أين دروب الأمل في مواجهة مسالك التعصب والأصولية الغربية؟

تساؤلات في أوروبا

مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
TT

أين دروب الأمل في مواجهة مسالك التعصب والأصولية الغربية؟

مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)

بادئ ذي بدء يجب القول إنه إن كان الخوف من الاختلاف هو العنصر الأساسي لهذه للأصولية، لذا يتوجب علينا السعي من أجل بناء الأسس التربوية والتعليمية لنتخطى هذا الخوف، وذلك عبر بعض المنطلقات، وهي جزء من كل وغير جامعة أو مانعة، بل قابلة للتطوير والإضافة والتحديث والحذف إن لزم الأمر.
إن تعريف ما هو غريب عنا هو الخطوة الأولى للتخلص من الخوف. ويستلزم هذا السلوك المنفتح قدرًا كبيرًا من الحساسية، ولن تكون المعرفة النظرية لعناصر الاختلاف العامل الرئيسي لنمو هذا الإدراك، بل الخبرات الحياتية هي من أهم الأسس التي يقوم عليها. إن الانخراط بنقاش منطقي مع الإنسان الأصولي أمر شبه مستحيل ولا طائل منه، لأن نزعته الراديكالية لا تنظر إلى ما هو منطقي، بل يبقى شغله الشاغل تحقيق أكبر قدر من الأمان الذاتي. في حين أن الخبرة التي يكتسبها الفرد من كل ما هو جديد تساعد على نضوجه الفكري وتنمي قدرته على التخلص من مخاوفه.
* الاهتمام بالتعليم
الأسرة هي المكان الأول الذي يتعلم فيه الإنسان سلوكياته تجاه المجتمع، وفيه يستكشف الطفل كل ما هو جديد داخل الأمان الذي توفره الأسرة، وبخطوات تدريجية وصغيرة ينفتح عالم رائع أمام عينيه. ومن أهم عوامل النمو الفكري للطفل التي يجب الحفاظ عليها عامل الفضول، ومعه يتعلم الطفل كيف يأخذ حذره من التجارب المؤلمة التي تصادفه. من الطبيعي أيضًا أن ينغلق الطفل على نفسه إذا وقع من هذه التجارب أكثر مما يستطيع استيعابه، لكن انطلاقته الأولى نحو التجربة الجديدة تنبع من الاهتمام والفضول وليس من الخوف أو الإدراك.
أعضاء الأسرة أول الناس الآخرين الذين يلتقي بهم الطفل، وهذا الانطباع البدائي عن آخر له تأثير جوهري على الطفل. فإن كان الانطباع سلبيًا فإن شخصًا آخر سيكون بمثابة العدو بالنسبة له. تستمر مهمة تعليم الطفل في المدرسة. وهناك يلتقي بأقرانه، وبطبيعة الأمر يحدث تنافس بينهم. غير أن تجربة الصداقة ستساعد على تنمية الثقة بالآخر أيضًا. ثم مع تجربة اللقاء مع أطفال من جنسيات وأجناس وأعراق مختلفة، إن كانت هذه التجربة إيجابية، سيتعلم الطفل التعامل باحترام ومحبة مع هذا الاختلاف.
وانطلاقًا من النقطة الأخيرة يأتي دور الهيئة التعليمية، وهي المدرسة. وعلينا أن نشجع إنشاء المدارس التي تحتضن الثقافات المختلفة، إذ إنها الركيزة لأجيال المستقبل في مجتمعات العالم التي أصبح فيها تعدد الثقافات والديانات أمرًا واقعًا. والبديل لمدارس متعددة الثقافات هو تنظيم معسكرات صيفية. ويجب أن تكون لنا رؤية مستقبلية وخطة لتوفير كل الإمكانات التي تسهم في بناء علاقة الصداقة والتضامن بين الثقافات والجماعات الإنسانية المختلفة. ومن ثم، عندما يدرك الطفل هذه التجارب الحياتية بطريقة سليمة تبدأ مرحلة إيجابية لتأسيس مفهوم احترام الرأي الآخر، ومن أهم ما يدرس في الغرب: الفلسفة والتاريخ.
* المنطق والانفتاح
