رؤية استشرافية للتطرف

في ظل الحقبة الراهنة في أميركا

عناصر من جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) بعد إحدى معاركهم قرب مدينة حلب ({غيتي})
عناصر من جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) بعد إحدى معاركهم قرب مدينة حلب ({غيتي})
TT

رؤية استشرافية للتطرف

عناصر من جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) بعد إحدى معاركهم قرب مدينة حلب ({غيتي})
عناصر من جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) بعد إحدى معاركهم قرب مدينة حلب ({غيتي})

بينما كانت مفردة «البريكست» أكثر الكلمات الجديدة انتشارًا في اللغات العالمية، كان اسم دونالد ترمب الأكثر تكرارًا في مختلف لغات العالم طوال الشهور الماضية. وهو ما يبدو سيستمر طوال فترته، فالعالم يعيش على وقع تصريحاته وتغريداته مرشحًا منذ بدء حملته في يونيو (حزيران) 2015، إلى تنصيبه رئيسًا في 20 يناير (كانون الثاني) الحالي 2017، حيث سيستمر لـ4 سنوات مقبلة.
مما لا شك فيه أن الحقبة الترمبية، وصعود اليمين المتشدد غربيًا، الذي احتفى بفوزه واعتبره رفدًا ورصيدًا مضافًا له على عكس تيارات الوسط واليسار، تمثل هاجسًا عند اليمين والتطرف العنيف في المناطق الأخرى، من إيران لكوريا الشمالية لجماعات التطرف والإرهاب المنسوبة للإسلام، في سوريا والعراق.
إن الحسم هو عنوان الإجابة الترمبية على ما يبدو على التطرف العنيف، وفي حسم كثير من الأزمات المنتجة له، وضبط نشاطهم في المجال العام، حيث تضيق المسافة بين ما يعد معتدلاً وما يعد متطرفًا. وهي حالة أشبه بحقبة الرئيس جورج دبليو بوش بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 مباشرة، وما تم فيها من مساس بالحريات العامة وتقييدها، وفق قوانين وزير عدله جون أشكروفت، ولكنها تراجعت مع الحقبة الأوبامية.
وكما يتضح من خطاب ترمب وتوجهاته تتصاعد الهواجس لدى نظام كالنظام الإيراني وتنظيمات التطرف من هذا الحسم والإصرار على المجابهة الصريحة معه. وتساءلت الصحافة الإيرانية خلال الأسبوع الأخير عن مصير قاسم سليماني، الذي ظهر قبل أسابيع في معارك حلب، ويقود معارك في سوريا والعراق، وهو المطلوب بقرارات من مجلس الأمن والكونغرس الأميركي، وكيف يمكن أن تؤدي سياسات وتوجهات ترمب لتقييد حركته في المرات المقبلة، بل تتساءل وتطرح الصحافة الإيرانية ككل سيناريوهات بديلة أكثر تواءمًا وتكيفًا مع الحقبة الترمبية، تقوم على الاعتدال وتغيير سياسة التدخل والتقارب مع المحيط الإقليمي، وغير ذلك من أمور.
لكن لا يمكن نفي بعض تداعيات الحقبة الترمبية سلبيًا، على الاعتدال والوسط بشكل عام، شرقًا وغربًا، كما لا يمكن تجاهل استثمار وتوظيف جماعات التطرف العنيف لخطواتها وخطاباتها شحنًا وعنفًا مضادًا، وهو ما نحاول أن نستكشفه هنا في قراءتنا الأولية له.

الروافد المتشابهة لأفكار اليمين والتطرف
يفسر البعض صعود تيارات اليمين غربيًا نظريًا بفشل البدائل الاجتماعية، وفي مقدمتها الديمقراطية الاجتماعية أو ما عرف بـ«الطريق الثالث» وفشل البدائل السياسية والآيديولوجية في تحقيق الرفاه والأمن للمواطنين، ومما يعد كذلك رافدًا مهمًا من روافد صعود اليمين المتشدد، وكذلك أفكار التطرف، وصعود الفردية المفرطة المحمولة على سيولة شبكات التواصل الاجتماعي، وانتشار تصورات الكراهية والتمييز والرفض لفكرة الاختلاف أو التسوية أو الاقتناع بحكم الأغلبية. وهكذا غدا كل فرد يعتقد الصحة المطلقة فيما يقول. ويربط الكاتب الفرنسي جان بينون في مقاله بـ«اللوموند» الفرنسية يوم الخميس الماضي 26 يناير 2017 بين صعود ترمب وصعود هذه الفردية المفرطة، التي يمثل ترمب تحققًا كاملاً لها حسب وصفه، وأنه يمثل بدرجة ما تجسيدًا لفلسفة سوبرمان النيتشوية وإن لم يكن قرأ نيتشه. ولعل صعود وانتصار النزعات اليمينية عبر صناديق الديمقراطية - شرقًا وغربًا - هو نتاج لذلك، وأن ذلك إن فسر بانتصارات الديمقراطية، فلا شك أنه يمثل خطرًا على مستقبلها، وتهديدًا للمستقبل نفسه... بعيدًا عن الأنساق القيمية والأخلاقية التي استقرت طوال القرن العشرين، من الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق اللاجئين والتجارة الحرة وحرية التنقل واللجوء وغيرها.
لكن مما لا شك فيه، أن ثمة روافد أخرى عملية وواقعية كثيرة لهذا النزوع والصعود اليميني والانعزالي، في مقدمتها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين في الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك صعود الإرهاب من جديد وصعود «الإسلاموفوبيا» معه، ونشاط «داعش» وأخواته في تنفيذ عمليات في كبرى العواصم الغربية، مع اشتداد الحرب الدولية عليه في العراق وسوريا، مما أعاد أيضًا هذا التشويه والربط القديم بين «الإسلام والإرهاب»، خصوصًا مع عودة مئات من المقاتلين الأوروبيين والغربيين إلى بلادهم منها، ويتوقع تنفيذهم عمليات باسمها داخلها من آن لآخر.
كما أن مفهوم «الإيرانوفوبيا» بدأ يصعد مع ترمب أيضًا، وقطعًا مع الإرث الأوبامي في تقاربه مع إيران ورفع العقوبات عنها، مقابل اتفاق نووي في يوليو (تموز) العام الماضي، أعلن ترمب رغبته في إلغائه أو تعديله على الأقل، مع بقاء تصنيفها (إيران) من قبل تقرير الخارجية الأميركية كأكبر داعم للإرهاب في العالم، وبقاء تدخلاتها وتوسعاتها في المنطقة ودعم ميليشيات وجماعات مسلحة موالية لنظامها.

