الغرب في مأزق بسبب مقاتلي «داعش»

من أوروبا إلى سوريا... والعكس

عناصر من «داعش» يستعرضون في مسيرات بمدينة الرقة قبل بدء حرب قوات التحالف ضد التنظيم الإرهابي («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش» يستعرضون في مسيرات بمدينة الرقة قبل بدء حرب قوات التحالف ضد التنظيم الإرهابي («الشرق الأوسط»)
TT

الغرب في مأزق بسبب مقاتلي «داعش»

عناصر من «داعش» يستعرضون في مسيرات بمدينة الرقة قبل بدء حرب قوات التحالف ضد التنظيم الإرهابي («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش» يستعرضون في مسيرات بمدينة الرقة قبل بدء حرب قوات التحالف ضد التنظيم الإرهابي («الشرق الأوسط»)

حذر خبراء ومحللون من أن الغرب يواجه مأزقًا خطيرًا مُتمثلاً في عودة مُقاتلي تنظيم داعش الإرهابي إلى دولهم عقب الخسائر التي يمنى بها التنظيم بشكل يومي في أرض «الخلافة» (المزعومة) بسوريا والعراق. مؤكدين أن {الخطورة الأكبر التي تُسبب للغرب فزعًا ورعبًا ليس في العمليات التي قد يقوم بها عناصر التنظيم، بل في التمدد الداعشي داخل هذه الدول والدعوة لمبادئ التنظيم واكتسابه أعوانًا وأنصارًا ومؤيدين ومتعاطفين جُددًا، وحينها قد يكون من الصعب السيطرة على زحفهم وانتشارهم. ويرى المحللون أنه حال تضييق الغرب على عناصر «داعش» ستنحصر مهمتهم في تجنيد العناصر الجديدة لضمان مورد دائم بعيدًا عن أنظار السلطات. ومع أن البعض قد يظنون أن رجوع عناصر التنظيم لدولهم قد يُثنيهم عن تطرف أفكارهم وإعلان التوبة، فإن هذه العناصر ستتسلل وتتخفى بانتظار إيجاد مناخ يناسب تكتيكها العسكري.
حددت إحصائيات وتقارير عدد المُقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بنحو 20 في المائة من العدد الإجمالي المقدّر لعديد التنظيم. وهذا يعني أن هناك ما يقرب من 4 آلاف مقاتل أوروبي داعشي، مما يستتبع القول إن الغرب أمام مواجهات حقيقية. وإزاء تحذير الخبراء والمحللين من أن الغرب يواجه مأزقًا خطيرًا الآن، توقّعت دراسة مصرية أعدتها دار الإفتاء بمصر أن تصاحب تداعيات عودة المُقاتلين الأجانب مع صفوف الجماعات المتطرفة إلى بلدانهم أزمات أمنية كبرى، خصوصًا أن منهم من يعتزم تنفيذ عمليات انتحارية في تلك الدول انتقامًا لهزائم «داعش» في الشرق الأوسط.
معدو الدراسة أوضحوا أن «عودة المُقاتلين الأجانب إلى الدول الغربية يُعد تحديًا رهيبًا أمام تلك الدول لما يمثله هؤلاء من مخاطر محدقة على الأمن القومي والاستقرار المجتمعي والفكري فيها، وهي ما سيفرض على الدول تشديد الإجراءات على حدودها البرية والبحرية وفي موانئها ومطاراتها لمنع تسلل الإرهابيين المتطرفين عبر الطرق الملتوية، وكشف أي وثائق سفر مزوّرة».
الكلام السابق أكدته تحقيقات وتقارير أوروبية كشفت عن أن «داعش» اعتمد خطة لإعادة المقاتلين الأجانب إلى أوروبا منذ بضعة أشهر، بعد توقيعهم على استمارات خاصة تتضمن عزمهم على تنفيذ عمليات في أوروبا، وهو ما عده مراقبون بمثابة القنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في أي وقت وفي أي مكان بالعالم. كما هو معروف، يتوعد «داعش» الغربيين دائمًا بهجمات «تُنسيهم» - على حد زعمه، هجمات نيويورك يوم 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001. ولقد توعد أخيرًا في تسجيلات الدول المُنضمة للتحالف الدولي ضده، من بينها أميركا وروسيا وبعض الدول العربية، بتنفيذ هجمات عنيفة، «ما لم يكفوا» عن دعم أميركا في هجومها على أراضي «دولته» المزعومة في سوريا والعراق.
