يعالج كتاب «الخيال السياسي للإسلاميين ما قبل الدولة وما بعدها»، للأكاديمية المصرية الدكتورة هبة رؤوف عزت، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إشكالية ركود أطروحة الحركات الإسلامية التصورية الخاصة بالدولة «عبر قرن كامل». وبالتالي تنطلق الباحثة من مسلّمة تؤكد أن الساحة العربية الإسلامية «أحوج ما تكون الآن إلى مناقشة تصوراتها للدولة الإسلامية ومراجعتها أكثر من أي وقت مضى، فقد غلبت العموميات البلاغية والتصورات التاريخية على رؤيتها حينًا، وطغت الاعتبارات العملية (البراغماتية) على حركتها حينًا آخر، فتراجعت أولوية مهمتها الرسالية والدعوية، كما صارت قطاعات منها ترفع شعارات (الجهاد)، فتنوعت خبرتها وممارساتها بتنوع الأقطار والساحات وتقديم نماذج مختلفة في تصورها للدولة المنشودة» (ص11 - 12).
حول سقوط حلم استعادة الخلافة
على الرغم من الارتباط القوي لقوى الإسلام السياسية بالصراع حول السلطة، ومركزية الدولة. فإن ما تطرحه هذه القوى من طروحات حول المشاركة السياسية، والعلمانية والديمقراطية والحداثة؛ وارتباط كل هذا بالدولة الحديثة، يمثل الوجه الأكبر لأزمة الخيال السياسي للتيارات الإسلامية. من جهة أولى توليد المفاهيم السياسية وصناعتها؛ ومن جهة ثانية إدراك أنساقها وسياق أعمالها في محضن قيمي وحضاري يتميز بفرادة مرجعيته الدينية، وخبرته المجتمعية في إدارة المجتمع والسلطة.
من هنا نفهم تحول «المشروع الفكري» الذي حمل حلم استعادة «الخلافة الإسلامية»، إلى جزء من بنية الأزمة المعاصرة للمجتمع والدولة العربية الإسلامية. إذ إن الارتباط العقدي بهذا النموذج التاريخي، انتهى إلى تشطير التنظيمات الدينية إلى سلمية، تدعو «لأسلمة» الدولة والمجتمع، وتعتبر ذلك مشروعها التجديدي النهضوي. في حين حملت التنظيمات الإرهابية السلاح، وكفّرت المجتمع باسم استعادة نموذج دولة الخلافة؛ وهكذا سقط الإسلاميون في التبسيط والتعميم، وطالت الأزمة الفكرية التي نجمت عن «التسييس الواقعي للقضايا الفكرية»، معنى ودور الشريعة والأمة.
ويبدو أن هذا الوضع دفع بالباحثة المصرية الدكتورة هبة رؤوف عزت في كتابها السابق الذكر للرجوع إلى التاريخ تارة، وللبحث السياسي النظري والاجتماعي تارة أخرى... لتفسر وتذكر بالجهود الإصلاحية التي سبقت الإسلاميين لطرح موضوع الدولة الإسلامية وسقوط الخلافة؛ وأن هذه الجهود الإصلاحية العربية الحديثة قد تعرضت لإجهاض من طرف الاستعمار. واليوم تنشغل التنظيمات السياسية الإسلامية، «بشواغل السياسة أو أعباء الدعوة»، حتى صار الاجتهاد الفكري العلمي هو الفريضة الغائبة، سواء تعلق الأمر بمجال السلطة أو مجال التجديد والاجتهاد في الشؤون العامة. وهنا تقول: «فتراجع الاهتمام بالتجديد وملفاته والفهم ومعاييره، والتماهي الذي ذكرناه مع مفهوم الدولة الحداثية مع خيال الدولة الإسلامية هو محض تابع لهذا الخلل، وأن استعادة قيمة التفكير هي الفريضة التي غابت في ظل إعلاء منطق التنظيمات والاستسلام لظن أن ما نقف عليه وأمامه وتحته فقط يحتاج إلى (أسلمة) فحسب» (ص 128).
