فيكتور هوغو... ضريبة العبقرية والمجد

أعلن العصيان على نابليون الثالث ونزل إلى الشارع لمقاومة الانقلاب

غلاف الكتاب  -  مشهد من فيلم مستوحى من رواية «البؤساء» التي كتبها هوغو في منفاه الذي استمر عشرين سنة
غلاف الكتاب - مشهد من فيلم مستوحى من رواية «البؤساء» التي كتبها هوغو في منفاه الذي استمر عشرين سنة
TT

فيكتور هوغو... ضريبة العبقرية والمجد

غلاف الكتاب  -  مشهد من فيلم مستوحى من رواية «البؤساء» التي كتبها هوغو في منفاه الذي استمر عشرين سنة
غلاف الكتاب - مشهد من فيلم مستوحى من رواية «البؤساء» التي كتبها هوغو في منفاه الذي استمر عشرين سنة

لا نكشف سرا خطيرا إذا ما قلنا إن فيكتور هوغو هو أشهر شخصية في تاريخ الآداب الفرنسية. فمن هو هذا الشخص الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، كما قيل قديما عن شاعرنا الأعظم المتنبي؟ ولد فيكتور هوغو عام 1802، أي في مطلع القرن التاسع عشر في مدينة بيزانسون الصغيرة الواقعة بالقرب من الحدود السويسرية. وقد زرت منزله آنذاك عندما حطت بي الرحال في تلك المدينة خريف عام 1976، أي فور وصولي إلى فرنسا تقريبا. وكان ذلك بغية تعلم اللغة الفرنسية قبل العودة إلى باريس لتحضير الدكتوراه في السوربون... سقيا لتلك الأيام التي انقرضت ولم ننقرض بعد... كلام فارغ... قالوا لنا بكل افتخار عندما مررنا في الشارع الأساسي وسط المدينة: هنا ولد فيكتور هوغو. فدهشنا. كنا نعتقد أنه ولد في باريس ككل العباقرة! هل يمكن لعبقري أن يولد خارج باريس؟ ولكنه ولد هناك بالصدفة في الواقع لأن والده ليوبولد هوغو كان أحد جنرالات نابليون بونابرت.
وككل العسكريين، فإنه جر عائلته معه على كل دروب فرنسا وأوروبا طبقًا لنزوات الإمبراطور الكبير وحروبه التي لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. فالعسكري ليس ملكا لنفسه وإنما لجيشه. ثم انفصلت أمه عن أبيه لاحقا بعد أن اختلفا على الأمور الحياتية والعائلية، وعادت الزوجة مع أطفالها إلى باريس من مدريد، حيث كان يقيم زوجها بصفته مسؤولاً كبيرًا هناك.
وكانت أمه حنونة جدًا وليبرالية؛ ولذلك تربّى فيكتور هوغو في أجواء سعيدة وحرة بفضل هذه الأم الاستثنائية التي لن ينساها أبدا. ومنذ عام 1816، أي عندما كان عمره أربعة عشر عامًا فقط راح فيكتور هوغو يهتم بالأدب شعرًا ونثرًا. وكشف عن نبوغ مبكر وسهولة مدهشة في قرض الشعر. وعندما أحس بكل هذه الطاقات المتفجرة في داخله قال جملته الشهيرة: إما أن أكون شاتوبريان أو اللاشيء! ومعلوم أن شاتوبريان كان أكبر أديب فرنسي في ذلك الوقت. وكان كاتبًا من الطراز الأول، والبعض يعتبره أكبر شاعر في النثر الفرنسي، أو أكبر ناثر في الشعر. وقد فاجأ فيكتور هوغو عائلته عندما قال لهم إنه سيصبح أهم من شاتوبريان أو في مستواه على الأقل. ولم يصدقه أحد. فقد بدا لهم طموحه جنونيا أو مبالغا فيه أكثر من اللزوم.