* عمليات وتجنيد
الخبير الأمني المصري، العميد السيد عبد المحسن، أكد أن «كثيرًا من عناصر (داعش) عادوا بالفعل لدولهم للقيام بأعمال إرهابية والمُساعدة في تجنيد مُوالين جُدد للتنظيم في أوروبا، وإقناعهم للقيام بأعمال متطرفة عقب خسائر التنظيم الأخيرة في سوريا والعراق». وأردف: «حال تضييق الدول على هذه العناصر عند عودتهم ستنحصر مُهمتهم في تجنيد الشباب والفتيات والعناصر الجديدة، من أجل ضمان مورد دائم لتجنيد مقاتلين جُدد لصفوف التنظيم بعيدًا عن مُراقبة سلطات هذه الدول». ويتوافق هذا الرأي مع قول الدراسة المصرية إن دول العالم باتت تعيش حالة من التأهب لمواجهة التهديدات المحتملة من مقاتلي «داعش» العائدين إليها، خصوصًا دولاً مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا. وأكدت الدراسة توعد التنظيم بشن هجمات إرهابية مستقبلية في أوروبا انتقامًا من الهزائم التي لحقت به في سوريا والعراق وليبيا، مشددة على «أن محاربة الإرهاب لا تتحدد في جغرافيا، وأنه لم تعد هناك دولة بمأمن عن الإرهاب»، لذلك ينبغي اعتماد معالجات حقيقية لمحاربة الإرهاب والتطرف، وعدم اقتصار ذلك على تهديدات المقاتلين الأجانب في أوروبا فقط، بل في جميع أنحاء العالم.
وفي السياق ذاته، قال الأكاديمي المصري الدكتور محمد أحمد الدش، إن التطورات الأخيرة في المواجهة مع «داعش» وهزائمه المتلاحقة «كشفت عن ترك بعض جنوده مناطق النزاع المسلح في سوريا والعراق، التي كان معظمها تحت سيطرته وقبضته والتوجه إلى دول غربية، تلك التي ينتمي إليها بعض هؤلاء الجنود، وخصوصًا ألمانيا وروسيا». وأضاف أن «أول ما يتبادر إلى الأذهان هو قيام العائدين إلى بلادهم بعمليات إرهابية داخل هذه الدول، على غرار ما حدث قبل ذلك من عمليات تفجيرية منفردة»، مشيرًا إلى أن الخطورة الأكبر التي تسبب للغرب فزعًا ورعبًا «ليست في تلك العمليات وحدها، بل في التمدد الداعشي داخل بلدانهم نتيجة الدعوة إلى مبادئ التنظيم واكتسابه أعوانًا وأنصارًا ومؤيدين ومتعاطفين، وحينها قد يكون من العسير السيطرة على زحفهم وانتشارهم، فتصبح تلك البلاد في وقت من الأوقات منطقة نزاع مُسلح».
* خطر رغم الانشقاقات
وحقًا، قال مراقبون إن «داعش» يحاول جاهدًا الآن الحد من الانشقاقات بداخله بعد كشف زيف قوته ووهم «الخلافة» المزعومة عن طريق مُصادرة جوازات سفر المنتسبين إليه ليضمن عدم هروبهم من التنظيم، وهذا، فضلاً عن إعدام مقاتليه الذين حاولوا الفرار من مواجهة القوات العراقية بتهمة الخيانة العظمى والسعي للانشقاق عن التنظيم. كذلك لفت المراقبون إلى أن جميع عمليات الإعدام التي ينفذها «داعش» إنما ينفذها في الأماكن العامة وأمام نظرائهم من المقاتلين، كنوع من التخويف وبث الفزع في نفوس المُقاتلين، حتى لا يفكروا في العودة إلى بلدانهم. ومن ثم، أكدوا أنه رغم ما يقوم به «داعش» ضد عناصره في سوريا والعراق، فإن بعض هؤلاء قد ينفذون جرائم وعمليات قتل في دولهم عند العودة نتيجة تشبعهم بأفكار التنظيم في القتل والتخريب.