مفهوم الدولة
إننا في الواقع أمام تحولات جذرية، تتطلب فتح الحوار وتعميق البحث في مفهوم الدولة الإسلامية، ونحتاج لمراجعة بحثية للدولة الحديثة في صورتها القومية؛ ذلك أن النظرية السياسية، لا تخرج عن سياق الخبرة التاريخية والقيمية ومرجعية الفلسفة المنتجة لها، كما أن موضوع التنظير السياسي يجعل من الدولة متغيرًا من حيث المثال، ومن حيث النموذج التنظيمي. في الوقت الذي نجد تركز أدبيات الإسلاميين في أغلبها، على مقارنة الشورى بالديمقراطية، وتطرح الحاكمية، في محاولة لصد العلمانية وفلسفتها التنظيمية للشأن العام. وهذا المنهج الفكري جعل «خطاب الإسلاميين ليبراليًا رأسماليًا في جوهره، ومتسربلاً بالديباجة الدينية، يسعى إلى الأسلمة بتنقية الهياكل من ظواهرها الرأسمالية من دون نقض لها» (ص18).
تدعيمًا لهذا الطرح تزعم، الأكاديمية والباحثة المصرية أن الإنتاجات الفكرية للإسلاميين، وإن حاولت مقاربة موضوع الدولة والسلطة سياسيًا، وقانونيًا؛ فإنها في جوهرها لا تقدم تصورًا في نظرية الدولة. ولا يعتبر ذلك مراجعة لتعريف السياسة، في زمن يشهد تحولات نوعية للظواهر السياسية. فالخيال السياسي للتنظيمات الإسلامية ظل حبيس النموذج الغربي للدولة القطرية «الهوبزية»؛ ويبدو أن هناك بعض العوامل المعرفية والعملية التي تسهم في تكريس هذا الإشكال. ومن أهمها غلبة الخطاب السياسي التشاوري على «التصور الاجتهادي»، وتعميم النظرة للغرب وإهمال الجنوب والشرق، كذا غلبة المركزية العربية، وعدم الاستفادة من التجارب الإسلامية العجمية، إضافة لعدم الاطلاع المباشر على الفكر الغربي ومدارسه النقدية المعاصرة.
وكل هذا أنتج عجزًا واضحًا في إبداع، وصياغة «نظرية مختلفة للعمران والدولة، وهي المهمة الأخطر والأولى التي عجز الخيال السياسي الإسلامي عن إدراك خطورتها وأولويتها». وما يزيد من متاعب هذا الخيال سطوة «أسطورة» الدولة العلمانية المعاصرة؛ وتحديها للأفق الفكري والحركي للإسلاميين، لأنها تسحب السلطة من المجتمع وتمركزها بيدها، مما يصعب من إعادة تأسيس الرابطة السياسية الإسلامية على أسس غير أسس الدولة الحديثة «الهوبزية» التعقيدية.
بين الأمة والدولة
وفي هذا السياق يمكن فهم اضطراب العلاقة بين الأمة والدولة، في خيال الإسلاميين، وكذلك تفسير موقفهم من العلمانية باعتبارها إنكارًا للوحي وإحلالاً للعقل محله، وتخليًا عقديًا عن الحاكمية. وتسجل الباحثة هبة أن هذا المأزق المنهجي لم يأخذ بعين الاعتبار حقيقة معرفية تؤكد أن العلمانية هي مفهوم في حقل السياسة، لا العقيدة. ولكن ذلك لا ينفي - حسب الباحثة - ما لعبته العلمنة من دور خطير في إضعاف الإسلام والمجتمعات الإسلامية، حيث عمل مسلسل فصل الدين عن الدولة على تفكيك مكامن القوة في المجتمع وإلحاقها بالدولة التي سيطرت بشكل استبدادي على الدين والفرد والمجتمع العربي.