ولكن المستقبل لم يكذّب نبوءته. فقد استطاع أن يصل إلى مستوى شاتوبريان بل ويتخطاه من خلال أشعاره الخالدة ورواياته التي لا تقل خلودًا، وبخاصة: رواية «البؤساء». ومعلوم أنها ترجمت إلى جميع لغات العالم، وأخرجت سينمائيًا ومسرحيًا مئات المرات. لكن لنعد إلى فيكتور هوغو الشاب أو المراهق من حيث قطعناه. ففي عام 1817، أي في الخامسة عشرة، كاد أن ينال جائزة الأكاديمية الفرنسية بفضل فصاحته وبلاغته في الكتابة. وهكذا تفتحت مواهبه مبكرًا. وفي عام 1819 خطب فتاة تدعى آديل فوشيه، وكانت رفيقة طفولته؛ لأن عائلتها كانت تسكن بجوار عائلته. وفي العام التالي نال راتبًا سنويًا من ملك فرنسا لويس الثامن عشر بعد أن نشر إحدى قصائده التي أعجبت الملك. وهكذا أمَن حياته ومورد رزقه في سن مبكرة جدا، وأصبح أحد شعراء البلاط.
وبين عامي 1822 و1850 ابتدأ صعود فيكتور هوغو نحو المجد. ولكن هناك قصة مأساوية نادرًا ما ينتبه إليها أحد، ألا وهي: أن أخاه الشقيق كان يحب ذات الفتاة التي خطبها أخوه! وعندما تزوجها فيكتور هوغو أصيب أخوه بالصرع، ثم الجنون. ولذلك؛ فقد سجنوه في المصح العقلي حتى مات. والسؤال المطروح هنا هو التالي: هل أثرت هذه القصة العائلية، أو هذه الفجيعة بالأحرى، على شخصية فيكتور هوغو؟ ألم تجعله يشعر بالخطيئة والذنب؟ لا يبدو ذلك واردا. فشخصية شاعر فرنسا الأكبر تبدو قوية جدا. ولكن هناك سؤالا آخر يطرح نفسه: لو أنه تخلى عن محبوبته لأخيه الذي كان مولهًا بها، أما كان قد أنقذه من الجنون؟ لماذا ضرب عرض الحائط بمشاعر أخيه؟ لماذا قهره وتغلب عليه بهذا الشكل؟ أسئلة كثيرة لا نجد جوابًا شافيًا عليها. ولكن لن تكون هذه أول فجيعة عائلية في حياة الشاعر الكبير، وإنما ستليها فجائع وجروح أخرى كثيرة. وفي عام 1825 أسس فيكتور هوغو أول حلقة رومانتيكية في فرنسا. ومعلوم أن الرومانتيكية كانت قد ظهرت في ألمانيا أولا، ثم في إنجلترا قبل أن تنتقل إلى فرنسا. وراح يكتب المسرحيات والأشعار التي تمشي في هذا الاتجاه، وتبتعد عن المدرسة الكلاسيكية في الأدب والتعبير. وفي مقدمة مسرحيته التي اتخذت عنوان «كرومويل» كتب فيكتور هوغو أول بيان للأدب الرومانتيكي في اللغة الفرنسية.