والجدير بالذكر، أن «داعش» استهدف منذ ظهوره عام 2014 تجنيد أكبر عدد ممكن من المسلمين في الدول الأوروبية لأهداف استراتيجية، مستغلاً في ذلك حالة التخبط التي يعانيها الشباب في أوروبا، إما بسبب التهميش الاجتماعي أو غياب الوعي الديني الصحيح. وبالفعل ارتفعت أعداد المنضمين للتنظيم من الدول الأوروبية خلال عامي 2014 و2015 ارتفاعًا ملحوظًا، وخصوصًا من فرنسا وبريطانيا، الذين توجه أكثرهم إلى سوريا. وفي فرنسا خصوصًا، أعلنت الحكومة خلال أبريل (نيسان) من عام 2014 أنها ستتبنى خطة لمعالجة مشكلة الفرنسيين الذين توجهوا إلى سوريا للقتال في صفوف «داعش». وفي المقابل، غير «داعش» لهجة تهديده لأوروبا من مُجرد عبارات رنانة تتوعد بالقتل وغير قابلة للتصديق مثل «لن تهنأ أميركا» و«سنفتح أوروبا»... إلى تهديدات حقيقية بتنفيذ عمليات فردية نفذها بالفعل أفراد يعيشون في الدول المهددة. وهذه الاستراتيجية أطلق عليها التنظيم «الذئاب المنفردة» حيث يقوم العنصر - بحسب الخبراء - بعمليات قتل وتفجير دون الرجوع لقيادة التنظيم الأم.
الدكتور الدش، وهو مدرّس للدعوة والثقافة الإسلامية بمصر، شدد على أن عودة المقاتلين الدواعش إلى دولهم لها تبعاتها على تلك الدول، ولا بد أن تكون البداية برصد تحركات عناصر التنظيم ودراسة منهجهم في التخطيط وأساليبهم في التخفي والقتال، وكذلك تكثيف المراقبة الأمنية على المواطنين. ولفت إلى أنه لو نجح «داعش» في التمدد والزحف الذي يطمح له «لا شك، سيؤثر سلبًا على تلك الدول سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا... سياسيًا بانشغال الساسة وأصحاب الرأي في كيفية المواجهة وسبل القضاء على تلك العناصر، واجتماعيًا بالترقب والحذر والرعب الذي يسود المجتمع نتيجة الإرهاب والتفجيرات المحتمل وقوعها في أي لحظة وأي مكان، واقتصاديًا بالتدمير والخراب الذي يلحق بتلك الدول وبنيتها ومواردها الاقتصادية». وتابع الدش أن «هذا ما يمكن أن يكشف المستقبل النقاب عنه، ولعل تلك الدول تعلم خطورة ذلك فتكثف جهودها في إجهاض محاولات التنظيم في التسلل داخل مدنهم لإيقاظ خلاياه النائمة وإحياء دعوته الدموية داخل تلك الدول الغربية». واستطرد: «قد يظن البعض أن رجوع عناصر هذا التنظيم المندحر إلى دولهم في الغرب يمثل نوعًا من الانثناء عن تطرف أفكارهم، وإعلان التوبة عن جرائمهم المنكرة. ولكن التكوين النفسي والعقلي لهؤلاء لا يُنبئ عن ذلك في أغلب أحوالهم، ولو صدقوا في ذلك لأعلنوا عن أنفسهم وتقدموا لمحاكمات عادلة تطهرهم وتغسل أيديهم من دماء الأبرياء. إنهم لا شك سيتسللون وسيتخفون لإيجاد مناخ جديد يُناسب تكتيكهم العسكري، وتجنيد عناصر جديدة لإلحاق الدمار والخراب والإتيان على الأخضر واليابس».