مسلمون أيدوا ترمب ولوبان
لم يكن مستغربًا أن بعضًا من مسلمي الولايات المتحدة وأوروبا يؤيدون سياسات اليمين المتشدد، رغم ما يصرح به قادته من مواقف معادية أو مقلقة تجاه المهاجرين أو التطرف المنسوب للإسلام أو الإسلام نفسه أحيانًا. وهو ما يعود لكونهم مواطنين بدرجة أولى، وثانيًا لمشاركتهم مواقف اليمين في العداء الشديد للتطرف الإسلامي الذي صار عبئًا ثقيلاً على أكتافهم يتبرأون منه، وقد يريدون التأكيد على هذه البراءة، وسنكتفي بمثالين على هذا التأييد فيما يلي:
1 - تأييد ترمب: في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي نشرت شبكة «بي بي سي» التلفزيونية مقطع فيديو تصدر أعلى نسبة مشاهدة بعدة عدة ساعات من نشره، لسيدة أميركية مسلمة من مؤيدي ترمب وناخبيه، بررت تأييدها المستغرب له ساعتها، أنها بعد كثير من التفكير والمناقشات، كان دافعها بسبب نظرته المتشددة للإرهاب والتطرف العنيف المنسوب للإسلام، وإصراره على مواجهته والقضاء عليه. ونقلت السيدة عن ترمب قوله إن «التطرف الإسلامي مشكلة آيديولوجية وتصورات»، معقبة أن هذا بعيد كل البُعد عن كونه هجومًا على الإسلام كديانة أو على المسلمين. ودعت السيدة المسلمين أن ينخرط في حوار لمناقشة هذه القضية، وألا نقع ضحايا رهاب الإسلام والفوبيا منه.
2 - مسلمون يؤيدون لوبان: في السياق نفسه، نشرت مجلة «الإكسبرس» الفرنسية في 4 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تحقيقًا حول تأييد أهالي جزيرة مسلمة بجنوب شرقي أفريقيا لزعيمة اليمين المتشدد الفرنسي مارين لوبان، التي تخوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمعة في شهر أبريل (نيسان) 2017. إذ استقبل المسلمون في جزيرة مايوت الفرنسية الذين يمثلون أغلبية سكان الجزيرة (التي كانت تتبع أرخبيل حزر القمر) بالورد والحفاوة التي لم تكن هي نفسها تنتظرها، وأعلنوا دعمهم الكامل لها في الانتخابات، على اعتبارها الأجرأ والأكثر تشددًا في مواجهة الجماعات الإرهابية التي تسيء إلى صورة الإسلام. وهو ما وصفته «الإكسبرس» في حينه بأنه «مفاجأة وهبة من السماء» حين صرحت القيادات المسلمة في مايوت بأنهم يصلون كي تغدو لوبان رئيسة للجمهورية عام 2017، مطالبين بالمحافظة على دورها في مكافحة الأصولية والتطرف العنيف المنسوب للإسلام. وجاء رد زعيمة التشدد الفرنسي - حسب المجلة نفسها - على هذه الحفاوة بقولها: «أحيي القادة الدينيين من المسلمين الذين يلعبون دورًا كبيرًا في استقرار المجتمع». كما أعلنت في مؤتمر صحافي أن للأديان دورًا في النسيج الاجتماعي، ويجب أن تظل لها المكانة الروحية. وأكدت مارين لوبان خلال هذه الزيارة: «أنا أحترم كل الأديان، أنا ضد التطرف العنيف، وأنه يمثل خصمًا مشتركًا لنا وللإسلام المتسامح».
وهكذا مثل التطرف العنيف المنسوب للإسلام رافدًا لليمين المتشدد ولمؤيديه ولمسلمين يخشون الخلط بينه وبين ما يعتقدون من وسطية وقدرة على التعايش.

