بروتاغوراس من منظور أفلاطون الذي أساء فهمه

فيلسوف العقل العملي... كان مساوقًا لشروط الاجتماع السياسي الإغريقي

بروتاغوراس من منظور أفلاطون الذي أساء فهمه
TT

بروتاغوراس من منظور أفلاطون الذي أساء فهمه

بروتاغوراس من منظور أفلاطون الذي أساء فهمه

في محاورة «بروتاغوراس» التي كتبها أفلاطون، في زمن كان لا يزال بين الأثينيين من زامن ذلك السوفسطائي وأنصت إليه مباشرة، نقرأ:
«سقراط: قل بالأحرى من أحكم الرجال الأحياء في زمننا، إذا شئت أن تمنح هذا اللقب لبروتاغوراس». (أفلاطون، محاورة «بروتاغوراس»، 309 د). لكن في محاورة تالية جد متأخرة زمنيًا، حيث كتبها أفلاطون بعد ثلاثين سنة من موت سقراط، نقرأ توصيفًا مغايرًا تمامًا:
«سقراط: (...) نعجب بحكمته، أي بروتاغوراس، وكأنه إله، بينما هو في الحقيقة لا يساوي، لا أقول أي شخص آخر، بل لا يساوي حتى شرغوف (صغير الضفدع)». (أفلاطون، محاورة «ثياتيتوس»، 161ج - د).
التفكير في بروتاغوراس معترض إذن بإشكالات كثيرة، فالمتن الأفلاطوني يرفعه حينًا إلى مقام أحكم الناس، ثم يخفضه حينًا آخر إلى ما دون الضفدع.
فكيف السبيل إلى موضعة بروتاغوراس في المقام الذي يليق به لكي يتبين لنا مستوى حكمته؟ هل هي أقل من حكمة الضفادع، أم أنها ترقى عليها بشيء ما؟!
ثمة اتفاق على أن بروتاغوراس كان أول من تسمى بالـ«سوفسطائي»، وفق الوارد في المتن الأفلاطوني. وسياق ذكر ذلك كان عند حديث أفلاطون عن الممارسة التعليمية التي كانت تمارس في العهود القديمة من قبل الشعراء، حيث يقول إن السوفسطائيين عوضوا نموذج الشاعر في تأدية تلك الوظيفة، وكان بروتاغوراس أولهم. وفي تلك المشابهة الأفلاطونية، بين هذا السوفسطائي والشاعر الجوال، تقريب يفيد أن السوفسطائيين عوضوا الشعراء في الوظيفة التعليمية، ومارسوها بدلاً عنهم، مع تغيير في محتواها وقصديتها بما يتناسب مع مستجدات الاجتماع السياسي الإغريقي، في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد.
غير أنه إذا كان ثمة اتفاق على أن بروتاغوراس هو أول سوفسطائي، وإذا كان تعيينه كمبتدئ للممارسة السوفسطائية لا يثير أي إشكال، فإن المشكلة الكبرى هي في الخلوص إلى تعيين موقفه الفكري، على نحو مقارب بأمانة لمداليل ملفوظات شذراته. ومصدر إشكالية البحث في تعيين ماهية الفكر البروتاغوراسي آت من حيثيتين اثنتين:
الأولى هي أن المصدر الذي نستقي منه هو المصدر الأفلاطوني. والحال أنه ليس بالمصدر الموثوق، بل هو أول وأكبر مصدر خصم للسوفسطائيين. وعليه، ينبغي الاحتراس من الاعتماد عليه.
أما الحيثية الثانية للإشكالية، فهي أن شعور الاحتراس لا يقدم بحد ذاته حلاً، لأن الاحتراس من أفلاطون لا يعني الانصراف عنه إلى غيره، إذ لا نبالغ لو قلنا، من جهة تعيين المصدر، إنه لا وجود لذلك الغير، فحتى تلميذه أرسطو الذي غالبًا ما يخالفه، نجده في الموقف من السوفسطائية عامة، ومن بروتاغوراس خاصة، يكرر أحكام أستاذه بكل وثوق. كما أن النظر فيما تلا اللحظة اليونانية من أزمنة فلسفية يكشف أن بروتاغوراس ظل يُستحضر باللبوس ذاته الذي بدا به في المحاورة الأفلاطونية. بل المدهش أن نلقى في لحظتنا المعاصرة استمرارًا لهذا اللبوس، حتى عند بعض كبار المؤرخين الذين وعوا خطورة الجدار الأفلاطوني، واستشعروا وجوب تخطيه، إذ تجدهم يقفون عند أسفل ذلك الجدار، لا لينقروا فيه لعل مسلكًا ينفتح منه لمجاوزته، بل يشتغلون، بوعي أو بلا وعي، على مزيد من توثيقه وتمتينه.
ويكفي لتمثيل ذلك أن نورد محصول المشروع التأريخي للمؤرخ الألماني هنريش ريتر Heinrich Ritter، إذ وجدنا له كلامًا حصيفًا يؤكد فيه أن «لدينا بالنسبة لمذهب بروتاغوراس (...) ما بسطه أفلاطون في ثياتيتوس. بالتأكيد إن أفلاطون لم يحترس من إدخال أشياء كثيرة في هذا المذهب لا تنتمي إطلاقًا إلى بروتاغوراس. كما أن الكُتَّابَ اللاحقين نسبوا أيضًا إلى بروتاغوراس ما قاله أفلاطون. ويبقى دائمًا السؤال هو: هل اعتمدوا على شيء سوى سلطة أفلاطون». (هنريش ريتر، تاريخ الفلسفة، المجلد 1، الترجمة الفرنسية، ص 598)
