خطة إظلام طرابلس

سكان أغنى دولة نفطية في أفريقيا يعودون لاستخدام الفحم والحطب * فكرة قطع الكهرباء ابتدعها «داعش ليبيا» وتلقفتها «القاعدة»

خطوط كهرباء الضغط العالي في مرمى نيران الميليشيات («الشرق الأوسط»)
خطوط كهرباء الضغط العالي في مرمى نيران الميليشيات («الشرق الأوسط»)
TT

خطة إظلام طرابلس

خطوط كهرباء الضغط العالي في مرمى نيران الميليشيات («الشرق الأوسط»)
خطوط كهرباء الضغط العالي في مرمى نيران الميليشيات («الشرق الأوسط»)

لجأَ غالبيةُ سُكان ليبيا، أكبر دولة نفطية في أفريقيا، للفحم والحطب من أجل اتقاء البرد وطَهي الطعام، بعد انقطاع التيار الكهربائي من العاصمة لعدة اسابيع.
واقترب سعر أنواع من الفحم، زنة 20 كيلوغراما، من ثمن برميل من النفط. ومنذ منتصف الشهر الحالي تفاقمت الأزمة مع الاشتباه في وجود خطة لإحلال الظلام في طرابلس، وعدة مدن، على يد مجموعةِ ميليشيات تستهدف محطات الكهرباء، ما كبَّد سكان العاصمة ورجال أعمالها خسائر ضخمة. توقفتْ المُبردات وتبخرتْ مَلايين الدولارات.
وتتنافس حكومتا فايز السراج، وخليفة الغويل، في طرابلس على الحكم. كلُّ حكومة مدعومة بميليشيات، لكن يبدو أنَّ القدرة المالية على الإنفاق جعلت الأمور تذهب لصالح الغويل، رغم أن السراج يمتلك ميزة الاعتراف الدولي بحكومته ومجلسه الرئاسي. أما الحكومة الثَّالثة التي تعمل في الشرق، والمُنبثقة عن البرلمان الذي يعقد جلساته في طُبرق، برئاسة عبد الله الثني، فتُراقب، وهي تستعد لاقتناص فرص التقدم ناحية الغرب والجنوب. ودخلت الكهرباء كأحد أسلحة الميليشيات المنتشرة، خصوصا في طرابلس العاصمة.
لمْ يَقتصر انقطاع التَّيار الكهربائي على مُدن الشمال فقط، ولكنَّه شملَ بلداتٍ كثيرة متناثرة في الصحراء الجنوبية، حيثُ المناخ القارِّي وزَمهرير الشِّتاء. وفي بعض الليالي تنخفض درجة الحرارة في طرابلس إلى أقل من خَمْس درجات مئوية، وفي بلدات الجنوب إلى أقل من الصفر. واستمر غياب الكهرباء لأكثر من 250 ساعة في بلدة «غَات»، بشكل متواصل. وفي العاصمة أصبح من المعتاد العيش في الظلام، وَشَمّ رائحة دخان الحطب في البيوت. ويجري تجهيز القهوة والشاي في الدواوين الحكومية على الفحم.
احتجاجًا على ضعف السلطات في الشرق والغرب، لجأ 25 نائبًا في البرلمان إلى تعليق عضويتهم، وبدأوا في العمل مباشرة مع مسؤولين محليين، في مُحاولةٍ لحل أزمة الكهرباء ومشكلة توقف إمدادات الكيروسين والدِّيزل وغاز الطهي. ومع كبر حجم المشكلة، خلال الأسبوع الماضي، تراجعَ الاعتمادُ على المدفئة الكهربائية، وأخذتْ ثقافة استخدام الفحم النباتي والحطب تنتشر بين المواطنين... ثقافة تتعلق بالسِّعر، والجودة، وبالتحذيرات المصاحبة للاستخدام، أو حتى بإدخال القضية في خانة المزاح والتسلية. ويجري استيراد مُعظم الفحم عبر بعض دول الجوار، بينما يتم تقطيع الحطب بالمناشير من أشجار منتشرة في مزارع وعدة مناطق ليبية.