وفي عام 1830، أي في الثامنة والعشرين من عمره، أصبح فيكتور هوغو الزعيم المتوج للحركة الأدبية الجديدة بعد أن حصلت معركة كبيرة أمام المسرح الفرنسي بين أتباع الكلاسيكية وأتباع الروماتيكية. وانتصر التيار الثاني الذي كان يمثل الشبيبة والتجديد وروح العصر وحركة التاريخ. وقد اشتهرت هذه المعركة في تاريخ الآداب الفرنسية باسم «معركة هيرناني»: أي المعركة التي دارت حول المسرحية التي كتبها فيكتور هوغو تحت هذا الاسم. وهكذا بدا هذا الشاعر وكأنه حامل لواء التجديد في وجه خصومه من المحافظين والرجعيين من الناحية الأدبية... وفي عام 1831، أي في التاسعة والعشرين من عمره، نشر فيكتور هوغو أول رواية تاريخية له باسم: نوتردام باريس، أي كاتدرائية باريس. وفي العام ذاته نشر أيضا مجموعة شعرية بعنوان «أوراق الخريف»، وهو عنوان روماتيكي بامتياز كان لامارتين قد استخدمه كثيرًا أيضا في أشعاره. وهو من مجايلي فيكتور هوغو، أو أكبر منه بقليل. ومعلوم أن سقوط أوراق الشجر في فصل الخريف يثير أحزان الشعراء ويلهبهم حماسة لكتابة القصائد الشجية. وبالتالي، فالخريف روماتيكي أكثر من بقية الفصول. وعندما منعت الرقابة إحدى مسرحياته عام 1832 غضب الشاعر كثيرًا وألقى خطابًا مهمًا عن حرية التعبير أمام جمهور غفير. وقد صفقوا له طويلاً. وكانت تلك بداية نضاله من أجل نيل حرية التعبير والتفكير في فرنسا. وسيكون الطريق إليها طويلاً. وفي عام 1833 حصل له لقاء مع امرأة تدعى: جولييت درويه. وستصبح عشيقته، بل وأقرب إليه من امرأته الشرعية. وقد رافقته طيلة حياته كلها ولعبت دورًا كبيرًا في حمايته والدفاع عنه والتأثير عليه. بل ونجّته من محاولة اغتيال شبه مؤكدة. وكانت في الأصل ممثلة على خشبة المسرح. ولكنها تخلت عن فنها ومهنتها وكل مشاريعها لكي تكرس نفسها له، وله وحده. فقد عرفت منذ البداية بأنه عبقري وأنه في حاجة إلى امرأة من نوعيتها لكي تتفتح عبقريته. وقد كتب لها آلاف الرسائل على مدار خمسين سنة من حياتهما المشتركة. ثم نشرت هذه الرسائل في مجلدات بعد موتهما.
وفي عام 1836 رشح فيكتور هوغو نفسه للأكاديمية الفرنسية، لكنها رفضته وفضّلت عليه كاتبًا يدعى «دوباتي»، ثم كاتبًا آخر يدعى «مينيه». فهل سمع أحد بهذين الاسمين يا ترى؟ هل يعنيان لكم شيئا؟ ولكننا نعلم أن الأكاديمية الفرنسية رفضت أيضًا شارل بودلير، وبلزاك، وفلوبير، وعشرات الكتاب الآخرين الذين أصبحوا مجد فرنسا الأدبي لاحقًا. وبالتالي، فلا ينبغي أن يحزن فيكتور هوغو كثيرًا لهذا الرفض. نقول ذلك وبخاصة أنها عادت وقبلته لاحقًا بعد أن فشل ثلاث مرات في الدخول إليها. لقد قبلته أخيرًا مع المحاولة الرابعة عام 1841. وفي عام 1848 دخل شاعر فرنسا الكبير معترك السياسة لأول مرة، حيث انتخبوه نائبا عن باريس. وألقى أول خطاب سياسي له في البرلمان الفرنسي، داعما ترشيح نابليون الثالث إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية، وهو دعم سيندم عليه لاحقًا أشد الندم. ثم بعد ذلك بعام واحد حصل تحول خطير في حياة فيكتور هوغو؛ فقد انتقل فجأة من جهة السلطة إلى جهة المعارضة، أو من جهة اليمين البورجوازي إلى جهة اليسار العمالي. ففي السابق كان دائما مدللا من قبل السلطة، وكان يحظى بالرواتب الملكية والأوسمة والهدايا، أما الآن فقد انتقل إلى جهة الشعب بعد أن شاهد أحوال المصانع والعمال البؤساء في الشمال الفرنسي. لقد رأى الفقر المدقع لأول مرة بأم عينيه، فقر لا يحتمل ولا يطاق. وصعقه الأمر؛ لأنه لم يكن يعرف حقيقة الوضع قبل ذلك، كان يعيش في الأجواء المترفة والقصور. ولهذا السبب غيّر موقفه من زعيم اليمين الفرنسي نابليون الثالث، ابن أخ نابليون الحقيقي، ووقف في وجهه مصرحا بأنه طاغية، الشيء الذي اضطره إلى الهرب إلى بلجيكا لفترة قصيرة.