* استراتيجية لمكافحة الإرهاب
وفي هذا السياق، طالبت دراسة دار الإفتاء بإيجاد استراتيجية لمكافحة الإرهاب تلتزم بها جميع دول العالم، لافتة إلى أن «المبادرة التي دعا إليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتشكيل اتحاد عالمي لمكافحة الجماعات الإرهابية وعلى رأسها (داعش)، أصبحت ضرورة ملحة تجدر الاستجابة الفورية لها». كذلك حثت الدراسة جميع دول العالم إلى مراجعة السياسات الأمنية والدفاعية وتشديد الإجراءات على حدودها البرية والبحرية وفي موانئها ومطاراتها، مما لا يدع مجالاً لتسلل مقاتلي «داعش» أو غيره من التنظيمات المتطرفة، خصوصًا، أن هؤلاء أصبحوا على دراية بسلوك طرق ملتوية واستخدام وثائق سفر مزورة للعودة إلى أوطانهم، فضلاً عما يحملونه من أفكار متطرفة وأساليب مخادعة، يمكنهم بها جذب مزيد من العناصر لتشكيل خلايا صغيرة تعمل على تنفيذ عمليات انتحارية وإثارة القلاقل في تلك الدول. ودعت أيضًا دول العالم إلى تطوير مزيد من الأدوات «لوأد التطرف العنيف، وأن تعمل على إعادة تأهيل العناصر المتطرفة العائدة من مناطق الصراع إلى جانب التعامل الأمني معهم»، مؤكدة أن دول العالم بحاجة إلى توسيع أدوات التعامل مع المقاتلين العائدين إلى بلدانهم.
* اليقظة مطلوبة
وحول كيفية تصدي الدول للمقاتلين الأجانب عند عودتهم لدولهم، قال الأكاديمي الدكتور حامد المكاوي، إن «على الدول أن تكون يقظة في كل وقت، وأن تقوم بتتبع الجهلاء من هذه العناصر في دولهم، لأن ما يقرب من 75 في المائة منهم غير جامعيين اقتصر تعليمهم على مراحل قبل الجامعة، وينبغي عقد دورات دينية ونفسية لهم تحصنهم من استقطاب تلك الجماعات المتطرفة، فضلاً عن تأمين الحدود والتعامل مع كل من يرفض الوقوف للتحقق من شخصيته واستعمال كاميرات مراقبة ووسائل حديثة وكمائن»... وهذا، فضلاً عن مراقبة مجلة «دابق» الداعشية، أحد منابر التنظيم الإعلامية، على الإنترنت، فهي مصدر موثوق وحقيقي لفهم كيف يُفكر الدواعش في التعامل مع الأجانب الفارين لدولهم.
* الأطفال والأرامل
في غضون ذلك، تفيد التقارير بأن «داعش» يقوم بتنفيذ مخطط خطير لمواجهة هروب مقاتليه الأجانب وعودتهم إلى دولهم، وذلك عن طريق الاعتماد على الأطفال والأرامل للقيام بمهام مقاتليه في القتل والتفجير. وحسب الدراسة المصرية، فإن التنظيم ماضٍ في تنفيذ خطة لإعداد جيش جديد من الأطفال يدعم صفوفه، ويطلق عليهم «أشبال جند الخلافة». وهم الأطفال ما فوق العاشرة ودون الخامسة عشرة، ممن فقدوا ذويهم في عمليات «داعش» القتالية، فضلاً عن الأرامل اللاتي فقدن أزواجهن. وأرجعت الدراسة المصرية لجوء «داعش» لهذا التدبير إلى ضعف الدعم اللوجيستي المقدم للتنظيم نتيجة تضييق الخناق عليه، ونقص القوة العددية نتيجة انفضاض مؤيديه عن التنظيم فكريًا، مما كان له عظيم الأثر في الحؤول بينهم وبين الانضمام لصفوف التنظيم، فكان سببًا رئيسيًا في هذه القلة العددية.
وبالفعل، تشير أحدث المعلومات إلى انخفاض عدد مقاتلي «داعش» في كل من سوريا والعراق إلى أقل من 22 ألف مُقاتل، مع أنه كان يُقدر في وقت سابق بنحو 30 ألف مُقاتل، وذلك بسبب تأثير الضربات التي يشنها التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية التي تسببت في مقتل كثير من مقاتليه في الشرق الأوسط.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