الأزمة العميقة لدى تنظيمات التطرف العنيف

بين «لا تاريخية» التطرف و«أصالة» العلم الشرعي

أسامة ابن لادن زعيم «القاعدة» السابق (وسط) وإلى يمينه أيمن الظواهري الزعيم الحالي للتنظيم الإرهابي ومحمد عاطف (أبو حفص) المسؤول العسكري السابق الذي قتل نهاية عام 2001، في مؤتمر صحافي عقدوه في قندهار وأعلنوا فيه الحرب على الغرب عام 1998 (غيتي)
أسامة ابن لادن زعيم «القاعدة» السابق (وسط) وإلى يمينه أيمن الظواهري الزعيم الحالي للتنظيم الإرهابي ومحمد عاطف (أبو حفص) المسؤول العسكري السابق الذي قتل نهاية عام 2001، في مؤتمر صحافي عقدوه في قندهار وأعلنوا فيه الحرب على الغرب عام 1998 (غيتي)
TT

الأزمة العميقة لدى تنظيمات التطرف العنيف

أسامة ابن لادن زعيم «القاعدة» السابق (وسط) وإلى يمينه أيمن الظواهري الزعيم الحالي للتنظيم الإرهابي ومحمد عاطف (أبو حفص) المسؤول العسكري السابق الذي قتل نهاية عام 2001، في مؤتمر صحافي عقدوه في قندهار وأعلنوا فيه الحرب على الغرب عام 1998 (غيتي)
أسامة ابن لادن زعيم «القاعدة» السابق (وسط) وإلى يمينه أيمن الظواهري الزعيم الحالي للتنظيم الإرهابي ومحمد عاطف (أبو حفص) المسؤول العسكري السابق الذي قتل نهاية عام 2001، في مؤتمر صحافي عقدوه في قندهار وأعلنوا فيه الحرب على الغرب عام 1998 (غيتي)

في تقرير حديث لمركز مكافحة الإرهاب الأميركي، صدر في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، نجد أن المرتبطين بالعلم الشرعي في صفوف مقاتلي تنظيم داعش - حسب عينة بلغت أكثر من 4 آلاف مقاتل - كانت أقل من 17.6 في المائة فقط، وهو ما يؤكد هشاشة هذه العلاقة بين تنظيمات التطرف ومسألة العلم الشرعي، والتمكن فيه. كذلك أثبتت تقارير أخرى، نشرت خلال الشهور الماضية، أن ما يقرب من 25 في المائة من المقاتلين الأجانب في «داعش» هم من المتحوّلين الجدد للإسلام الذين لم يتعرفوا على تراثات العلم الشرعي بشكل دقيق وعميق وتراكمي. ومن ثم، فإن حركات التطرّف العنيف ليست بحاجة إلى العلم الشرعي، بل كل ما تحتاجه حداثة الالتزام وجهالات العاطفة واللاتاريخية، وغياب الرسوخ في الفقه وأصوله والتاريخ وتحولاته. لكن رغم ذلك، تحاول حركات التطرّف دائمًا صناعة رموز لها، ووصف أمرائها وقادتها بـ«العلم» و«المشيخة» والمعرفة بالتراث، وهو ما تحتاجه فعليًا، كون التطرّف صراعًا في فضاء وحضور العلم الديني، وحفاظًا على عصب الولاء للتنظيم وأميره، مع أسئلة الأتباع دائمًا الذين يهجرونه إن لم يجدوا الإجابات.
يوظف التطرّف - المصروع بالواقع وأهدافه اللاتاريخية - العلم والتراث الشرعي، ولا ينطلق منهما، فالأول حالة غضب مستمر تبحث عن تبرير يناسبها، بينما العلم الشرعي حالة فهم وفق قواعد منضبطة. ولقد نشأت مختلف حركات التطرّف كخطابات أزمة، منفعلة ومتفاعلة دينيًا مع أزمات ليس غير، كما نوضح في المحطات الخمس التالية، مثالاً لا حصرًا:
1 - بعد سقوط الخلافة العثمانية، نشأت حركات الإسلام السياسي، مثل حركة الإخوان المسلمين عام 1928 على يد حسن البنا (توفي عام 1949).