بين العولمة والانعزالية
عودة إلى دونالد ترمب. لم ينتظر ترمب طويلاً قبل أن ترتفع التوقعات بإمكانية تراجعه، بل كان واضحًا منذ البداية حين ألغى «أوباما كير» كما وعد. ثم انطلق في تنفيذ أجندته فيما يخص المهاجرين، فشرع منذ يوم تنصيبه في توقيع كثير من القرارات التي وعد بها أثناء حملته، وكان في مقدمها قراره فيما يخص جدار المكسيك وتحميل حكومة الأخيرة تكلفته، وهو ما ترتب عليه إلغاء رئيس المكسيك زيارته لأميركا. كذلك ترتبك إيران بشكل واضح مما ينتظرها معه، ولكن يبدو القلق الأكبر من مواقفه موجودًا لدى الأقليات والمهاجرين. إذ كان من أول قراراته حظر الهجرة واللجوء على مواطني 7 دول في الشرق الأوسط، بينها إيران وسوريا. ويبدو أن الرجل لن يختلف مرشحًا عنه رئيسًا، مصرًا على القطيعة الكلية مع الحقبة الأوبامية السابقة، التي اتسمت بالرتابة وانعدام الحسم.
في المقابل، يرى البعض في تصريحات ترمب وقراراته تهديدًا لقيم العولمة المستقرة منذ انتهاء الحرب الباردة. ويحذر سلفه الرئيس السابق باراك أوباما ونائبه جون بايدن ترمب من هدمها والتجرؤ عليها، كما أعلنت وزيرة الخارجية السابقة (في عهد بيل كلينتون) مادلين أولبرايت يوم الخميس 26 يناير استعدادها لتسجيل نفسها كمسلمة تضامنًا مع المسلمين بعد قرارات ترمب التي أصدرها بخصوص حصر شامل لهم في المجتمع الأميركي، وحظر مؤقت على المهاجرين منهم.
إلا أن ثمة رأيًا آخر يرى ما يطرحه ترمب هو أن شعار «أميركا أولاً» أو «بريطانيا أولاً» ليس قطعًا مع العالمية والعولمة، بل ظل كامنًا فيه. فالدولة الوطنية والهم القطري لم تنكره يومًا النزعات الاتحادية أو الوحدوية أو العالمية، والعلاقة بينهما جدلية وليست احتواء، فيتقدم أحدهما مرة ويتقدم الثاني مرة أخرى.
ولم يعد ممكنًا لأي رئيس أميركي العودة إلى خيار الانعزالية الذي كان قبل الحرب العالمية الأولى، كما ليس ممكنًا لمؤمن بالدولة الوطنية أو «أميركا أولاً» تجاهل حقيقة العولمة الماثلة والمستمرة.
لذا جاء كثير من تصريحات ترمب وقراراته ذات طابع عالمي. فهو يطمح لقيادة مختلفة للعالم أكثر حسمًا، ولم تحصر رسائله فقط في الداخل الأميركي. وهذه هي الترجمة الفعلية لشعاره «أميركا أولاً» وقد حادثته فيه تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، أثناء زيارتها للولايات المتحدة يوم الخميس 26 يناير من ضرورة قيادة مشتركة للعالم، بينهما، وما تدعوه له مارين لوبان من قيادة اليمين المتشدد في أوروبا والعالم. وهذا يعني أن الترمبية تتوجه نحو العالمية، ولكن بشكل مختلف، أكثر حسمًا وأكثر تشددًا في آن، وقطعًا كلية مع الحقبة الأوبامية السابقة.

حسم يربك التطرف
ختامًا، فإن حسم ترمب يربك التطرف أكثر من الوسط بشكل واضح. فهو لا يمكن له أو لليمين المتشدد في أوروبا الخروج عن إطار الحداثة والتنوع الغربي في معاداة ما هو اعتدال ديمقراطي، خصوصًا أن كثيرين من مؤيديه من الأقليات والمهاجرين الذين يشاركونهم المواقف نفسها من التطرف. ولذلك يبدو قلق البعض مفهومًا، كما أن دعايات الخصوم ترفع من مستوى هذا القلق. وكان القلق الإيراني الصاعد من الترمبية مفهومًا، بعدما تكرست «الإيرانوفوبيا» شرقًا وغربًا، وأعلن ترمب الحملة والحرب عليها، وصار تغييرها ضرورة يفرضها الواقع الجديد.
ولا شك أن هذا القلق يوجد مثله لدى تنظيمات كـ«داعش» و«القاعدة»، بل وتنظيمات أخرى كـ«الإخوان المسلمين» و«الحرس الثوري الإيراني»، الذي يرجح تصنيفهما كمنظمتين إرهابيتين من قبل الإدارة الأميركية قريبًا، وليس فقط «فيلق القدس» المصنف الوحيد بين فصائل الحرس الثوري والجماعات المرتبطة به.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.