كُتاب مغاربة: «أدب الربيع العربي» لم يعلن عن نفسه بعد

يرون أن الأديب ليس صحافيًا يرصد الآني من الأحداث

جمال الموساوي - عبد الرحيم الخصار - محمد آيت العميم
جمال الموساوي - عبد الرحيم الخصار - محمد آيت العميم
TT

كُتاب مغاربة: «أدب الربيع العربي» لم يعلن عن نفسه بعد

جمال الموساوي - عبد الرحيم الخصار - محمد آيت العميم
جمال الموساوي - عبد الرحيم الخصار - محمد آيت العميم

على عكس ما جرى من تفاعل أدبي مع «الربيع العربي»، في أكثر من قطر عربي، تبدو الحالة المغربية مختلفة شيئًا ما، حيث تكاد تلتقي آراء الكتاب المغاربة في أن «الأديب ليس صحافيًا يرصد الآني من الأحداث»، وأن ما كتب عن الربيع العربي «يغلب عليه الطابع المباشر والنزعة الوثائقية»، وأن السنوات التي مرت على «الربيع العربي» لم تسفر بعد عن ذلك «التحول الكبير الذي كان منتظرًا منها، لكي يكون ملهمًا أو حافزًا على الإبداع»، في ظل أن «الوضع الفوضوي» الذي انتهى إليه هذا «الربيع» حاجب للرؤية «بسديميته والغموض الذي يلفه والنتائج المترتبة عليه»، بشكل يجعل «من الصعب الكتابة عنه بنوع من الصفاء في الرؤية». بل يذهب بعضهم إلى غاية القول إن «ما يمكن أن يسمى بـ(أدب الربيع العربي) لم يعلن عن نفسه بعد على الرغم من أن كتابات مصرية وسورية، مثلاً، تناولت هذا الربيع وتداعياته».

الموساوي: سنوات انتقالية
ينطلق الشاعر المغربي جمال الموساوي، في حديثه عن العلاقة بين الأدب المغربي و«الربيع العربي»، من 3 مداخل أساسية، يتمثل أولها في أن «المغرب لم يعرف ربيعًا كالذي عرفته دول أخرى، مثل تونس ومصر مثلاً باعتبارهما دولتين لم تنحدرا إلى المأزق الدامي الذي لا يزال مستمرًا مع الأسف في دول أخرى. وبالتالي ليست هناك إنتاجات أدبية مهمة مكرسة للحالة التي نتجت أو كان من المفترض أن تنتج عن الصيغة المغربية للربيع العربي أي حركة 20 فبراير (شباط) والمطالب التي عبرت عنها، وكانت في جوهرها مطالب بالإصلاح وبمزيد من الديمقراطية في معناها الواسع وتجلياتها المعروفة. وقد كان للطريقة التي تعاملت بها الدولة مع حركة الشارع أثرٌ واضح جعل الربيع المغربي يمرُّ ناعمًا على الرغم من أن المخاض المتعلق بما بعده لم يتوقف تمامًا»، وثانيها أن «مشاعر القومية العربية»، كما كان يتم الترويج لها في وقت من الأوقات عبر حركات سياسية وفكرية، لم تعد ذات قيمة في الوقت الراهن، بسبب الانخراط في نوع من الانتماء الكوني للإنسانية مع القرية الصغيرة والمواطن العالمي، وأيضًا بسبب سقوط فكرة القومية نفسها والإيمان أكثر بأن الشعوب في المنطقة تتشكل من مكونات متعددة لا بد من النظر إليها في تعددها وفي الاقتناع بحق الجميع في العيش في إطار من المساواة والاحترام المتبادل بعيدًا عن أي منطق إقصائي أو تعالٍ. والفكرة من ذلك، يضيف الموساوي، هو أن «ذلك التفاعل الذي كان في السابق مع القضايا التي تحدث في الشرق أو في المغرب أصبح أقل، أو بعبارة أدق هو تفاعل إنساني شبيه بالتفاعل الذي يمكن أن يحصل مع أي قضية في المحيط العام للمغربي، سواء شمال المتوسط أو شرقه أو جنوبه».
وفيما يتعلق بالمدخل الثالث، يرى الموساوي أنه «في جميع الحالات، الأديب ليس صحافيًا يرصد الآني من الأحداث، و5 سنوات على الربيع العربي لم تسفر بعد عن ذلك التحول الكبير الذي كان منتظرًا منها، لكي يكون ملهمًا أو حافزًا على الإبداع. على العكس يبدو أن هذا الربيع لا يزال مستمرًا لكن بشكل مأساوي على نحو لم يكن متوقعًا. وقد يأتي الوقت لكي يشكل كل هذا مادة أولية لأعمال إبداعية، باعتبار هذه الخمس سنوات وربما سنوات لاحقة مجرد سنوات انتقالية باتجاه أحد الحدين، إما ديمقراطية حقيقية وإما نكوصًا حادًا إلى الوراء».
يختم الموساوي بالإشارة إلى أمر مهم، من وجهة نظره، وهو أن «شأن الأدب في هذا السياق ليس هو شأن الأدباء والكتاب، فهؤلاء أو لنقل كثيرًا منهم أدلوا بآرائهم وبمواقفهم بخصوص الأحداث التي عرفتها المنطقة خلال هذه السنوات تحليلاً وتضامنًا ودعوات إلى وقف التناحر وعرائضَ، وغير ذلك من أشكال التعبير المتعددة، لكن أعتقد أن (أدب الربيع العربي) لم يعلن عن نفسه بعد، على الرغم من أن كتابات مصرية وسورية مثلاً تناولت الربيع وتداعياته».