لكن عندما ننظر إلى حاصل القراءة التي أنتجها ريتر، نجده هو نفسه غير محترس من الأفلاطونية، حيث ردد كثيرًا من أقاويلها. وعليه نقول: كان حريًا به أن يضيف نفسه إلى أولئك الكتاب اللاحقين الذين عاب عليهم أنهم «نسبوا إلى بروتاغوراس ما قاله أفلاطون» لأن ما فعله ريتر بالضبط هو تكرار القراءة الأفلاطونية، رغم أنه سبق قول إنها نسبت إلى بروتاغوراس ما ليس له.
وإذا كان هذا حال مؤرخ يعي وجود التحريف الأفلاطوني، وحضور عمليات نحل في المواقف التي نسبت لذلك السوفسطائي، فكيف بغيره الذي أخذ الصورة السوفسطائية التي رسمها المتن الأفلاطوني بوصفها صورة صادقة، أو أنه لم يفكر حتى في الاستفهام عن مدى صدقيتها؟
وإذا كان هذا هو منتهى ما وصل إليه من هو مدرك للتحريف الأفلاطوني، حيث لم يكرره فقط، بل زاد من توكيد التحريف وممارسته، فذاك توكيد على أن ثمة جدارًا أفلاطونيًا يحجز إمكان المغايرة في النظر إلى السوفسطائيين. ولا نحتاج للتعليل بأكثر من القول إن السبب يرجع إلى أن ذلك الجدار يصعب تخطيه أو مداراته لأن المادة التي يمكن أن يتقوم بها أي بحث في فكر بروتاغوراس - وفكر السوفسطائيين عامة - هي من لبنات ذلك الجدار ذاته. وعليه، فإن إجراءنا لمسلك الاحتراس المنهجي لا يعني استبعاد المتن الأفلاطوني، إنما نطمح إلى استعماله ضده، أو بتعبير أكثر ترسيمًا: إننا نطمح إلى تفكيك ذلك الجدار، واستعمال لبناته في غير منحاه في البناء.
لكن كيف نزعم إمكان استعمال أفلاطون ضد أفلاطون في التأريخ لفلسفة بروتاغوراس؟
أوضحنا في المقتطفين اللذين مهدنا بهما أعلاه أن ملامح الصورة التي رسمها أفلاطون عن هذا السوفسطائي، في محاورة «بروتاغوراس»، مختلفة عن الصورة الواردة في «ثياتيتوس»، حيث نلاحظ أنه لم يعامله في المحاورة الأولى بمقدار الاستهانة والتسفيه الذي عامل به كثيرًا من السوفسطائيين، بل لنا أن نقول إنه اقتصد كثيرًا في مشاكسته. بل أكثر من ذلك، نرى في بعض المقاطع ما يفيد الإعجاب به، إذ فضلاً عن وصفه بـ«أحكم الرجال»، في المقطع الذي أوردناه أعلاه، نجد في المشهد الذي سبق فيه ذكر وصوله إلى أثينا ما يفيد الإعجاب والشهرة اللتين يحظى بهما، إذ يسرد سقراط كيف كان نائمًا في باكر الصبح، عندما طرق أبقراط بابه موقظًا إياه لإبلاغه خبرًا «سارًا»، هو أن بروتاغوراس وصل إلى أثينا، بينما رأينا في محاورة «ثياتيتوس» كيف سارع أفلاطون إلى نفي الحكمة عنه مستنزلاً إياه إلى ما دون الضفدع.
هذا على مستوى التناقض في ترسيم الشخصية. أما على مستوى تفاصيل طروحاتها المعرفية، ففي المتن الأفلاطوني تناقضات تستوجب الإظهار والكشف، إذ يقدم لنا صورتين مختلفتين عن الموقف الفلسفي البروتاغوراسي.
ففي محاورة «ثياتيتوس»، يتأول أفلاطون بروتاغوراس بوصفه غارقًا في الإبستمولوجيا النسبية، إلى درجة الشكية وانتفاء الحقيقة، بينما في المحاورة الموسومة باسمه، يقدم لنا هذا السوفسطائي بوصفه ذا مواقف معرفية لها سند وثبات، وليست محمولة على حراك النسبية والشكية. فأي الصورتين أصدق في ترسيم الملمح الفكري لبروتاغوراس؟ هل صورته بوصفه مفكرًا نسبيًا رافضًا لوجود حقيقة ثابتة، وفقًا أقوال «ثياتيتوس»، أم صورته بوصفه فيلسوفًا له ثوابت معرفية ومواقف مكينة الأساس، كما يبدو في المحاورة الأفلاطونية الموسومة باسمه؟
إن استعمال أفلاطون ضد أفلاطون لا يعني مجرد وضع اليد على تناقض الصور والمواقف، بل الانتقال منها إلى المعايرة والمقايسة، بقصد الخلوص إلى الترجيح. وهنا مكمن الصعوبة ومحل المفاكرة. والسبيل إلى ذلك لا يكفي فيه مجرد بيان اختلاف المعطيات المنثورة بين صفحات المحاورات، بل لا بد من بناء فرضية منهجية دقيقة تمكننا من معايرة الشواهد والنصوص وتحقيق الأقاويل.
وفرضيتنا التي نقترحها على الباحثين في الفكر الفلسفي، هي أن بروتاغوراس فيلسوف العقل العملي الذي كان مساوقًا لشروط الاجتماع السياسي الإغريقي، وهو في منحاه هذا مغاير تمام المغايرة لفيلسوف المثل والمفارقة الماهوية. وفي تلك المغايرة، نزعم وجود مفتاح لفهم سوء الفهم الذي سقط فيه أفلاطون!



مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي
TT

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرحي المحلي والعربي والعالمي.

في «مدخل» مواكبة لحفل تكريم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في إطار الدورة السابعة من مهرجان «المهن التمثيلية للمسرح المصري»، تثميناً لإسهاماته ومجهوداته في دعم ورعاية المسرح والفن في الوطن العربي؛ إذ تسلَّم عبد الله بن محمد العويس، رئيس دائرة الثقافة، ممثلاً عن حاكم الشارقة، درع التكريم، خلال افتتاح المهرجان في العاصمة المصرية القاهرة مساء التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 2024.

وبمناسبة انعقاد مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي في دورته الثامنة من 13 إلى 17 ديسمبر (كانون الأول) 2024، تضمَّن العدد استطلاعاً ضمَّ آراء مجموعة من الفنانين الإماراتيين حول مسيرة المهرجان ودوره في فتح آفاق جديدة للممارسة المسرحية المحلية والعربية، كما ضمَّ باب «رؤى» مقالتين حول التحديات والحلول الإخراجية والتمثيلية التي يقترحها المهرجان الذي ينظم في فضاء مفتوح بمنطقة «الكهيف» على العروض المشاركة فيه. في باب «قراءات» نطالع مجموعة مراجعات حول أبرز العروض التي شهدتها المسارح العربية في الفترة الأخيرة، حيث كتبت آنا عكاش عن عرض «ساعة واحدة فقط» للمخرج السوري منتجب صقر، وكتبت إكرام الزقلي عن مسرحية «بلا عنوان» أحدث أعمال المخرجة التونسية مروى المناعي، وتناول شريف الشافعي مونودراما «ودارت الأيام» للمخرج المصري فادي فوكيه، وتناول سامر محمد إسماعيل «تبادل إطلاق نار» للمخرجة السورية هيا حسني، وكتب إبراهيم الحسيني عن مسرحية «وحدي في الفراغ» للمخرج المصري رأفت البيومي.

في باب «حوار» مقابلة أجراها إبراهيم حاج عبدي مع الكاتب السوري أحمد إسماعيل إسماعيل الذي حاز عدداً من الجوائز في مجال الكتابة المسرحية للأطفال، وتحدث في الحوار عن بداياته، وأبرز المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي شكَّلت شخصيته، وإشكاليات التأليف المسرحي للصغار.

وفي «أسفار» كتب الحسام محيي الدين عن رحلته إلى المملكة المغربية، حيث تعرف إلى جوانب من مشهدها المسرحي، انطلاقاً من متابعته للدورة السادسة والعشرين من المهرجان الدولي للمسرح الجامعي الذي نظمته جامعة الحسن الثاني.

وفي «أفق» مقابلة أجراها محمود سعيد مع الناقدة والباحثة والمترجمة المسرحية المصرية مروة مهدي التي أنجزت رسالتها للدكتوراه حول المتفرِّج المفترض في مسرح برتولد برشت، وأسهمت أخيراً في نقل أربعة من أبرز المؤلفات النظرية المعاصرة في مجال المسرح من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية.

في باب «متابعات» مقالة عن تجربة المسرحي الفلسطيني جورج إبراهيم في تأسيس وإدارة مسرح «القصبة» الفلسطيني، وحوار مع الممثلة المغربية هند بلعولة، وآخر مع المخرجة التونسية وفاء الطبوبي. وكتب صبري حافظ في «رسائل» عن تجربة الفنان المصري خالد عبد الله الذي نجح في فرض نفسه على المسرح الإنجليزي في السنوات الأخيرة، وفي الباب ذاته نقرأ تغطيات للدورة الحادية عشرة من مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة، والدورة الرابعة عشرة لمهرجان الإسكندرية المسرحي الدولي، والدورة الثامنة لمهرجان المسرح العماني، إضافة إلى تقرير عن انطلاق الموسم المسرحي في الجزائر.