في الغرب، الفلسفة تعرّف التساؤل والتدقيق في كل شيء، والبحث عن ماهية الأشياء وقوانينها، وهي محاولة للإجابة عن الأسئلة الأساسية التي يطرحها الوجود والكون. ولأن التساؤلات تتجدد مع كل ظاهرة جديدة في علوم الحياة وتطورها الطبيعي، تتجدد الإجابات التي توصل إليها العقل الفلسفي من قبل. والفكر العملي الواعي يترك دائمًا الباب مفتوحًا لهذه المستجدات، ويتطلع إلى نظرية مختلفة تساعده في التوصل إلى إجابة غير التي توصل إليها، فيكون هذا السلوك مضادًا تمامًا لسلوك ضيق الأفق عند الأصولي.
أما التاريخ فهو يعلم الإنسان أن جميع الحضارات تتغيّر مع مرور الزمان. كما أن التاريخ يظهر أمام أعيننا أن معظم الأعراف التي نثمنها متغيرة أيضًا، وفي ضوء التقدير المبالغ فيه من مصدر معين في حقبة محددة من الزمن تفقد مقولة «هذا ما جرى عليه العرف» الوزن الثقيل الذي نعطيه لها. ثم إن معرفة تاريخ الأشياء والأحداث مهم أيضًا لأنها تكشف لنا عن الجذور التي تربطنا بالماضي وتظهر لنا كيف بدأت الأمور. وتحت قشرة المتغيرات يشكل التاريخ هوية الإنسان التي تنمو من جذور ماضيها، متشربة بخبرات الزمن، ومستفيدة من دروس وأخطاء الماضي.
* إشكالية الهجرة
في بعض دول أوروبا، عندما يولد الإنسان وينشأ داخل حدود دولة ما، فإن هذا يجعله مواطنًا لهذه الدولة، له حقوق وعليه واجبات طبقًا للقوانين السائدة. ولكن عندما يولد أجنبي في البلد نفسه يحرم من الجنسية حتى يمارس الحقوق ويؤدي الواجبات نفسها. وبدلاً من أن ينادي البعض في الغرب بحقوق إنسانية لشعوب خارج حدود الدول الأوروبية - والغرب عمومًا، فإن الأحرى السعي لإعطاء هذه الحقوق للأجانب الذين ولدوا داخل أوروبا بدلاً من تهميشهم، ودفعهم دفعًا نحو التقوقع ثم الراديكالية والإرهاب.
كم من شعوب جاءت إلى أوروبا، تاركة بصمتها الإنسانية؟ إنهم يشكلون جزءًا من هويتها. وحركات الهجرة تثري دائمًا المجتمعات المضيفة، ليس فقط بسبب التبادل الثقافي الذي يحدث، بل لأن معظم المهاجرين يمثلون في معظم الأحوال أفضل الكفاءات في البلدان التي هاجرت منها.
اليوم بعض العقلاء والحكماء في أوروبا، خصوصًا، يتساءلون: «كيف لنا أن نطالب المهاجرين بالاندماج، وفي الوقت نفسه نعزلهم في مناطق - أو غيتوهات - محرومة من الخدمات التي تليق بحياة إنسانية كريمة... وكأننا نلقي بهم لأنياب العنف والإدمان؟».
* لا احتكار للحقيقة
لنأخذ هنا على سبيل المثال شكل المكعب، فنحن نرى من هذا الشكل 3 من جوانبه الأربعة. وفى كل مرة نحركه لرؤية الجانب الرابع من المكعب. نفس الشيء يحدث عندما نناقش الأحداث الحالية: ينظر شخصان لنفس الحدث، ولا يتفقان على رأي واحد، لأنهما ينظران إليه من جانبين مختلفين، وكل جانب يتكون من عدة عوامل يتميز بها عن الآخر، مثل الشخصية، والخلفية التاريخية، والمستوى الاجتماعي، ومكان السكن، وغيرها من الاختلافات. ولكل من هذين الرأيين نصيب من الحقيقة.
الحوار هو الذي يساعدنا على تبادل وجهات النظر المختلفة لنفس الحدث الذي يهم جميع الأطراف المشتركة. ولكن الحوار ليس بالعملية السهلة. فمن أجل أن نفهم وجهة نظر الآخر، يجب أن نترك وجهة نظرنا لفترة وجيزة، ونضع أنفسنا في مكان الآخر. فمن أجل رؤية جانب المكعب الغائب عن أنظارنا، يجب أن نتحرك نحوه، أن نبادر بالمحاولة حتى إن كنا نشعر بالخوف من أن تذهب عنا رؤيتنا الخاصة، والأمان الذي تضمنه قناعاتنا المألوفة لنا.