آيت العميم: حقائق ملتبسة
من جهته، يرى الناقد والمترجم المغربي محمد آيت العميم، أن «الكتابة الحدثية منذورة للإهمال، لا سيما إذا ارتبطت بالأحداث أثناء وقوعها وفي خضم تطوراتها، إذ غالبًا ما تمكر الأحداث بالكتابة المتسرعة. فما حدث في بعض دول العالم العربي، من فورات لإزاحة أنظمة واستبدال أخرى بها، جاء على خلاف آمال الشعوب الغاضبة، بحيث ظلت الأمور على حالها وتقهقرت، إضافة إلى فقدان الاستقرار والدخول إلى زمن الفتنة واللاأمان وظهور التطرف والإرهاب في ظل تفكك الدول التي أصبحت فاشلة وهزلت سلطتها المركزية». وزاد آيت العميم، موضحًا وجهة نظره بالقول إن «هذا الوضع الفوضوي الحاجب للرؤية بسديميته والغموض الذي يلفه والنتائج المترتبة عليه، من الصعب الكتابة عنه بنوع من الصفاء في الرؤية. فما كتب عن الربيع العربي من كتابات يغلب عليه الطابع المباشر والنزعة الوثائقية لم ترق إلى مصاف النصوص الكبرى التي تشهد على هذا الخراب الممتد وهذه الفوضى العقيمة. إذ قبل الكلام عن الربيع العربي، أين هي النصوص الكبرى عن صورة الديكتاتور، كما هو الشأن بالنسبة إلى الرواية في أميركا اللاتينية مثل (خريف البطريرك) للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز و(أنا الأعلى) للكاتب الباريغواياني أوغوستو روا باستوس؟».
وعلاقة بالوضع المغربي، يرى آيت العميم أن «الكتابة في المغرب منشغلة هي الأخرى بهموم العالم العربي، غير أنها في اللحظة الراهنة لن تتمكن بما فيه الكفاية أن تشتبك مع هذه القضايا بالعمق اللازم، لا سيما أن مصادر المعلومة حول ما وقع عاشه الناس لحظة بلحظة عبر وسائل الإعلام والفضائيات، علمًا بأن ما قدم عوض أن يضيء أسدل ستار العتمة، وتضاربت الآراء وعم اللايقين، ولحدود الآن تبقى حقائق الأشياء ملتبسة».
لذلك يختم آيت العميم وجهة نظره بالتعبير عن اعتقاده بأن «الكتابة الحقيقية عن الربيع العربي ينبغي أن تشتغل على منطقة اللبس وتقدم نصوصًا مرتابة لا تركن إلى المكرور من القول».

الخصار: لحظة صمت
من جهته، يعتقد الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار أن «الأدب ينمو بمعزل عن السياسة»، كما يعتقد، بالمقابل، أن «الاستقرار السياسي يؤثر في الفعل الثقافي»، وأن هذا «ما وقع ويقع في المغرب باستمرار»، ممثلاً لذلك بـ«ما حدث من حركات احتجاجية في المغرب في السنوات الأخيرة»، وهو حدث «تسرّب إلى الفعل الثقافي، لكنه لم يصل إلى الأدب». وزاد الخصار، موضحًا وجهة نظره: «أقصد بذلك أن احتجاجات المثقفين كانت في الشارع، وفي الفضاء العام للتواصل، لكنها لم تنتقل إلى نصوصهم. وهذه بالنسبة إلي ميزة وليست نقصًا».
يشدد كاتب «خريف فيرجينيا» على أن «الربيع العربي لا يستطيع أن يخلق أدبًا»، وأنه «قد يخلق فقط لحظة صمت تجعل الكاتب يفكر بشكل أكثر جدية في أبعاد الكتابة»، مشيرًا إلى أن «ما يخلق الأدب اليوم هو عمر الإنسان وتجاربه المتعددة في الحياة، هو هزائمه الفردية وانتصاراته أيضًا، ألمه ولذته، شجنه الخاص وسعادته السرية»، ولذلك «لم يكتب الشعراء في المغرب قصائد عن الربيع العربي»، لأنها، برأيه، «ستكون في النهاية قصائد مناسبات تموت بموت سياقها». لكن، على العكس، من ذلك، يضيف شاعر «نيران صديقة»: «سرّني أن ينزل عدد من الشعراء والكتاب إلى الشارع ويصرخوا في المظاهرات ضد الفساد». لذلك، يختم شاعر «أنظر وأكتفي بالنظر»، وجهة نظره، قائلاً: «في القضايا والمواقف يكون من الأفضل للكاتب أن ينزل إلى الشارع. إنني أتذكر هنا مثلاً الشاعر الأميركي آلن غيسنبرغ حين وقف على سكة الحديد واعترض القطار الأميركي الذي يحمل الديناميت إلى فيتنام، وأتذكر جان جينيه الذي سار مع الفلسطينيين في مظاهراتهم ضد الاحتلال، وأتذكر إدوارد سعيد الذي حمل الحجارة مع الأطفال ورشق الجنود الإسرائيليين».



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.