2 - نشأت التنظيمات الراديكالية في مصر وبعض بلدان المنطقة تأثرًا بثورة إيران الخمينية عام 1979، وانفعالاً غاضبًا بتوقيع معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل عام 1978.
3 - ظهرت «القاعدة» بعد احتلال العراق للكويت عام 1990، بعدما وجدت زخمها ورافدها الأول من تجربة «الجهاد» الأفغاني، ومواجهة شيوعية الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي.
4 - ظهرت فروع «القاعدة» بقوة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وكذلك بعد حرب العراق عام 2003، وسقوط نظام صدام حسين، والاحتلال الأميركي للعراق.
5 - صعدت حركات التطرف العنيف وصولاً إلى «الحالة الداعشية» الراهنة بعد الانتفاضات العربية عام 2011، واتخذت زخمها خاصة من الأزمة والثورة السورية المستمرة.
* انتقاء للتراث يفتقد الضبط المنهجي
بعيدا عن آليات الانتقاء والاقتطاع - وأحيانًا التدليس - في اقتباس النصوص تنزيلاً على الأحكام، وقصدية وغائية النقل عند الإسلامويين المتطرفين، ليخدم منظومتهم الفكرية في صلابتها وصراعها مع خصومها، نظن أن الأزمة أعمق من هذه الآليات الوظيفية. إنها أزمة نشأة ومرجعية، فهي جماعات مأزومة نشأت من مخاضات الواقع وأزماته أولاً، ورد فعل عليه التقط إجابة شاردة هنا أو هناك، أكثر منها حركة علمية أو تعليمية أو توعوية يبدو العلم وخدمته أو تدوينه غايتها، كما كان شأن بعض مدارس التراث.
من هنا، يبدو التراث مباحًا عندهم للالتقاط والانتقاء بلا ضبط منهجي، وليس عجيبًا أن يكون استلهام كثير من هؤلاء لتصوراتهم حول «الخلافة» من عهد الملك الفارسي أردشير، ومقولته الأشهر «الدين أس الملك»، أو من مقولات المتكلمين عن الخلافة والإمامة. ولا يحرجهم التقاؤهم مع ما سبق أن طرحه بعض الغلاة من الخوارج في تكفير المخالف والمعين، أو قتال الطائفة الممتنعة، رغم أن أحدهم يحسم مثلاً بأن محمد الفاتح ليس القائد المقصود بفتح القسطنطينية، لا لشيء غير لأنه أشعري وحنفي ليس على مذهبهم، لكن يستلهمه آخر حين يريد تنشيط الذاكرة. وليس غريبًا أن يكون الكاتب اليساري المعروف الدكتور رفعت السعيد مصدرًا رئيسًا عند أيمن الظواهري في كتابه «الحصاد المر» الذي في طبعته الأخيرة، بغية التقارب والاحتواء بعد وصولها للسلطة، وتعاطفًا معها بعد سقوطها.
* هالة الرمز الشرعي وغيابه عند «داعش»
أقر تنظيم «القاعدة في العراق» عام 2010، في وثيقة حملت عنوان «الاستراتيجية الثانية لاستعادة دولة العراق الإسلامية»، ما كان واضحًا في كتاب «التبرئة» لأيمن الظواهري، زعيم «القاعدة». ووردت أسماء كثيرة... من الباكستاني نظام الدين شامري حتى الشيخ أحمد محمد شاكر، رغم أن ما استلهمه منه مخصوص بحرب الإنجليز في القناة حينها، وصولاً لأمثال أبي عبيدة وأبي منذر الشنقيطي وعبد الآخر حماد وغيرهم من كتاب الراديكاليين. وانتقد الظواهري شخصيًا في أمور كثيرة وصلت لحد التزوير والتزييف لكتابه «الجامع» عام 1993.
