تراجع آمال الأمازيغ والطوارق والتبو في دولة ما بعد القذافي

شاركت القبائل الليبية غير العربية في انتفاضة 2011 لكنها انسحبت من المسرح السياسي لأسباب مختلفة

متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
TT

تراجع آمال الأمازيغ والطوارق والتبو في دولة ما بعد القذافي

متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد

رفرفَ علمُ الأمازيغ الليبيين، بألوانِه الأربعة، فوق مبانٍ على شاطئ طرابلس، لأول مرة.
امتلأت قيادات سياسية ليبية، ذات أصول غير عربية، بآمال عريضة، وهي تبحث عن مكان لها في نظام الدولة الوليد، بعد عقود من المعاناة مع نظام معمر القذافي. ورغم مضي قرابة السنة على حكم رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، فإن الأقليات الليبية تتعرض اليوم لإحباط آخر. ويقول قادة من الأمازيغ لـ«الشرق الأوسط» إنهم قاطعوا كل الهياكل التشريعية، البرلمان، والهيئة التي تقوم بإعداد الدستور، ما يعني أنهم لا وجود لهم فعليا في دولة ما بعد القذافي.
وأدت استقالة نائب السراج، موسى الكوني، القيادي في قبيلة الطوارق، قبل أسبوعين، إلى عودة قضية الأقليات على مسرح الجدل السياسي؛ فقد شاركت القبائل الليبية غير العربية في الانتفاضة التي أطاحت بحكم القذافي في 2011، لكن الحُلم ببناء دولة تعترف بـ«المكونات الثقافية» للأمازيغ والطوارق والتبو، تراجع مرتين إلى حد كبير؛ المرة الأولى حين دخلت البلاد في فوضى بداية من عام 2012، والمرة الثانية، تجري وقائعها في هذه الأيام؛ حيث يعاني مجلس السراج الرئاسي من عراقيل جمَّة.
يقول القيادي في قبيلة التبو، عيسى عبد المجيد، النائب السابق لرئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، إن «البعض (في ليبيا) يُصرُّ على تهميشنا... التبو شاركوا في الثورة، واليوم يشاركون في الحرب على الإرهاب، ولهم حقوق».
ولا يقتصر صراع الأقليات في ليبيا على داخل البلاد فقط، لكنه يمتد إلى خارجها أيضا في بعض الأحيان؛ مثلا، هناك موقف من الجامعة العربية نفسها. وينظر عبد المجيد، مثل فتحي بن خليفة، الرئيس السابق للكونغرس الأمازيغي، بعين الريبة، إلى قول أحد مسؤولي الجامعة إن ليبيا لا يوجد فيها أقليات، كما زاد الطين بِلّة قيام سياسي ليبي كبير، من قبيلة عربية، بعقد لقاء مع قبائل ليبية في القاهرة قبل أيام، لم يكن التبو من بينهم.
بيد أنَّ إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة الوطنية في البرلمان الليبي، يقلل، في رَده على أسئلة «الشرق الأوسط»، من الزخم المطروح حول القضية، ويشير إلى أن القبائل غير العربية «لا تشكل في مجموعها إقليما بكامله في ليبيا».
وفي حين ينظر البعض بتشكك للممارسات السياسية للأغلبية الليبية ذات الأصول العربية، تبدو مسارات الخلاف موجودة أيضا بين الأمازيغ والطوارق والتبو، أنفسهم، ما يلقي بمزيد من الظلال على خفايا صراع الأقليات في هذا البلد النفطي، شاسع المساحة وقليل السكان. ويقدر عدد الأمازيغ بنحو 165 ألف نسمة، وتقول تقديرات أخرى إن نسبتهم تبلغ نحو عشرة في المائة من بين ستة ملايين ليبي.
ويتركز وجود معظم الأمازيغ في مدن الجبل غرب طرابلس، وغالبية الطوارق في جنوب غربي البلاد، بينما ينتشر التبو بين الجنوب والشرق والشمال، ويبالغُ كلُّ طرفٍ في عدد أبناء قبيلته كعادة معظم القبائل الليبية الأخرى. وتقع معارك طاحنة بين الطوارق والتبو كل حين وآخر، وبخاصة في البلدات الجنوبية التي تعد تخومها معبرًا للمهرِّبين والمهاجرين غير الشرعيين، إضافة إلى نشاط الجماعات المسلحة العابرة للحدود من دول الجوار. ويتهمُ عربٌ من سكان طرابلس أجنحة أمازيغية بزحف شبه «ممنهج» تجاه العاصمة.