ويتراوح سعر جوال الفحم بين 50 إلى 130 دينارا (السعر الرسمي للدولار يساوي نحو 1.4 دينار)، بعد أن كان سعر الجوال يتراوح، منذ عدة شهور، ما بين 15 دينارا و25 دينارا. ويبدأُ سِعر جوال الحطب، الذي يُخصص غالبًا للطَّهِي، بنحو 30 دينارًا، ويزيد حسب النوع. وأصبح من المعتاد في الأيام الأخيرة أنْ تجدَ إعلاناتٍ عن الحاجة لكميات من الفحم. ومنها إعلان يقول: «مطلوب فحم شجر زيتون، أو فحم شجر برتقال وطني. نأخذ أي كمية من أي نوع، بأفضل سعر». ومن أهم التحذيرات، تلك التي توصِي بعدم استخدام مواقد الفحم والحطب في الغرف المغلقة، لأن ذلك من شأنِهِ أن يؤدي للوفاة، بسبب غاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث منه. ولقيت أسرة مكونة من تسعة أفراد مصرعها في بلدة صبراتة. أمَّا عن آخر المُزح بهذا الخصوص، فتقول إن مهر العروس لا بدَّ أنْ يتضمَّن كميةً من الفحم والحطب.
يقول النائب في البرلمان، إسماعيل الغول الشريف لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ التدفئة بالفحم أدتْ لوفاة كثير المواطنين اختناقًا، مشيرًا إلى أن «عودة التيار الكهربائي آخذةٌ في التحسُّن التدريجي، ونأمل في حلٍّ جذري للمشكلة». أما المقتدرونَ ماليًا فلجأوا إلى شراء مولدات كهربائية خاصة. وزادتْ وتيرةُ استيراد شحنات من المولدات وبيعها في العاصمة ومدن أخرى بأسعار مرتفعة. وحَوَتْ شحنة وصلت من الصين في يوم واحد، أكثر من 500 مولد منزلي. وجرى إنزالها في ميناء مصراتة البحري. ثم توالى وصول الشحنات فيما بعد من الصين ومن دول أوروبية. ويبلغ ثمن المولد المنزلي الصغير، للاستخدام البسيط، نحو ألفي دولار، بينما تصلُ قيمة المولدات الكبيرة القادرة على تشغيل منزلٍ مُكَون من طابقين إلى أكثر من مائة ألف دولار. لكن مشكلة تأمين الوقود المشغل لها لم تنتهِ بعد.
وكانت ليبيا قبل انتفاضة 2011 تُصدِّر نحو 1.6 مليون برميل من النفط يوميًا. كما تُصدِّرُ كمياتٍ كبيرةً من الغاز الطبيعي. ولمْ تكن كُلفة مِلء السيارة بالوقود في ليبيا تزيد عن خمسة دولارات. وتراجعت الصادرات والقدرة على التكرير في المصافي، بشكل كبير وزادت الفوضى الأمنية من المأساة في بلد يبلغ عدد سكانه نحو ستة ملايين نسمة فقط. وفي الأيام الحالية أثَّرَ انقطاع الكهرباء على مراكز طبية ومؤسسات عامة وعلى حركة الملاحة الجوية وعلى شبكات الهواتف الجوالة والإنترنت.
وحسب جهات عسكرية واستخباراتية، فإنَّ أهم أسباب انقطاع الكهرباء يعود إلى ضرب الميليشيات للمحطَّات المغذية لشبكة الكهرباء الوطنية، في محاولة لإحراج حكومة السراج، ولأجل التربح من خلال سرقة معدات المحطات، وفي استغلال ظلام الليل لإدخال مقاتلين أجانب عبر السواحل والحدود الصحراوية إلى داخل البلاد. وتُوضِّح مصادر استخباراتية أنَّه تم معرفة اسمي اثنتين من مجموعاتِ مُقاتلينَ جُدُد جرى إدخال عناصرها إلى طرابلس بالتزامن مع قطع التيار عن العاصمة، منتصف هذا الشهر؛ الأولى تسمى «جماعة إلياس»، والثانية «جماعة صفاء الله». وتنتمي غالبية الميليشيات التي أشرفت على جلب مقاتلين أجانب بهذه الطريقة خلال الأيام الأخيرة لتنظيم القاعدة وليس تنظيم داعش، وفقًا للمصادر الأمنية، التي تشير كذلك إلى أن «هذه الميلشيات، وهي تعمل على تقوية نفسها، تسعى أيضًا لطرد المجلس الرئاسي من ليبيا، من خلال تأجيج الرأي العام على السراج».
