سالزبورغ... رومانسية على أنغام موتسارت

هناك من يعشق تصنيف المدن، فالبعض يلقب باريس بعاصمة النور ولندن بعاصمة الضباب، أما سالزبورغ فلا يليق بها إلا لقب «عاصمة الرومانسية».
سالزبورغ عاصمة إقليم سالزبورغ الواقع شمال غربي النمسا، وهي رابع أكبر المدن النمساوية بعد العاصمة فيينا تليها مدينة غراتس فمدينة لينز، تتفوق سالزبورغ على الأخيرتين بشهرتها العالمية التي اكتسبتها لمكانتها السياحية والمعمارية والفنية، مما جعلها المدينة الأكثر إلهامًا وجذبًا للسياح صيفًا أو شتاء لكثرة النشاطات السياحية الجذابة.
يعني اسمها «قلعة الملح» وتجيء التسمية للأهمية السابقة التي كانت للملح كثروة وطنية تنقل بالمراكب من مرافئ المدينة عبر نهر سالزباخ (Salzbach)، الذي يقسمها إلى شطرين ويكسبها جمالاً لا تخطئه عين مسورًا بخلفية جبلية أخاذة إذ تحيط بالمدينة سلاسل جبال الألب الشمالية كما لا تبعد عن أروع البحيرات النمساوية سوى بضعة كيلومترات، بما في ذلك «المثلث الذهبي» الذي يضم بحيرة «موند سي وولف قانغ سي» و«سينت غيلغن سي» فيما تقدر المسافة بينها وبحيرة «زيل إم سي»، أكثر البحيرات شهرة بين السياح الخليجيين، بـ108 كيلومترات.
ما إن يذكر اسم سالزبورغ حتى يُذكر اسم مولودها الأشهر الموسيقار اماديوس ولفغانغ موتسارت 1756 - 1791م، الذي رغم قصر عمره أبدع في تأليف 626 قطعة موسيقية، ومما يذكر أن ولعه بالموسيقى بدأ وهو في الثالثة، وفي الخامسة بدأ التأليف، وكان والده يقوم بتدوين ألحانه وفي السابعة قاد أوركسترا كاملة وكانت الإمبراطورة ماريا تريزا من أشهر معجبيه.
أثناء حياته القصيرة لم ينعم موتسارت بالثراء وحتى عند وفاته لم يتوفر له المال اللازم للعلاج. إلا أن أعمال وذكرى ومخلفات موتسارت حاليا وكأنها «منجم ذهب» يدر لسالزبورغ ملايين السياح سنويا ممن يعشقون زيارة متحفه وسماع موسيقاه بما في ذلك الاستمتاع بنوع من الحلوى سميت باسمه وتزينها صورته، أصبحت معلما من معالم النمسا.
إلى ذلك، سُمِّيَت باسمه كثير من القاعات والصالات والميادين والطرقات، بما في ذلك أشهر ناقل بحري بالمدينة (Amadeus Salzburg)، الذي ينقل السياح في جولات نهرية بانورامية شتوية وصيفية تبحر لمسافة 7 كيلومترات عبر نهر سالزباخ.
هذا، ولا تقتصر شهرة سالزبورغ فنيا على موتسارت وحده، وهناك مهرجان سالزبورغ الصيفي الذي يعد عالميا واحدا من أقدم وأشهر المهرجانات، ويحتفي سنويا بعرض أوبرالي ضخم بالإضافة لعدد من المسرحيات والحفلات الموسيقية، بما في ذلك عروض تقدمها فرق موسيقى حديثة بجانب تلك الكلاسيكية.
وكما هو معلوم اكتسبت مدينة سالزبورغ شهرة لا تضاهى بعد نجاح الفلم ذائع الصيت «صوت الموسيقى» الذي صور جمالها وجبالها وخضرتها حاكيا بطريقة هوليوودية قصة عائلة ماريا فون تراب، وتلك الراهبة التي هجرت الدير وتفرغت لتربية سبعة أطفال لوالد أرمل كان ضابطًا في الجيش بالغ الصرامة.
إلى ذلك يمتزج جمال سالزبورغ الطبيعي بالفخامة المعمارية التي تعود لقرون سحيقة، والتي نجح أهل المدينة في الحفاظ عليها كمصدر لفخرهم ولمتعتهم أولاً ولمتعة السياح ثانيًا، مما يعود عليهم بدخل سنوي متنامٍ يجعل إقليمهم من أغنى الأقاليم النمساوية من حيث المداخيل السياحية.
ومن أشهر معالم سالزبورغ قلعة هيلبرون التي شيدت 1613 - 1619 وتشتهر بينابيع متدفقة ونوافير خفية تنطلق مياهها فجأة، وبمسرح صخري يعتبر أقدم مسرح أوروبي مفتوح.
ومما يزيد من روعة سالزبورغ المهارة في الموازنة بين كونها مدينة تقليدية أثرية (توثق منظمة الأمم المتحدة للثقافة والفنون «اليونيسكو» قلبها القديم إرثًا ثقافيًا إنسانيًا) وفي الوقت ذاته، نجدها مدينة حديثة جدا من حيث البنية التحتية والخدمات السريعة والإبداعات التي تتماشى مع القرن الحادي والعشرين.
وفي هذا المضمار قامت وزارة المواصلات النمساوية أخيرًا بتجربة هي الأولى من نوعها بالنمسا لاستخدام حافلات نقل عام «ميني بص» ذات قيادة ذاتية بمدينة سالزبورغ تم استعراضها وتجريبها وسط جمهرة من السياح حول الكاتدرائية التي يعود تاريخها إلى القرن السابع، وتعتبر تحفة معمارية على نسق المعمار الباروكي.
ولمن يسألون عن سياحة التسوق، تتوفر بسالزبورغ متاجر وبوتيكات صغيرة أنيقة الشكل مرصوصة ومتقابلة في طرقات مشاة متعرجة أشهرها شارع غيترايد «Getreidegasse»، الذي يحفل بكثير من الجواهر والأزياء التنكرية والتقليدية، بالإضافة لآخر صيحات الموضة ذات العلامات التجارية العالمية.
بدورها تتنافس مطاعم المدينة في جذب الزبائن موفرة أطعمة تحمل طابع الإقليم خاصة والنمسا عمومًا، وأخرى «هجين» ما بينهم، والأطعمة التي انتشرت مع العولمة.
ومن إبداعاتهم حشو قطع صغيرة من البرغر داخل القمع المصنوع من البسكويت، كتلك المستخدمة عادة لبيع المثلجات الـ«أيس كريم»، ولكونها خلطة عجيبة، فإنها تحظى بإقبال ملحوظ بسبب حب استطلاع «مكلف» لا يُطفِئ ظمأً أو يُشبِع من جوع.
إذا قمت بزيارة المدينة وما حولها هذه الأيام فسوف تتمتع بمنظر الثلوج التي تغمر جبالها وتضفي عليها بهاء خاصًا، كما فتحت منتجعات التزحلق والرياضات الشتوية أبوابها، ويبتهل الجميع طلبًا لتساقط مزيد من ثلوج تكفي لكسوة مسارات التزحلق بثلوج طبيعية تمكن من زحلقة بيئية «خضراء» بدلاً من تلك الثلوج الصناعية والأرضيات البلاستيكية، التي لجأت لها بعض صالات التزحلق كحل لمشكلة نقص الجليد بسبب التغير المناخي في بعض السنوات الأخيرة.