على النسق نفسه (صناعة الرمز وهالته)، حاول منظرو «داعش» تسويق «أبو بكر البغدادي»، عامي 2014 و2015، على أنه عالم وفقيه، ويحمل درجة العالمية أو الدكتوراه في الفقه، رغم أنه حصل عليها في مجال آخر غير الفقه واستنباط الأحكام. ذلك أنه حسب بيانات الجامعة المستنصرية في العراق، حصل «أبو بكر البغدادي» (اسمه الحقيقي إبراهيم عواد البدري السامرائي) على درجة الدكتوراه عن أطروحة بعنوان «اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة الشاطبية بتصنيف الشيخ العالم العلامة أبي عبد الله جمال الدين» من كلية اللغة العربية بالجامعة المستنصرية في العراق عام 2007. وكان قد تخرج في جامعة صدام للعلوم الإسلامية عام 1999، لكن أكبر شرعيي «داعش» السابق تركي البنعلي - الذي أقصي في يونيو (حزيران) الماضي - في ترجمته لخليفته أراد أن يجعل دكتوراه البغدادي في الفقه حتى يروّج لنا جواز الفتيا والحكم له، وليست في العلوم القرآنية، وهو صاحب أول كتاب في الدعوة لبيعته، وهي رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» التي صدرت قبل إعلان الخلافة نفسها في 29 يونيو 2014.
ولقد كرّر البنعلي مثل هذا التهويل والتدليس في ترجمة الدواعش للراحل «أبو محمد العدناني»، المقتول في أغسطس (آب) 2016، حين وصفه بالعلم الشرعي والفقه والموسوعية، وأنه درس حتى على «أبو بكر البغدادي» نفسه! لكن دون علامة واحدة تبعث لك من كلامهم يقينًا يفسد الثابت من أن الرجل لم يتلق أي تعليم شرعي أو غير شرعي في مكان، حيث لم يكمل تعليمه ابتداء.
* خطباء لا يتحملون العلماء
ضجت هذه الجماعات دائمًا بعلماء ومفكرين انضموا لها في البداية، ثم غادروها بلا رجعة أو بنقد ظاهر أو مبطن، كون التنظيم لا يعادي التجديد والتفكير العلمي والتأصيل الشرعي فحسب، ولكنه يقوم بالأساس على مبدأ «السمع والطاعة»، والاعتقاد في «كاريزمية» الأمير والإمام المرشد للجماعة والمجتمع. ويتحد الكل في واحد والكثرة في الفرد استبدادًا لا صوت يعلو فيه على صوت الصراع والهدف.
ونذكر في سياق جماعة الإخوان من هؤلاء المنشقين المبكرين الشيخ الراحل المعروف طنطاوي جوهري والشيخ البهي الخولي ومحمد الغزالي والسيد سابق والباقوري وعبد الحليم أبو شقة وغيرهم. كما نذكر في سياقات جماعات ما يسمى بـ«الجهاد القطري والمعولم» الاسم الأكبر بينها، عبد القادر بن عبد العزيز، الذي انتهى به الحال للعزلة والنقد لها والاعتراض على أمرائها صمتًا وكمدًا، وهو أول من وضع أدبيات لتنظيمات التطرف العنيف القطري والمعولم، وآخر من وضع مؤلفات ذات اعتبار وجهد يمكن رصده في هذا الاتجاه.
وإن نُسب آخرون، شأن الشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن، للعلم والأزهر، فإنه اشتهر خطيبًا، وكانت كتيباته خطبًا كتلك التي كانت تفرغ من شرائط الكاسيت وخطب الجمعة لعدد من الخطباء المشهورين، بما فيها شهادته المشهورة في مقتل الرئيس السادات التي عرفت بـ«كلمة حق». وقبلها كانت رسالة «الفريضة الغائبة» للمهندس عبد السلام فرج الذي كانت هامشًا شارحًا مغلوطًا لنص مصحف وفتوى مقتبسة خطأ لفتوى التتار المعروفة لابن تيمية، ليس غير.
