتسامح ليس لديه قابلية ليكون حاضنا للأفكار المتشددة ولهذه الجماعات التكفيرية؛ فاضطرت إلى مغادرة تونس التي يعتبرها بعضهم «بلاد كفر» يجب الهجرة منها إلى «بلاد الإسلام»، أي مناطق نفوذ «داعش».
في سياق متصل، تتوقف فتحية السعيدي، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة التونسية، عند سلوكيات فئة الشباب في هذه المرحلة العمرية. وتعتبر أن من بين تلك السلوكيات «المعاناة من اضطرابات نفسية واجتماعية كثيرة منها أزمة الهوية وتحقيق الذات». وتربط السعيدي بين هجرة الشباب التونسي إلى أوروبا وليبيا وسوريا وغيرها من بؤر التوتر بنية ما يعتبرونه «جهادًا»؛ لأن «التعليم لم يعد يضمن الوظيفة وفتح الأفاق... وعندما تستفحل ظاهرة انسداد أحلام الشباب الذي يعاني أصلا هشاشة نفسية وعاطفية وتربوية، يفكر في الهرب من واقعه مهما كان الثمن، وإن كان البديل مجهولاً وأكثر قتامة».
* الاستقطاب عن بعد
على صعيد آخر، بعدما تعاقبت حالات هجرة آلاف الشباب رغم الإجراءات الأمنية المشددة التي فرضتها السلطات التونسية في الحدود البرية والمطارات والموانئ، تأكد أن الأمر لم يعد يتعلق بمجرد مسارات تسفير محدودة للشباب من قبل مجموعات محلية، بل بشبكات استقطاب إقليمية ودولية نجحت في توظيف شبكات التواصل الاجتماعي في اصطياد ضحاياها وتسهيل رحلاتهم. وكشفت التحقيقات الاجتماعية التي شملت بعض المدن المهمشة في الجهات الغربية والجنوبية للعاصمة والمدن الداخلية، عن أن انسداد الآفاق الاجتماعية والسياسية والثقافية زاد هشاشة المجتمع التونسي وأضعفت سلطة الأبوين والأسرة. وبات مزيد من المراهقين والشباب يحلم بالهجرة القانونية والسرية إلى أوروبا أو سوريا وليبيا، عرضة لخطر الاستقطاب من تنظيمات منحرفة أو إرهابية، حسب الجامعي رضا الشكندالي.
ومن بين ما عقد الأوضاع، وفق عدد من الباحثين، هيمنة القيم الغربية والسلوكيات التحررية التي لا تحكمها أي ضوابط في بعض الأوساط البورجوازية في وقت تشكو فيه الفئات الفقيرة والمؤسسات التربوية ووسائل الإعلام من تراجع تأثير برامج التوعية الدينية والأنشطة التربوية والثقافية والرياضية، التي تعيد الاعتبار إلى مرجعيات العائلة الناجحة والمجتمع المتضامن. كما يرى آخرون أن استقطاب «مافيات» تدعم الجريمة المنظمة والإرهاب لشباب تونسي يتحقق بسهولة «بسبب انسداد الأفق أمامهم عن واقع بلدهم الذي انخرط في الحداثة بنسق سريع منذ عشرات السنين». وهنا يحذر هؤلاء من مضاعفات غياب مشروع وطني يساهم في ملء الفراغ الفكري والروحي والثقافي، ويساهم في تحسين ظروف الشباب الاجتماعية والاقتصادية والنفسية؛ مما يبرر اندفاع جزء منهم نحو «الانتقام من الآخر البعيد، وهو الغرب، والآخر القريب بالداخل، وهو الدولة وحلفاؤها السياسيين».
في السياق نفسه، اعتبر عبد اللطيف الحناشي، الحقوقي والباحث في التاريخ المعاصر، أن رفض الشباب واقعه، وتطلعه إلى إحداث تغيير جذري يحقق ذاته سهّل من عملية تجنيد كثيرين تحت يافطات ثورية حينا، وأخرى دينية حينا آخر. وسجل، أن الشباب كان سهل الاستقطاب على مر التاريخ، وبخاصة في مراحل الأزمات والحروب. وتابع أن «التأويلات المتشددة للدين والقراءات المتطرفة للمستجدات السياسية جاءت نتيجة تزايد تأثير القنوات الفضائية التي تبث خطابا دينيا أصوليًا متطرفًا، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي التي تجيد تلك التنظيمات استخدامها لاستقطاب الشباب».
ولعل من بين مبررات ارتفاع نسبة الواقعين في فخها بين التونسيين، تعميم شبكة الإنترنت، ومنظومات الاتصال الافتراض في بلدهم منذ عقدين بنسب تفوق أغلب الدول العربية.
* تشكيك بالمعطيات
أخيرًا، يشكك إعلاميون وجامعيون وسياسيون من تيارات مختلفة في صدقية الإحصائيات والتقديرات حول عدد الإرهابيين التونسيين داخل البلاد وخارجها. إذ يتساءل الخبير في الشؤون الاستراتيجية، فيصل الشريف، ما إذا كان التونسيون يحتلون حقًا المرتبة الأولى بين مسلحي «داعش» و«القاعدة»، أم أن هدف بعض الأوساط «تشويه الثورة السلمية التونسية ونموذج الاعتدال والتوافق السياسي في البلد العربي الوحيد الذي نجح فيه نسبيا الانتقال الديمقراطي بعد ثورات 2011»؟
أيضًا، فاضل موسى، البرلماني والعميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية، قال إنه أصبح يشكك في المعطيات التي تقدمها السلطات الأمنية التونسية والدولية حول الإرهابيين التونسيين في الخارج. وهو يرى أن «التضارب في الأرقام المقدمة يدل على نقص المعلومات لدى الأجهزة الأمنية ومجموعات البحث الاجتماعية عن ظاهرة... يتميز منخرطوها بسريتهم ومناورتهم وقدرتهم على مغالطة كل سلطات الرقابة، وبعدم كشف كل أهدافهم من رحلاتهم إلى الخارج في بلد مفتوح مثل تونس».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.