ومِن بين المظاهر التي لفتت الأنظار قيام قيادي سياسي أمازيغي في طرابلس بجلب عناصر أمازيغية مسلحة للعاصمة من مسقط رأسه في بلدة زُوَّارة، وحين سُئِل عن ذلك من جانب أمراء ميليشيات منافسة، قال إنها ليست ذات طابع عرقي، ولكنها لحماية عائلته في المدينة التي تعاني من الفوضى، زاعمًا تلقيه تهديدات من موالين للمجلس الرئاسي. ويوجد في معظم مدن الأمازيغ ميليشيات أيضا تُعرف باسم «سرايا الثوار» مثل غالبية المدن الليبية الأخرى.
وفيما بعد عثرت السلطات على منشورات مطبوعة في مطبعة أمازيغية تسمى «زهر الزيتون»، كانت تُوزَّع في ضواحي «غوط الشعال» و«قرقارش» بالعاصمة تحت عنوان «صرخة ليبية»، وتدعو إلى «النضال من أجل استرداد وإقرار الحق الأمازيغي»، لكن في إطار «الدولة الليبية»، قائلة في صوت وُصِف بالمعتدل إن «أمازيغ ليبيا، ليبيون، وبوصلتهم يجب أن تكون ليبية، وضِمن الهوية الليبية وفي حدود الوطن ومع إخوتهم وشركائهم في الوطن».
وفي هذه الأثناء كان الكوني، بصفته نائبا للسراج في المجلس الرئاسي، يعاني من ضغوط من قبيلته، الطوارق، وتحديدا من مدن غدامس، وسبها، وأوباري، من أجل الإسراع في تقديم الخدمات والأمن للمناطق التي تعاني من تهميش الدولة لها منذ سنين طويلة. كان الكوني من رجال نظام القذافي، وأصبح من رجال السراج، لكن الأمور أخذت تنفلت أكثر من أي وقت مضى، والفقر والاقتتال القبلي يعصف بالمناطق الجنوبية، دون وجود سُلطة مركزية قوية.
يقول الدكتور سعد سلامة، الأستاذ في جامعة الزيتونة في ترهونة، ورئيس مركز دراسات الجنوب الليبي للبحوث والتنمية، لـ«الشرق الأوسط»: «بشكل عام لا يفضِّل الليبيون، من غير العرب، لقب «(أقليات)». وفي 2011 أُطلق عليهم اسم «المكونات الثقافية»، ويضيف أنه لا توجد أي إحصاءات مبنيّة على أُسس عرقية في ليبيا، وأن لدى هذه «المكونات الثقافية»، في الوقت الحالي، تيارا سياسيا معتدلا، وتيارا شبه متطرف في مطالبه، وتيارا عروبيا، لكن يغلب على من يقود هذه «المكونات الثقافية» أصحاب المطالب الحادة. و«حاليا توجد مشكلات حتى في داخل هذا المكونات نفسها».
عقب سقوط نظام القذافي، حاول مئات النشطاء الأمازيغ والطوارق والتبو، المشاركة في بناء دولة تأخذ في الاعتبار حقوق الأقليات. ورفرف علم الأمازيغ إلى جوار علم الدولة الجديد، في العاصمة، أثناء احتفالات النصر مع نهاية 2011، وشغل الكوني، في تلك السنة، عضوية المجلس الانتقالي الذي تولى زمام الانتفاضة على القذافي. كما عاد عبد المجيد، الذي كان يتزعم «حركة تحرير التبو»، المعارضة، لبدء عهد مختلف. وتولى الأمازيغي نوري أبو سهمين، رئاسة المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق)، لكن طموحات كثير من القيادات السياسية غير العربية، تعثرت بحلول عام 2014؛ بسبب اندلاع الحروب بين ميليشيات متناحرة، جهوية ومذهبية، وبخاصة في مدن، طرابلس وبنغازي وسبها.
ويقول مصدرٌ قريبٌ من المجلس الرئاسي، إن الحوار الذي رعته الأمم المتحدة بين أطراف ليبية في بلدة الصخيرات المغربية، ونتجَ عنه «المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني»، تعاملَ معه كثيرٌ من قيادات قبائل غير عربية، باعتباره بارقة أمل لطرح حقوق الأقليات على الطاولة، ومنها الاعتراف، في دستور البلاد، بالعلم الأمازيغي وباللغة الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.
ويضيف المصدر: «في مطلع العام الماضي، وأثناء الإعداد في تونس لدخول مجلس السراج إلى العاصمة، قدَّم بعض كبار الساسة الأمازيغ بوادر حسن نية؛ فقد أبلغوا السراج أنَّهم لن يقفوا مع المعارضين لدخوله طرابلس، وأنه إذا لم يستطع العمل من العاصمة، فيمكن لهُ أن يباشر مهام إدارة الدولة، مؤقتا، من مدن ذات أغلبية أمازيغية، مثل غدامس أو زوَّارة».
وحين ركب السراج البحر في طريقه إلى «قاعدة بوستة» في طرابلس بنهاية مارس (آذار) الماضي، ظهر متطوعون أمازيغ قرب القاعدة، وهم يشاركون في تنظيف الشوارع وغرس الورود، لاستقبال أعضاء المجلس الرئاسي، ومن بين هؤلاء الأعضاء موسى الكوني، بينما كان العلم الأمازيغي يرفرف مع العلم الليبي أيضا أعلى الأسوار.