وهكذا أثبت فيكتور هوغو أنه ليس شاعرًا ذاتيا أو رومانتيكيا فقط، وإنما رجل سياسي منخرط في هموم عصره وقضاياه. إنه مفكر بقدر ما هو شاعر، ونظري بقدر ما هو عملي. بدءا من تلك اللحظة ستتشكل شخصية فيكتور هوغو التي نعرفها: أي شخصية رجل التنوير الأول في عصره، شخصية الرجل المدافع عن قضايا الشعب وضرورة تثقيفه وتعليمه ورفع مستواه. وهذا ما سيشكل عظمته لاحقا، حيث جمع المجد من كل أطرافه: أي مجد التجديد الأدبي والشعري، ومجد النضال السياسي والفكري، ومجد النضال من أجل الحريات الحديثة وحقوق الإنسان. ولهذا السبب احتل مكانة في تاريخ فرنسا لم يحتلها أي أديب آخر باستثناء فولتير وجان بول سارتر. وفي عام 1850 ألقى خطابًا شهيرًا في الجمعية الوطنية الفرنسية (أي البرلمان) عن حرية التعليم، وحرية الصحافة، وضرورة إعطاء حرية التصويت للشعب ككل، وليس فقط للأعيان والنخب القائدة والطبقة البورجوازية. وراح يدافع عن الشعب في كل مكان. وفي عام 1851 عندما عرف أن الديكتاتورية ستنتصر في فرنسا، وأنها ستتجسد في شخص نابليون الثالث الذي قام بانقلابه الشهير على النظام الجمهوري أعلن العصيان ونزل إلى الشارع لمقاومة الانقلاب. وكاد أن يُقتل في إحدى المرات لولا أن عشيقته جولييت دروو مع بعض الأصدقاء المخلصين كانوا يسهرون عليه فهرَّبوه سرًا إلى خارج البلاد؛ لكي لا يحصل له أي مكروه. وكان ذلك بواسطة جواز سفر مزور. وهكذا، ابتدأت حياة المنفى لفيكتور هوغو، وهي حياة ستستمر نحو العشرين سنة. وفي أثنائها كتب أجمل قصائده ومؤلفاته. وفيها أيضًا أنجز روايته الخالدة «البؤساء». وبالتالي فلم يكن منفاه عقيمًا ولا سلبيًا، على العكس.
ولكن بعد سقوط الإمبراطور الديكتاتور عاد فيكتور هوغو إلى فرنسا عودة الأبطال، حيث استُقبل بشكل جماهيري وشعبي في العاصمة الفرنسية. وكانت تلك بداية أسطورته. ولكن القدر الذي خلع عليه، كل هذه الأمجاد وجّه له ضربات موجعة أيضًا. فقد مات ابنه البكر في عز الشباب، ولحقه الابن الثاني. وهذا يعني أنه دفن ولديه حيا بدلا من أن يدفناه. وأصيبت ابنته الثانية بالجنون، وماتت ابنته الأولى غرقا وهي في التاسعة عشرة فقط. بل ومات زوجها الشاب معها لأنه حاول إنقاذها فلم يفلح. وكان ذلك مؤثرا جدا.
فقد كان بإمكانه أن يبقى على قيد الحياة ولا يخاطر بنفسه. ولكنه فضّل أن يموت معها على أن يبقى حيا بعدها. هذه القصة دمرت فيكتور هوغو، صعقته صعقا. وقد انعكس ذلك على أشعاره وكتاباته بكل قوة وراح يتفجع عليها تفجعا. وكل هذه الجراحات، أو ضربات القدر، ستنعكس على أشعاره وكتاباته اللاحقة. وبالتالي، فلم يكن سعيدا إلى الحد الذي نتصوره. صحيح أن فرنسا كلها صفقت له. صحيح أنه حظي بنجاح أدبي لم يسبق له مثيل. ولكنه دفع ثمن شهرته وأمجاده غاليًا.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