أين دروب الأمل في مواجهة مسالك التعصب والأصولية الغربية؟

تساؤلات في أوروبا

مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
TT

أين دروب الأمل في مواجهة مسالك التعصب والأصولية الغربية؟

مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)

بادئ ذي بدء يجب القول إنه إن كان الخوف من الاختلاف هو العنصر الأساسي لهذه للأصولية، لذا يتوجب علينا السعي من أجل بناء الأسس التربوية والتعليمية لنتخطى هذا الخوف، وذلك عبر بعض المنطلقات، وهي جزء من كل وغير جامعة أو مانعة، بل قابلة للتطوير والإضافة والتحديث والحذف إن لزم الأمر.
إن تعريف ما هو غريب عنا هو الخطوة الأولى للتخلص من الخوف. ويستلزم هذا السلوك المنفتح قدرًا كبيرًا من الحساسية، ولن تكون المعرفة النظرية لعناصر الاختلاف العامل الرئيسي لنمو هذا الإدراك، بل الخبرات الحياتية هي من أهم الأسس التي يقوم عليها. إن الانخراط بنقاش منطقي مع الإنسان الأصولي أمر شبه مستحيل ولا طائل منه، لأن نزعته الراديكالية لا تنظر إلى ما هو منطقي، بل يبقى شغله الشاغل تحقيق أكبر قدر من الأمان الذاتي. في حين أن الخبرة التي يكتسبها الفرد من كل ما هو جديد تساعد على نضوجه الفكري وتنمي قدرته على التخلص من مخاوفه.
* الاهتمام بالتعليم
الأسرة هي المكان الأول الذي يتعلم فيه الإنسان سلوكياته تجاه المجتمع، وفيه يستكشف الطفل كل ما هو جديد داخل الأمان الذي توفره الأسرة، وبخطوات تدريجية وصغيرة ينفتح عالم رائع أمام عينيه. ومن أهم عوامل النمو الفكري للطفل التي يجب الحفاظ عليها عامل الفضول، ومعه يتعلم الطفل كيف يأخذ حذره من التجارب المؤلمة التي تصادفه. من الطبيعي أيضًا أن ينغلق الطفل على نفسه إذا وقع من هذه التجارب أكثر مما يستطيع استيعابه، لكن انطلاقته الأولى نحو التجربة الجديدة تنبع من الاهتمام والفضول وليس من الخوف أو الإدراك.
أعضاء الأسرة أول الناس الآخرين الذين يلتقي بهم الطفل، وهذا الانطباع البدائي عن آخر له تأثير جوهري على الطفل. فإن كان الانطباع سلبيًا فإن شخصًا آخر سيكون بمثابة العدو بالنسبة له. تستمر مهمة تعليم الطفل في المدرسة. وهناك يلتقي بأقرانه، وبطبيعة الأمر يحدث تنافس بينهم. غير أن تجربة الصداقة ستساعد على تنمية الثقة بالآخر أيضًا. ثم مع تجربة اللقاء مع أطفال من جنسيات وأجناس وأعراق مختلفة، إن كانت هذه التجربة إيجابية، سيتعلم الطفل التعامل باحترام ومحبة مع هذا الاختلاف.
وانطلاقًا من النقطة الأخيرة يأتي دور الهيئة التعليمية، وهي المدرسة. وعلينا أن نشجع إنشاء المدارس التي تحتضن الثقافات المختلفة، إذ إنها الركيزة لأجيال المستقبل في مجتمعات العالم التي أصبح فيها تعدد الثقافات والديانات أمرًا واقعًا. والبديل لمدارس متعددة الثقافات هو تنظيم معسكرات صيفية. ويجب أن تكون لنا رؤية مستقبلية وخطة لتوفير كل الإمكانات التي تسهم في بناء علاقة الصداقة والتضامن بين الثقافات والجماعات الإنسانية المختلفة. ومن ثم، عندما يدرك الطفل هذه التجارب الحياتية بطريقة سليمة تبدأ مرحلة إيجابية لتأسيس مفهوم احترام الرأي الآخر، ومن أهم ما يدرس في الغرب: الفلسفة والتاريخ.
* المنطق والانفتاح
