جاك دريدا... فيلسوف التفكيك و«التشتيت»

عد الكتابة كومة من التوليفات والإحالات والهوامش

جاك دريدا
جاك دريدا
TT

جاك دريدا... فيلسوف التفكيك و«التشتيت»

جاك دريدا
جاك دريدا

وسط محيط مزدحم بالاختلافات، ولد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في البيار قرب مدينة الجزائر في 15 يوليو (تموز) 1930. تنازعته الأعمال الأدبية والفلسفية منذ المرحلة الثانوية، حيث درس مبكرا نصوص برغسون وسارتر في الأعوام 1947 و1948. وفي منتصف الستينات من القرن العشرين طرح ورقة: «البنية، العلامة، واللعب، في خطاب العلوم الإنسانية»، حينها بات اسمه متداولا بشكل جدي في الأوساط الفلسفية والنقدية، لتتكون أدوات دريدا في التفكيك والاختلاف من خلال كتبه التي توالت: «الصوت والظاهرة»، الذي يعده أحب أعماله إليه، و«الكتابة والاختلاف»، وفي السبعينات أصدر كتبا منها: «مواقع»، و«هوامش الفلسفة» و«التشتيت».
لم يخلق أداة للقبض، أو الوصول، بقدر ما أراد من أدواته الاختراق، والإحراج، والتشويش، والبحث عن الهوامش في المتون، وعن مساحات البياض في الورق المسود. نحت مفهوم «Déconstruction» الذي يصفه بكل مناسبة بمعنى، ذلك أن تعريف التفكيك هو نفي لوظيفته، فلكل ممارسة يقوم بها المفهوم خطها الذي يكيف المعنى والوظيفة والغرض، غير أنه أتاح للناقد أن يدخل من الشبابيك إذا أوصدت الأبواب، من الصعب تعريف أداة مهمتها فحص كل تعريف، وتفكيكه وإحراجه وتسميمه. أطروحاته، وكتاباته ليست للتثبيت أو التاريخ أو التوضيح، بقدر ما هي لزلزلة البنى والسطوح والمعاني والحصون، ومن هنا اختلافه الشهير مع المدافعين عن الحداثة والحوار والديمقراطية.
انشغل بالخطاب والصورة والعلامة والهوية والجسد، والكتابة، وكل معالجة لها حمولتها المفهومية، وأدواتها اللغوية والفلسفية، كان دريدا يحارب المنهجية عبر الخروج من المناهج، وبالنسبة له فإن «لكل نص حكاية مغايرة، عدم استمرارية النبرة والمفردات والجملة نفسها والمهارة في الواقع، كما لو أنني في الحقيقة لم أكتب أبدا، ولم أعرف الكتابة، وكلما شرعت في نص جديد مهما كان بسيطا انتابتني الحيرة أمام المجهول والمتعذر بلوغه، واعتراني شعور ساحق بالخيبة. إن كل ما كتبته هو الآن معدم بل كأنما قد ألقي من فوق».
الكتابة لديه ليست امتدادا خيطيا، أو ترابطا نصيا أو صيغة نحوية، بل هي معارك داخل الكلمات والجمل، وفي فضاء النص ثمة حالات حروب وانتقام بين الكلمات، مما يتيح لها المجال للصراع وكأن القلم هو محرك عرائس، ولكأن الكتابة لعبة وممارسة متناقضة أو متخالفة ومتداخلة، هذه هي حالة نص دريدا غير المكتمل دائما، وكتبه غير المنجزة أصلا، ذلك أن وظيفة المطرقة التي يحملها أنها لا تكمل بقدر ما تضرب أو تحدث كوة، أو تكشف ثغرة، أو تثير الغبار.
والكتابة بمعنى ما لدى دريدا هي اشتباك مع مئات الصفحات من كتابة هي في الوقت نفسه ملحاحة، راقصة وإضمارية، كتابة تقوم كما رأيت بطبع شطباتها ويحمل داخلها كل مفهوم في سلسلة لا متناهية من الاختلافات، كتابة تحيط نفسها وتلفها بكومة من الحذر والإحالات والهوامش، والاستشهادات والتوليفات والملحقات، في ذلك التشابك لا يكون «عدم إرادة قول شيء» تمرينا مريحا كل الراحة، من هنا تكون الكتابة تشبيكا بقدر ما هي تشتيت، وتفريق بقدر ما هي جمع.
ثم إن الفلسفة لديه مجال معرفي لم يمت، يكتب: «إنني أحاول الوقوف عند الخطاب الفلسفي، أقول حدا لا موتا، ذلك أنني لا أومن مطلقا بما شاعت تسميته راهنا بموت الفلسفة، انطلاقا من هذا الحد أصبحت الفلسفة ممكنة، وبات ممكنا من ثم تحديدها بوصفها المجال المعرفي الذي يشتغل داخل ضرورات وعوائق أساسية، وتقلبات مفاهيمية، يستحيل محاربة الفلسفة من خارجها».
ومن ثم يستعيد حال مفهوم «الجينالوجيا» ذلك أن «تفكيك البناء الفلسفي سيكون هو تفكير الجينالوجيا المحكمة البنية لهذه المفاهيم، وذلك بالطريقة الأكثر إخلاصا والأكثر محايثة، لكن في الوقت ذاته وانطلاقا من خارج معين لا تستطيع هذه البنية تعيينه أو تسميته، سيكون ذلك التفكيك تحديدا لما أخفاه ذلك التاريخ أو منعه، صانعا بذلك نفسه كتاريخ على أساس ذاك القمع».
إشكالية الكتابة التي طرحها دريدا تعرضت لنقد واسع من فلاسفة من أهمهم هانز جورج غادامير، ويورغن هابرماس، وبول ريكور. وفي مؤتمر للفلسفة عقد في كندا في منتصف السبعينات خاطب ريكور دريدا ناقدا: «هناك علو في التركيز على إشكاليات الكتابة، مصدره أنك تتعرض لقضايا لا تعالجها كما ينبغي، في ميدانها العلمي الصحيح، من حيث كونها قضايا تتعلق بتحليل الخطاب، لقد وقفت عند الحدود السيميولوجية، ولم تقترب قط من التخوم السيمانطيقية». بينما ينتقد هابرماس تفكيكية جاك دريدا بسبب عدم توفر الأخير على شرط منطقي لغوي متفق عليه للتفاهم والتواصل، الذي يسمح بالحوار بين الأفراد، واعتبر تفكيكية دريدا مجرد شكل آيديولوجي مناوئ للعقلانية، ويدخل على خط تأييد نقد هابرماس الفيلسوف غادامير.
من الصعب أن تكتب عن فيلسوف تفكيكي من أجل إيضاح مشروعه، ذلك أن طريقة طرحه ليست للتوثيق أو الشرح أو الدراسة، ثمة فلسفات عظمتها في الأدوات لا النتائج، وقيمتها في الإحراج لا الإجابة، وذكاؤها في التشتيت لا الجمع، دريدا كان من طينة أولئك الفلاسفة الذين ينثرون النقائض، يكتب الهامش في المتن، بينما يخبئ المتن في الهامش. رحل في 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2004 تاركا رصيدا من جدل الحياة والسياسة والكتابة والفلسفة، ترك خرائط وحوارات وكراسات من أخطر ما كتب في القرن العشرين، ومن جميل ما يعبر عن شغب تفكيكيته: «إن صورة الفكر هي التي توجه خلْق المفاهيم، فهي تشبه الصرخة، في حين أن المفاهيم غناء».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.