وأثناء جولة تفقدية لتأثير «هُرُوب الضَّيْ» - كما يُقال باللهجة المحلية - شَملت بلدات الجنوب، يوضح النائب، الشريف، أنَّ السبب وراء انقطاع الكهرباء «أعمال تخريبية من مجموعات خارجة عن القانون، قامت بإقفال صمام الغاز المؤدي إلى (محطة كهرباء) الزاوية، وتم حجب ما يقرب من 2000 ميغاواط عن الخِدمة». ويضيف: «تسبَّبَ هذا في انهيار الشبكة، ودخلتْ ثلاثة أرباع الدولة في حالة إظلام كامل لأكثر من مرة. ونتج عن هذا كوارث مختلفة، منها عدم تدفق المياه في شبكات المدن وانقطاع الاتصالات في أكثر من مدينة». ويقول إن تزامُن انقطاع التيار الكهربي مع انخفاض حاد في درجات الحرارة، دفع السكان للاستعانة بوسائل تدفئة بدائية وغير مناسبة، ما تسبب في كثير من الوفيات بالاختناق بدخان الفحم.
وغرق الشمال الغربي من البلاد في إظلام شبه كامل لعدة أيام. وتعطلت الحياة، خصوصًا في طرابلس التي تعج بالسياسيين المتنافسين، وبالميليشيات المتربصة. وغصَّت قاعات الاجتماعات المعتمة والمنتديات التي تعمل بمولدات كهربائية، بتفسيرات متباينة.
ويقول الإعلامي الليبي المطلع على ملف الكهرباء، طارق القزيري لـ«الشرق الأوسط»: «أعتقد أن لانقطاع التيار جُملة من الأسباب المتضافرة، أهمها تآكل وتهالك البنية التحتية للشبكة، بالتقادم، دون استثمار حقيقي لتجديدها وتحديثها منذ سنوات طويلة، بالإضافة إلى تصاعد العُنف واستهداف البنية التحتية للشبكة نتيجة للحروب، أو كأعمال احتجاجية محلية، إلى جانب وجود مشكلات لوجيستية أحيانًا في إيصال الوقود لنقاط الشبكة أو لمحطات التوليد».
ومن جانبه يصف الشريف ما يحدث في قطاع الكهرباء بأنه «حرب غير تقليدية». ويقول موضحًا: «هذه العملية هي حرب ليست بالأسلحة التقليدية، ولكنها حرب إبادة وضد الإنسانية. وينبغي تقديم المتسببين فيها للعدالة». واكتشفَ نوابٌ في البرلمان أنَّ المُشكلة لم تقتصر فقط على «هُرُوب الضَّيْ» ولكنَّها امتدت إلى وقف إمدادات الوقود إلى مدن ومناطق أخرى، منها الجُفْرَة وسَبْهَا والشَّاطئ ومَرْزِق وغَات. ويضيف الشريف: «كُل هذه مناطق عانت في الأيام العشرة الأخيرة، حتى تحولت إلى ما يمكن وصفه بـ(المناطق المنكوبة)».
ويرجع ابتكار فكرة تهييج الرأي العام ضد السياسيين، بقطع الكهرباء والمياه عن المدن، إلى تنظيم داعش في ليبيا، منذ العام الماضي. وبَعْد سنة من الفوضَى وتخريب قطاع كبير من شبكة الكهرباء، وتراجُع دور «داعش»، تلقَّفَ تنظيم القاعدة، هذا الابتكار، بحسب ضابط في مُخابرات طرابلس. ويشير إلى أن المرة الأولى التي ظهرت فيها فِكرة قطع الكهرباء، لتأديب الخصوم، أو لتحريك قوة من القوات المنافسة تحت جنح الظلام، كانت في يوم السابع من فبراير (شباط) الماضي، على يد قائد سابق لتنظيم داعش في ليبيا، حيث «استمرت هذه اللعبة على فترات متفرقة منذ ذلك الوقت».
وبالتزامن مع التعطيل المتعمد، انتشرتْ سرقةُ مَحطَّات كهرباء على يد ميليشياتٍ تبحثُ عن المال. وحتى أبريل (نيسان) الماضي، كان جهاز مخابرات طرابلس قد تلقى تقريرًا تضمَّنَ تقديرًا لحجم الدَّمار الذي لحق بشبكة الكهرباء جراء التخريب وسرقة الكوابل، وبلغت قيمة الخسائر، وقتها، نحو خمسة مليارات دولار. وزادَ حجم الخسائر فيما بعد بدرجة مثيرة للقلق.
ومِن أكبر العمليات التي أسهمت في تضرر الشبكة سرقةُ مَحطة كهرباء قُرب بلدة الجفرة، جنوب شرقي طرابلس، وبيعها لسماسرة من كل من تشاد والجزائر. وجرتْ عملية بيع المسروقات بمبلغ مليون دولار، بينما تبلغ قيمتها الحقيقية عشرات الملايين من الدولارات، وفقًا لمصادر تحقيقات تلقَّت بلاغًا بالقضية أخيرًا. وتبيَّن أنَّ من قام بالعملية قائد ميليشيا فارّ بمقاتليه إلى الجفرة، بعد هزيمته في بنغازي.