وفي سبيل تجاوز أزمة غياب الرمز المنتمي، وسلب شرعية الآخر غير المنتمي، توظف حركات وجماعات التطرف آليتين رئيستين:
الأولى، حصر مريديها في شيوخها: من نماذج هذه الدعوة للحصر كان كتاب الظواهري «الحصاد المر للإخوان المسلمين»، في طبعته الأولى. وكذلك كتاب «التبرئة» الذي كان أكثر وضوحًا وحسمًا في حصر مرجعيات «الجهاد» في شيوخه الموجودين بميدانه والمنتمين لتنظيماته، دون البعيدين عنه من أصحاب المراجعات أو غير أصحاب المراجعات في السجون أو غيرها، حصرًا للرفد الفكري والمعنوي فيه وفيمن يتبعه فقط. واتساقًا مع هذه الدعوة للحصر والتشويه للآخرين، كتاب المدعو الراحل «أبو بكر ناجي» بعنوان «الخونة»... وهو نفسه صاحب كتاب «إدارة التوحش» الذي يصف كل مخالفيه من الإسلاميين ومن غير التنظيمات بالخيانة، والذي يقول في مقدمته مبررًا مدخل الخيانة والتخوين الذي استخدمه «الخيانة ظاهرة كونية موجودة في كل التجمعات البشرية، حتى الفئة المؤمنة المجاهدة على مر العصور وُجِدَ بها دائمًا فريقٌ من الخونة يضمحل أثرهم كلما كانت هذه الفئة على بينةٍ من أمرها، متيقظة متوكلة على ربها، آخذة بالأسباب المشروعة لمواجهة هؤلاء الخونة، فهم من أقدار ولوازم الطريق إلى الله». ثم يضيف عن الخيانة داخل هذه الجماعات «إن مواجهة المجموعات الصغيرة وأفراد الخونة داخل الفئة المجاهدة بما يناسب الوضع والحال، فيجب كذلك مواجهة التجمعات الكبيرة داخل إطار الأمة، فإن خطرها لا يقل عن خطر الأفراد داخل الفئة المؤمنة، لا سيما إذا كانت تجمعات الخونة محسوبةً هذه المرة على رافدٍ نظيفِ الفكرِ في الأمة، وهو: الرافد السني، بل الحركة الإسلامية داخل الجانب السني من الأمة، فالخطر هنا متضاعف». هكذا، كانت الخيانة عنوان كل من يختلف مع صاحب «إدارة التوحش».
الثانية، تخوين وترهيب المختلفين معها: أما الآلية الثانية، فهي نزع الشرعية وتشويه العلماء المخالفين، وباستثناء الراحل حمود العقلاء الشعيبي الذي أيد تفجيرات «الحادي عشر من سبتمبر» في أميركا، لم يثن زعيم «القاعدة» ومؤسسها الراحل أسامة بن لادن على أي من علماء السعودية المعاصرين له.
ولقد وقفت «القاعدة» وحركات التطرف العنيف عشرات الكتب على نقد خصومها من العلماء الكبار والمفكرين المعترضين على نهجها، إذ كتب «أبو محمد المقدسي» في عقد التسعينات من القرن الماضي رسالة انتقد فيها مرجعيات دينية معروفة، ووصف «أبو قتادة الفلسطيني» أمثال الشيخ الألباني بـ«مرجئة العصر» في رسالة له تحمل هذا العنوان، وغير هذا كثير من السباب والشتائم التي نزلت بشيوخ «القاعدة» من «أبنائهم» في «داعش» فيما بعد، إذ وصفوهم بـ«أبناء إيران»، ورموهم بـ«الردة» والكذب، وغيرها من أوصاف سبق أن وصفوا بها المؤسسات الدينية ورجالات العلم الشرعي في السابق... استخفافًا واستهزاءً.
إنها آيديولوجيا زائفة شأن كل آيديولوجيا في كل علم تصنع وعيًا زائفًا به لكنها ليست هو، وإن التمست لغته وقاموسه أحيانًا.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.