وبما أننا في هذا المأزق التاريخي؛ تقترح الدكتورة هبة رؤوف عزت إعادة تشكيل الخيال الإسلامي لاستشراف المستقبل. ووضعت لذلك مفاهيم خاصة، تدور مدار السياق الحضاري العربي وخبرته وقيمه السياسية والدينية، مستهدفة تغيير المقدمات والوصول لنتائج جديدة. ولهذا، تبنت أربعة مفاهيم أساسية تتوخى استعادة مفهوم الأمة لما تمثله من تفوق وتجميع يتجاوز قدرة الدولة القطرية. فالفطرة تجعل الرابطة العقدية عالمية؛ ومفهوم العالمين، يُخرج مصطلح الأمة من ضيق أفق انتماء الدولة المعتمد على المواطن، والمواطنة؛ كما تقترح الباحثة المجتمع المدني العالمي، لتجاوز «القومية المنهاجية»، والتحاور مع العولمة، في أفق يستحضر الجنوب وقيمه الحضارية. وأخيرًا نجد مفهوم المجال العام، بشقيه الداخلي والدولي، والذي يهدف إلى بناء حلف فضول مجتمعي وحلف فضول دولي، لتحدي الدولة القومية وهيمنتها الدولية.
ولكن، رغم ما قدمته الباحثة والأكاديمية المصرية من أفكار نيرة في كتابها هذا الذي صدر عن «الشبكة العربية للأبحاث والنشر»، سنة (2015م)، فإنها سقطت في فخ التعميم طيلة صفحات البحث (144)؛ إذ تحدثت عن الإسلاميين دون مراعاة للفروق الفكرية والثقافية، وطبيعة الدولة والمجتمع الذي تعيش فيه التيارات الإسلامية المختلفة. من جانب آخر بقيت الباحثة محصورة في الأدبيات الفكرية للإسلاميين المصريين، واعتبرتهم «ممثلين شرعيين» لما أطلقت عليه «الخيال السياسي للإسلاميين»؛ وهو جلب اختزال مخل بالقدرة التفسيرية للكتاب ككل؛ وعكس مركزية مصرية، يعتمد على مسلّمة وهمية تقول إن الإسلاميين الحركيين العرب جميعًا «إخوان مسلمون». وما زاد الأمر تعقيدًا أن المؤلفة الباحثة لم تحدد ما تقصده بالإسلاميين، إذ استعملته في سياقات لا تفيد بوحدة المعنى والقصد.
إسلاميو مصر.. والآخرون
أيضًا كان هناك سقوط في فخ الاختزال عند مناقشة الخيال والاجتهادات السياسية الإسلامية المعاصرة، فلقد اختزلت الباحثة المؤلفة اجتهادات الإسلاميين الفكريين، في شخصيات وتيارات مصرية فقط. واستندت إلى أفكار المؤرخ الكبير طارق البشري وآراء جمال سلطان ممثلاً للسلفية المستنيرة، والسعيد حبيب عن جماعة «الجهاد»، والباحث صلاح هاشم عن الجماعة الإسلامية، والمهندس أبو العلا ماضي عن حزب الوسط، بينما اختارت عصام العريان ممثلاً لحركة «الإخوان المسلمين». كما تابعت أفكار عبد السلام بسيوني وصافيناز كاظم وكتابات توفيق الشاوي وعلاء النادي وحامد عبد الماجد ومحمد عمارة وسامح فوزي وهاني لبيب الباحث القبطي المعروف.
ولكن، في الحقيقة، هناك تجارب في شمال أفريقيا، وجنوبها، وفي آسيا لا صلة لها بالإخوان المصريين. ولها مفكروها ومنظروها المحليون، ولقد نجحت في تجاوز التجربة المصرية للإسلاميين الحزبيين والمستقلين، سواء من الناحية الفكرية والسياسية أو من ناحية تقديم نموذج مستوعب للدولة القطرية، ومتعامل مع الحداثة بتثاقف معرفي وفقهي، يدور في مقاصد الشريعة الإسلامية، وفي نفس الوقت يأخذ بالمشترك الإنساني المتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
وعليه يحق لنا العودة من جديد للتساؤل عن كيفية البحث في الخيال السياسي للإسلاميين.
هل يمكن الحديث عن خيال واحد، أم خيالات وثقافات سياسية للتنظيمات السياسية الإسلامية؟
هل تعدد التنظيمات لا يستوجب تعدد السياق، وبالتالي الخصوصية الفكرية للخيال والتنظيم الموصوف بالإسلامي؟
وهل فعلا يمكن تجاوز الدولة القومية باجتهاد ونظرية سياسية تزعم أنها إسلامية؟
وهل «دولة الخلافة» يمثل نموذجًا دولتيًا إسلاميًا، أم أنه نظام تاريخي متجاوز؟