وتعرَّض أعضاء في المجلس الرئاسي لضغوطٍ من أجل إيجاد حل. وعلى ذلك جرى في اليومين الماضيين استدعاء مسؤولِين في شركه الكهرباء. وحاولت قيادات طرابلس إيجاد سبيلٍ لوقف العَبَث بالمحطات الرئيسية، وتَواصَلَ بعضٌ منهم مع زعماء من كلٍ من جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الليبية المقاتلة، للتوسط لدى قادتها للابتعاد عن استخدام قَطْع الكهرباء وقَطْع إمدادات الوقود، كسلاح. لكن حتى هذه المحاولات يبدو أنها لم تُجدِ نفعًا مقارنة بما حدث من إظلام شبه شامل، وتَوقُّف شاحنات توزيع غاز الطهي والكيروسين، ولعدة أيام، عن العاصمة وعن عدة مدن أخرى. وفي المقابل نَشطَت صفقات استيراد الفحم عبر دول الجوار. وبينما كانت المَقْطُورات المحملة بأقدم نوع من الوقود النباتي، تعبر في الاتجاه إلى ليبيا، ظهرت مقترحات بين مسؤولي طرابلس لحل المشكلة، منها جلب محطة كهرباء بَحْرِية (عائمة) من ألمانيا لأن «موضوع الكهرباء يظهر أنه في طريقه للتصعيد»، كما علَّق عضو في المجلس الرئاسي، مشيرا إلى أن البلاد تحتاج، في هذا البرد، إلى معجزةٍ لإيجاد قوة منضبطة تُؤَمِّن محطات الكهرباء وخطوط الضغط العالي، وتُؤَمِّن وصول الوقود السائل إلى السكان.
وبعيدًا عن مكاتب الدواوين، زادت حدة الغضب في شوارع طرابلس، المحكومة بحديد الميليشيات. وخرج عدة مئات من الليبيين مجددا في ميدان «الشهداء» الذي كان يخطب فيه القذافي في الماضي (الساحة الخضراء)، للاحتجاج على «هُرُوب الضَّيْ». وتقول سيدة، وهي تحمل ابنها على ذراعيها: «لا أستطيع شراء مولد كهرباء خاص. أسعار الفحم والحطب مرتفعة. أعيش في الظَّلام والبرد. الحياة لم تعد تحتمل. وهتفَ شُبان في الجوار ضد أمراء الميليشيات، وضد حكومة السراج الضعيفة أيضًا». ويقول تقريرٌ تسلَّمه مسؤولون في العاصمة يوم 18 الشهر الحالي، إنَّ نسبة فصل الكهرباء عن الدولة وصلت، بداية من يوم 14 من الشهر نفسه، إلى 77 في المائة، وإنَّ مهندسي غرفة التحكم الرئيسية ومهندسي المحطات، اكتشفوا تعرُّض الشبكة العامة لأعمال تخريب متعمدة في أبراج الضغط العالي جنوب البلاد، تزامنت مع خروج محطاتٍ رئيسية في الشمال عن العمل، ومنها الزَّاوية والزِّنتان، والرِّويس وجنوب وغرب طرابلس.
وفي الأيام التالية انقطعتْ الكهرباء بالفعل عن نحو 80 في المائة من طرابلس. ووصلت بلاغات عن انقطاع الكهرباء من مدن وبلدات بَنِي وليد، والشَّاطِي، وتَرْهُونَة، والزاوية، وصِرْمَان، والقِرة بُولي، وصبراتة، وزُوَّارة. وبدأ بعض المسؤولين في البحث عن مَخْرج. وفي ظل هذه المأساة وصل خبراء من ألمانيا. وأجروا مسحًا لحالة الكهرباء ولخطوط الضغط العالي، في عموم ليبيا، ووجدوا أنَّ علاج المشكلة يتطلب مبلغًا قدره ستة مليارات دولار، وينتهي خلال أربعة أشهر على الأقل من الآن. ووفقًا لتقرير الخبراء، وصلت نسبة التخريب في شبكة الكهرباء الليبية إلى 60 في المائة.