في الغرب، الفلسفة تعرّف التساؤل والتدقيق في كل شيء، والبحث عن ماهية الأشياء وقوانينها، وهي محاولة للإجابة عن الأسئلة الأساسية التي يطرحها الوجود والكون. ولأن التساؤلات تتجدد مع كل ظاهرة جديدة في علوم الحياة وتطورها الطبيعي، تتجدد الإجابات التي توصل إليها العقل الفلسفي من قبل. والفكر العملي الواعي يترك دائمًا الباب مفتوحًا لهذه المستجدات، ويتطلع إلى نظرية مختلفة تساعده في التوصل إلى إجابة غير التي توصل إليها، فيكون هذا السلوك مضادًا تمامًا لسلوك ضيق الأفق عند الأصولي.
أما التاريخ فهو يعلم الإنسان أن جميع الحضارات تتغيّر مع مرور الزمان. كما أن التاريخ يظهر أمام أعيننا أن معظم الأعراف التي نثمنها متغيرة أيضًا، وفي ضوء التقدير المبالغ فيه من مصدر معين في حقبة محددة من الزمن تفقد مقولة «هذا ما جرى عليه العرف» الوزن الثقيل الذي نعطيه لها. ثم إن معرفة تاريخ الأشياء والأحداث مهم أيضًا لأنها تكشف لنا عن الجذور التي تربطنا بالماضي وتظهر لنا كيف بدأت الأمور. وتحت قشرة المتغيرات يشكل التاريخ هوية الإنسان التي تنمو من جذور ماضيها، متشربة بخبرات الزمن، ومستفيدة من دروس وأخطاء الماضي.
* إشكالية الهجرة
في بعض دول أوروبا، عندما يولد الإنسان وينشأ داخل حدود دولة ما، فإن هذا يجعله مواطنًا لهذه الدولة، له حقوق وعليه واجبات طبقًا للقوانين السائدة. ولكن عندما يولد أجنبي في البلد نفسه يحرم من الجنسية حتى يمارس الحقوق ويؤدي الواجبات نفسها. وبدلاً من أن ينادي البعض في الغرب بحقوق إنسانية لشعوب خارج حدود الدول الأوروبية - والغرب عمومًا، فإن الأحرى السعي لإعطاء هذه الحقوق للأجانب الذين ولدوا داخل أوروبا بدلاً من تهميشهم، ودفعهم دفعًا نحو التقوقع ثم الراديكالية والإرهاب.
كم من شعوب جاءت إلى أوروبا، تاركة بصمتها الإنسانية؟ إنهم يشكلون جزءًا من هويتها. وحركات الهجرة تثري دائمًا المجتمعات المضيفة، ليس فقط بسبب التبادل الثقافي الذي يحدث، بل لأن معظم المهاجرين يمثلون في معظم الأحوال أفضل الكفاءات في البلدان التي هاجرت منها.
اليوم بعض العقلاء والحكماء في أوروبا، خصوصًا، يتساءلون: «كيف لنا أن نطالب المهاجرين بالاندماج، وفي الوقت نفسه نعزلهم في مناطق - أو غيتوهات - محرومة من الخدمات التي تليق بحياة إنسانية كريمة... وكأننا نلقي بهم لأنياب العنف والإدمان؟».
* لا احتكار للحقيقة
لنأخذ هنا على سبيل المثال شكل المكعب، فنحن نرى من هذا الشكل 3 من جوانبه الأربعة. وفى كل مرة نحركه لرؤية الجانب الرابع من المكعب. نفس الشيء يحدث عندما نناقش الأحداث الحالية: ينظر شخصان لنفس الحدث، ولا يتفقان على رأي واحد، لأنهما ينظران إليه من جانبين مختلفين، وكل جانب يتكون من عدة عوامل يتميز بها عن الآخر، مثل الشخصية، والخلفية التاريخية، والمستوى الاجتماعي، ومكان السكن، وغيرها من الاختلافات. ولكل من هذين الرأيين نصيب من الحقيقة.
الحوار هو الذي يساعدنا على تبادل وجهات النظر المختلفة لنفس الحدث الذي يهم جميع الأطراف المشتركة. ولكن الحوار ليس بالعملية السهلة. فمن أجل أن نفهم وجهة نظر الآخر، يجب أن نترك وجهة نظرنا لفترة وجيزة، ونضع أنفسنا في مكان الآخر. فمن أجل رؤية جانب المكعب الغائب عن أنظارنا، يجب أن نتحرك نحوه، أن نبادر بالمحاولة حتى إن كنا نشعر بالخوف من أن تذهب عنا رؤيتنا الخاصة، والأمان الذي تضمنه قناعاتنا المألوفة لنا.
