عصابة من الأطباءفي باكستان وراء سرقة الأطفال

سعر المولود الذكر 7 آلاف دولار والمولودة الأنثى 3 آلاف دولار

سرقة الأطفال الرضع من المستشفيات أصبحت شائعة في باكستان
سرقة الأطفال الرضع من المستشفيات أصبحت شائعة في باكستان
TT

عصابة من الأطباءفي باكستان وراء سرقة الأطفال

سرقة الأطفال الرضع من المستشفيات أصبحت شائعة في باكستان
سرقة الأطفال الرضع من المستشفيات أصبحت شائعة في باكستان

غمرت الفرحة نصرات خيلا أوراكزي عندما رزقت بمولود ذكر ثان. واعتقدت الأم الباكستانية، التي في عقدها الرابع، أن أسرتها قد اكتملت الآن، لا سيما أنه أصبح لديها ولدان وكثير من البنات، ووافقها زوجها في هذا الاعتقاد.
لكن فرحة الزوجين الشابين، من المنطقة القبلية شمال غربي باكستان على الحدود الأفغانية، لم تدم طويلا. فبينما كانت أوراكزي لا تزال تتعافى عقب الولادة، نُقل المولود الجديد، الذي أصيب بمرض اليرقان، إلى مستشفى في مدينة بيشاور شمال غربي باكستان.
وفي غضون ساعات، سمعت الأسرة الخبر الذي كان لا يزال يؤرق الأم، فقد اختفى المولود، البالغ عمره 3 أيام فقط، من سريره بالمستشفى قبل أن يبدأ علاجه.
«لو كان قد مات، وقمنا بدفنه، لكنت قد توجهت إلى قبره وذرفت الدموع وشعرت بارتياح. ذلك كان سيصبح أهون عليّ، ولكن الآن...»، حسبما قالت أوراكزي، التي فاضت عيناها بالدموع، قبل أن تكمل كلامها.
ومضت أوراكزي تقول: «لم أنسه للحظة واحدة على مدار عام ونصف عام». وتابعت: «لم أره ولم أمعن النظر فيه قبل نقله إلى المستشفى».
وتكابد الأسرة محنة رحلة البحث عن الطفل المفقود منذ اختفائه. ولم تكن أوراكزي الأم الوحيدة في إقليم خيبر بختونخوا، شمال غربي باكستان، التي فقدت طفلها حديث الولادة بهذه الطريقة مؤخرا. إذ إن هناك مئات من الحالات المعروفة، التي تقوم الوكالات الاستخباراتية والأمنية بالتحقيق فيها، وفقا لمسؤول الشرطة مالك حبيب، الذي يقود التحقيق.
وبعد أشهر من التحقيق، كشفت الشرطة عصابة من الأطباء والعاملين في القطاع الطبي والمجرمين الذين كانوا يقومون بسرقة الأطفال الرضع من المستشفيات، وبيعهم للأزواج الذين حرموا من نعمة الإنجاب.
وقال حبيب: «إنهم كانوا يديرون سوقا سوداء للأطفال حديثي الولادة ويبيعونهم كسلعة». واقتفت السلطات أثر طفلة رضيعة، اختفت من مستوصف في العاصمة إسلام آباد، حتى مدينة بيشاور. وأدى التقاط اتصال هاتفي من أحد الخاطفين إلى بدء تحقيق استمر أكثر من عامين، وشارك فيه كثير من الوكالات.
ووضعت الشرطة كثيرا من الأشخاص، المشتبه بتورطهم في اختفاء الأطفال الرضع، تحت المراقبة لعدة أشهر، وقامت بعمليات سرية قبل مداهمة أماكن تواجدهم، وفقا لمسؤول الشرطة حبيب. وأضاف حبيب أن شرطيات من فرع الجرائم الخاصة اتصلن بمستوصفات، وتظاهرن بأنهن نساء حوامل يرغبن في خضوعهن لعمليات إجهاض، وهو الأمر المحظور في باكستان، حسب تقرير لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ).
وقال حبيب إن ضباطا من الاستخبارات ادعوا أنهم أزواج حرموا من نعمة الإنجاب، ويرغبون في شراء طفل، مضيفا: «كانت هذه هي الطريقة التي توصلنا من خلالها إلى الشبكة كلها».
وفي سياق شرح بياني لتفاصيل الجريمة، قال ضابط الشرطة حبيب، إن أطباء النساء والتوليد في العصابة كانوا يقومون بإجراء عمليات إجهاض غير قانونية في حالات الحمل المتأخر. وعندما تكون هناك حالة ولادة أخرى في نفس المستوصف وفي نفس الوقت تقريبا، كانوا يسلمون الجنين الميت لأبوي المولود الحي، ويحتفظون بمولودهما لبيعه لزبائن. ولن يدرك الوالدان أبدا أن الطفل الذي اعتقدا أنه ولد ميتا لم يكن نجلهما.
ويعد المولد الذكر غنيمة كبرى، حيث يصل سعره إلى 7 آلاف دولار، فيما يصل سعر المولودة الأنثى إلى 3 آلاف دولار.
وبعد القبض على المتورطين، حددت الشرطة هوية المئات من الأطفال الذين تم بيعهم إلى أزواج لم ينجبوا. وقررت السلطات الإبقاء على غالبية الأطفال الذين انتهى بهم الحال إلى العيش في كنف أسر جيدة.
وكانت عملية الوصول إلى الآباء الحقيقيين عملية صعبة في الغالب، حتى مع إجراء اختبار الحمض النووي (دي إن إيه)؛ لأن المستوصفات لم تكن لديها سجلات أو تم إغلاقها بالفعل.
وقال حبيب: «كان ذلك سيفتح الباب لمهمة ضخمة، ربما لن نتمكن من إتمامها». أما رضوان خان، وهو محام في إسلام آباد، فقال إن إجراءات التبني الطويلة تعد أحد الأسباب التي جعلت الأزواج، الذين حرموا من نعمة الإنجاب يجدون أن من السهل شراء طفل رضيع من السوق السوداء.
وأضاف خان: «الأمر معقد للغاية، والانتظار طويل للغاية». وتابع: «إذا قدمت طلبا لتبني طفل اليوم، فربما تحصل عليه في غضون عشرين عاما». كما داهم مسؤولو الإدارة الصحية في مدينة بختونخوا كثيرا من مراكز رعاية الأمومة والطفولة، للاشتباه بتورطها في بيع الأطفال الرضع.
وقال ذو الفقار باباخيل، المتحدث باسم مستشفى «ليدي ريدي» في بيشاور، إنه صدرت تعليمات جديدة للمستشفيات بتشديد إجراءات الأمن وتحسين ترتيبات السلامة، بما في ذلك وضع كاميرات مراقبة.
وأوضح محمد جيها نجير، طبيب في المستشفى، أنه يتم الآن وضع بطاقات تمييز في معاصم وأرجل الأطفال حديثي الولادة، كما أنه يتم وضعهم تحت المراقبة، حيث يتم السماح لعدد قليل من العاملين بالتواجد داخل الغرف التي تحتوي على حضانات.
وبالنسبة لأوراكزي، فإنها ما زالت تتشبث بالأمل في عودة طفلها المفقود يوما ما. وهي تعاني الآن من مرض السكري الناجم عن شعورها بالاكتئاب لفترة طويلة، والذي تسبب في إضعاف قدرتها على الإبصار، ولكن عينيها موجهتان صوب الباب.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)