وظَهرَ من تصويرٍ جَوي، قام به خبراء أجانب آخرون، أن الكثير من الكوابل النحاسية لشبكة الكهرباء، التي يعود عمرها لأكثر من ثلاثين سنة، تعرضت للسرقة. كما أنه ظهر أنَّ إعادة برمجة منظومة الكهرباء، وحدها، تحتاج إلى نحو ملياري دولار. وبينما كان يجري بحث هذه التقارير انقطعت الكهرباء مجددًا عن نحو 75 في المائة من العاصمة. وأغلق شبان غاضبون من تردي الخدمات مناطق الدِّرِيْبِي، وسِيدي المصري، والغَرَارَات، وغَوْط الشَّعال، ورأس حَسن، وزناتة. وسُمع إطلاق الرصاص في شارع الرَّشيد، وفي ميدان السويحلي. ونتج عن ذلك مقتل شخص وإصابة آخرين.
ومع استمرار انقطاع الكهرباء، خصوصًا في الليل، وقعتْ أيضًا اشتباكات عنيفة بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة على الطريق الساحلي وفي طريق الضَّوَايا، وفي وِرْشفَانَة، وذلك بين عدة ميليشيات تتنافس على جني فوائد من هذه المأساة بطرق مختلفة. وسقط قتلى من الطرفين دون معرفة العدد.
ووسط حالة الانفلات الأمني، تلجأ بعض الميليشيات أحيانًا لوضع شعار شركة الكهرباء على سياراتها حتى يسهل لها التحرك وسط الخصوم لتحقيق مآربها، بحجة أنها تعملُ على إصلاح أعطال التيار. بينما دخلت ميليشيات أخرى في شراكة مع رجال أعمال لصناعة الفحم وبيعه للسوق المتعطش.
ويقولُ أحد المنخرطِين في هذه الصناعة «الجديدة - القديمة»، إن الميليشيا توفر له كميات كبيرة من الخشب بطريقتها الخاصة. ويتولى هو، عن طريق عمال مصريين وتونسيين، إقامة «مكامير»، بحيث يغطي أكوام الخشب بالتراب، ثم يقوم بإشعال النيران في جانب منه، بغرض تسخِين الباقي بأقل كميِّة من الهواء، لمدة أسبوع على الأقل، لكي يتحول إلى فحم نباتي. ثم يطرح المنتج للبيع في أكياس بمقاسات مختلفة. ويبلغ سعر الكيس الصغير الذي يكفي لتدفئة ليلة لأسرة، نحو 3 دنانير. ويتقاسم الأرباح مع قائد الميليشيا.
ومن جانبه،يوضح النائب إسماعيل الغول الشريف، قائلا إن ما حدث من انقطاع للكهرباء خلال الأيام العشرة الأخيرة كان مأساويا.. «لكن الآن، وبعد تدخل كثير من الوساطة الشعبية والرسمية وغيرها، بدأ تدفق الغاز إلى مصْفَاة الزَّاوية وإلى محطات كهرباء أخرى، وأصبح التَّيار يتعافى تدريجيًا، ووصل إلى الجنوب بتحسن مطرد. و«كذا بدأ تدفق وقود الكيروسين والديزل الذي يساعد في عمليات التدفئة للمواطنين، ونأمل في تراجع الاعتماد على الفحم لأنه مُكلف ومَصدر خَطر».
وفي العاصمة، دعا أشرف الثّلثي، المتحدث باسم المجلس الرئاسي، المواطنين إلى ترشيد استهلاك الكهرباء. وأعلن أن جهود المجلس أفضت إلى استئناف ضخ الغاز المغذِّي لمحطة كهرباء طرابلس، بعد توقفه، وتسببه في انقطاع الكهرباء على عدد كبير من المدن الليبية، مُشيرًا إلى حجم التحديات التي تواجه شركة الكهرباء، المتمثلة في عدم عودة الشركات الأجنبية لاستكمال المشاريع المتوقفة.
ومن جانبه، يوضح طارق القزيري قائلاً إن أحد أسباب مشكلة انقطاع الكهرباء أيضًا «زيادة القوة الشرائية للمواطنين في فترات سابقة... هذا أدى لزيادة استهلاك الكهرباء، سواء باقتناء التكييف أو زيادة المحال التجارية ذات الاستهلاك العالي نسبيا، بالإضافة إلى التدهور الأمني الذي أدى لتصاعد حالات البناء العشوائي والإمدادات غير المرخصة والمخططة، ما جعل الشبكة تعاني من الضعف والفوضى معًا». ويشدد على أن حل المشكلة نهائيًا يتطلب خضوع المحطات لـ«الاستثمار والصيانة والحماية»، مشيرا إلى أن حماية الشبكة... «أمر، للأمانة، صعب في بلد مترامي الأطراف ويعاني تفسخًا أمنيًا. دون هذه الحماية ستتكرر المشكلة».



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.