الديمقراطية التي تطبقها بلدان أوروبا تأسست بداية على مبدأ الحوار. وإذا أرادت الحفاظ عليها لا بد من أن تدرك أهمية هذا المبدأ. وفى الوقت نفسه يتطلب الحوار الحقيقي توفر المساواة بين الأطراف المشتركة، وأن تسعى إلى معرفة الحقيقة. ويعني أيضًا أن التواصل بين الأطراف لا يحدث بوصاية على الآخر، ولا يعني محاولة إقناع طرف برأي الطرف الآخر. وهنا للإعلام دور جوهري في تعزيز الحوار وبنيان الاحترام المتبادل. ولكن الواقع غير ذلك، فنرى أن الإعلام لا يهمه سوى تحقيق السبق الصحافي، الذي كثيرًا ما يسبب تفاقم المشكلات بدلاً من معالجتها.
لا أحد يملك الرؤية المطلقة، ولذلك وجب على الجميع ترك المساحة للآخرين، لأنهم يزيدون ثراء المعرفة بغنى جديد، نابع من خلفيتهم التاريخية وخبراتهم، فالآخر جدير باحترام فرديته.
* الحكمة والتسامح
عندما نعترف بمحدودية رؤيتنا نصل إلى خطوات التسامح، والتأني في التفكير قبل أن نقرر أو نرفض الرأي الآخر. والعصر الحديث يمثل أرضية صالحة لمبدأ الحوار والتسامح، بعد انهيار الآيديولوجيات الكبرى، وانتشار مبدأ النسبية في كثير من ميادين الفكر. غير أننا ما زلنا نواجه خطرًا ناتجًا عن سوء فهم لمبدأ التسامح، بأنه دلالة على ضعف فكري، فيتساءل البعض عن ضرورة ممارسة التسامح وهم في موقف اليقين بصحة فكرهم.
التحدي الذي يواجه الغرب الآن هو خلق التوازن بين قناعته بأنه على حق، وفي الوقت نفسه الاستجابة للرأي الآخر الذي نجد بعض حامليه أيضًا في موقع القناعة بفكره. وربما نستطيع مواجهة هذه المعضلة إذا وضعنا في الاعتبار النقاط التالية:
- هناك مسائل لا تستحق عناء الجدال، فالإنسان الحكيم يستطيع أن يعطي الأشياء حجمها الذي تستحقه دون مغالاة. كما أنه قد لا يتفق مع كثير من الأمور، ولكنه يستطيع تمييز الأمور الأكثر خطورة ويهتم بمواجهتها. وهو يستطيع التغاضي عن بعض الأخطاء حتى لا تسبب مواجهته لها أضرارًا أكبر. أما الأصولي المتزمت فيخاطر بحياته وبحياة الآخرين من أجل أفكار لا تستحق هذا العناء المبالغ فيه، لأنه لا يستطيع أن يضع كل مشكلة في حجمها الحقيقي.
- إن التسامح واحترام كرامة الإنسان تعود بفائدة أسمى من الضمانات الفردية أو تخص جماعة واحدة دون غيرها.
- الإنسان الحكيم يناصر ما هو حق. وطبقًا للقواعد والقوانين المتبعة في نظام ديمقراطي، حتى إن كان هذا يعني إنصاف جماعة أخرى غير تلك التي ينتمي إليها. أما الأصولي فيلجأ إلى أساليب عنيفة، مستغلاً مبدأ الديمقراطية لتجاوزه ويحقق أهدافه وأهداف الجماعة التي ينتمي إليها.
- إذا كان الغرب مسيحي الإيمان بالفعل، فقد أحب عيسى (عليه السلام) الخاطئ لكنه كره الخطيئة، وإذا أدرك ماذا تعني وصيته «أحبوا أعداءكم»، فعلى الغربيين التسامح مع الخاطئ وفي الوقت نفسه رفض الشر.
* هل للتسامح حدود؟
انطلاقًا من العوامل الثلاثة التي تنمي التسامح الناضج، نستطيع أن نتوصل إلى بعض النتائج:
أولاً: التغاضي عن أخطاء لا تمثل أهمية تذكر.
ثانيًا: احترام الآخر دائمًا.
ثالثًا: رفض الشر، وليس فاعله.
طبعًا من الخطأ أن نخلط بين التسامح والتهاون مع سلوكيات وأفعال عنيفة. ولكن أين هو الحد الذي يتوقف عنده التسامح؟ وكيف نحدد الشر ونحد منه؟
نستطيع أن نقول اليوم إن السلوك الذي لا يحترم الحقوق الإنسانية هو الحد الذي عنده يتوقف التسامح. وهى الأدنى من الحقوق التي اتفقت جميع الدول على مراعاتها، من أجل ضمان حياة كريمة للإنسان.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.