الديمقراطية التي تطبقها بلدان أوروبا تأسست بداية على مبدأ الحوار. وإذا أرادت الحفاظ عليها لا بد من أن تدرك أهمية هذا المبدأ. وفى الوقت نفسه يتطلب الحوار الحقيقي توفر المساواة بين الأطراف المشتركة، وأن تسعى إلى معرفة الحقيقة. ويعني أيضًا أن التواصل بين الأطراف لا يحدث بوصاية على الآخر، ولا يعني محاولة إقناع طرف برأي الطرف الآخر. وهنا للإعلام دور جوهري في تعزيز الحوار وبنيان الاحترام المتبادل. ولكن الواقع غير ذلك، فنرى أن الإعلام لا يهمه سوى تحقيق السبق الصحافي، الذي كثيرًا ما يسبب تفاقم المشكلات بدلاً من معالجتها.
لا أحد يملك الرؤية المطلقة، ولذلك وجب على الجميع ترك المساحة للآخرين، لأنهم يزيدون ثراء المعرفة بغنى جديد، نابع من خلفيتهم التاريخية وخبراتهم، فالآخر جدير باحترام فرديته.
* الحكمة والتسامح
عندما نعترف بمحدودية رؤيتنا نصل إلى خطوات التسامح، والتأني في التفكير قبل أن نقرر أو نرفض الرأي الآخر. والعصر الحديث يمثل أرضية صالحة لمبدأ الحوار والتسامح، بعد انهيار الآيديولوجيات الكبرى، وانتشار مبدأ النسبية في كثير من ميادين الفكر. غير أننا ما زلنا نواجه خطرًا ناتجًا عن سوء فهم لمبدأ التسامح، بأنه دلالة على ضعف فكري، فيتساءل البعض عن ضرورة ممارسة التسامح وهم في موقف اليقين بصحة فكرهم.
التحدي الذي يواجه الغرب الآن هو خلق التوازن بين قناعته بأنه على حق، وفي الوقت نفسه الاستجابة للرأي الآخر الذي نجد بعض حامليه أيضًا في موقع القناعة بفكره. وربما نستطيع مواجهة هذه المعضلة إذا وضعنا في الاعتبار النقاط التالية:
- هناك مسائل لا تستحق عناء الجدال، فالإنسان الحكيم يستطيع أن يعطي الأشياء حجمها الذي تستحقه دون مغالاة. كما أنه قد لا يتفق مع كثير من الأمور، ولكنه يستطيع تمييز الأمور الأكثر خطورة ويهتم بمواجهتها. وهو يستطيع التغاضي عن بعض الأخطاء حتى لا تسبب مواجهته لها أضرارًا أكبر. أما الأصولي المتزمت فيخاطر بحياته وبحياة الآخرين من أجل أفكار لا تستحق هذا العناء المبالغ فيه، لأنه لا يستطيع أن يضع كل مشكلة في حجمها الحقيقي.
- إن التسامح واحترام كرامة الإنسان تعود بفائدة أسمى من الضمانات الفردية أو تخص جماعة واحدة دون غيرها.
- الإنسان الحكيم يناصر ما هو حق. وطبقًا للقواعد والقوانين المتبعة في نظام ديمقراطي، حتى إن كان هذا يعني إنصاف جماعة أخرى غير تلك التي ينتمي إليها. أما الأصولي فيلجأ إلى أساليب عنيفة، مستغلاً مبدأ الديمقراطية لتجاوزه ويحقق أهدافه وأهداف الجماعة التي ينتمي إليها.
- إذا كان الغرب مسيحي الإيمان بالفعل، فقد أحب عيسى (عليه السلام) الخاطئ لكنه كره الخطيئة، وإذا أدرك ماذا تعني وصيته «أحبوا أعداءكم»، فعلى الغربيين التسامح مع الخاطئ وفي الوقت نفسه رفض الشر.
* هل للتسامح حدود؟
انطلاقًا من العوامل الثلاثة التي تنمي التسامح الناضج، نستطيع أن نتوصل إلى بعض النتائج:
أولاً: التغاضي عن أخطاء لا تمثل أهمية تذكر.
ثانيًا: احترام الآخر دائمًا.
ثالثًا: رفض الشر، وليس فاعله.
طبعًا من الخطأ أن نخلط بين التسامح والتهاون مع سلوكيات وأفعال عنيفة. ولكن أين هو الحد الذي يتوقف عنده التسامح؟ وكيف نحدد الشر ونحد منه؟
نستطيع أن نقول اليوم إن السلوك الذي لا يحترم الحقوق الإنسانية هو الحد الذي عنده يتوقف التسامح. وهى الأدنى من الحقوق التي اتفقت جميع الدول على مراعاتها، من أجل ضمان حياة كريمة للإنسان.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