وبمرور الوقت بدأت شكوك قادة من الأمازيغ والطوارق والتبو تتزايد بشأن قدرة السراج على الإمساك بزمامِ الأمور. وأخذتْ الأوضاع تتجه إلى الانفلات، وأدَّى الاحتراب بين الميليشيات، التي يتكون معظمها من مقاتلين عرب، إلى تبدد طموحات «المكونات الثقافية»، مرة أخرى، وأمام هذا الانسداد تفجرت حروب صغيرة بين الطوارق والتبو في الجنوب، ومناوشات بين أمازيغ وعرب حول طرابلس شمالا، ودخلت أطراف إقليمية ودولية على الخط لاستغلال الوضع، وتحقيق مكاسب خاصة في المنطقتين الغربية والجنوبية، وهي غنية بالنفط والغاز والذهب واليورانيوم. كما ازدادت الأوضاع تعقيدا في مدنٍ مطلة على البحر، مع احتدام الصراع بين كتلتين كبيرتين... الأولى: القوات المدججة بالأسلحة الثقيلة في طرابلس وما حولها، حيث يغلب عليها الطابع الديني المتشدد. والثانية: «الجيش الوطني» الذي يقوده المشير خليفة حفتر في بنغازي وما حولها، وهي كتلة ذات طابع علماني، خصوصا حين أخذ كل طرف من هذين الطرفين يغري أبناء الأقليات العرقية بالانضمام له في القتال، على وعدٍ ببحث مطالبه الخاصة باللغة والعَلَم، وغيرها، مستقبلا. وأظهر غالبية التبو تمسُّكا بالعمل تحت قيادة المشير حفتر. وخاض قادة عسكريون من التبو معارك ملحمية ضد تواجد الميليشيات المتطرفة في الجنوب وفي بعض مدن الشمال، مثل بنغازي، من بينهم العميد عيسى آبه.
ولم يكن عبد المجيد راضيا عما يجري؛ من ناحية، استمر على موقفه في معارضة مجلس السراج، حيث وصفه بأنه «مجلس وُلد ميتا»، منذ البداية، ومن ناحية أخرى، استمرَّ في موقعه نائبا لرئيس البرلمان للشؤون الأفريقية، وهو يشعر بوطأة الضغوط من قبيلته التي تحارب مع حفتر دون أي ضمانات بشأن المستقبل. وكان من بين الخلافات إصرار حفتر والبرلمان، على تسمية الجيش «القوات المسلحة العربية الليبية»، وليس «القوات المسلحة الليبية».
وبشكل عام لم تظهر أي مشاركة يُعتد بها من جانب ممثلي الأقليات خلال حوار الصخيرات، بغض النظر عن اختيار الكوني نائبا للسراج، لكن مما لا شك فيه أنَّ المبعوث الأممي إلى ليبيا، مارتن كوبلر، كان حريصًا على الاستماع إلى ممثلين قبليين لهذه الأقليات، حتى لو كان ذلك قد حدث بعد توقيع الاتفاق، وهو أمرٌ قامَ به السراج أيضا مع بعض ممثلي التبو، إلا أنَّ محاولات كهذه يبدو أنها جاءت متأخرة، حيث ظهر أن هناك جِراحًا كان ينبغي مداواتها مبكرًا.
وبينما كانت الجامعة العربية تسعى للدخول لحلحلة الملف الليبي، وتعيين مبعوث خاص لهذا الغرض، هو السفير التونسي صلاح الدين الجمالي، نقلت وسائل إعلام عن السفير الجزائري الذي يشغل موقع نائب الأمين العام للجامعة، أحمد بن حلي، قوله في تصريحات صحافية إن ليبيا «لا يوجد فيها أقليات أو عرقيات». ولم يتسن التواصل مع بن حلي لتوضيح المقصود بهذه النقطة التي أدت لردود فعل غاضبة من جانب قادة من التبو والأمازيغ والطوارق. يقول عبد المجيد: «هذا موقف غريب... هذا فيه تجاهل للواقع الليبي».
ومن جانبه، هاجمَ فتحي بن خليفة، الجامعة العربية، ووصفها بأنها «منظمة إقصائية». ويضيف: «لا أعتقد أن هناك عاقلا موضوعيا يمكن له أن يتعامل مع الجامعة العربية أو يتناول معها أي أمور بشكل ديمقراطي وليبرالي حقيقي... من اسمها هي عبارة عن شيء فئوي نخبوي عرقي عربي».
وعما إذا كان الأمازيغ ما زالوا يقاطعون لجنة صياغة الدستور، أجاب قائلا: «بالطبع... نحن نقاطع كل الهياكل التشريعية... قاطعنا البرلمان ولم نترشح، ولم نخض جولة الانتخابات، ونقاطع الهيئة الدستورية من منطلق أننا نتحدث من مفهوم الدولة بمعناها الشامل بوصفها مظلة مدنية تحمي المواطنين بمساواة وبعدل... نحن لا نتكلم عن مفهوم الحكم بل عن الدولة».
وتابع موضحا: «الجميع، بمن فيهم المجتمع الدولي، يتدخل في الشأن الليبي ويخوض في الشأن الليبي من منطلق مَنْ يحكم. نحن لا نفكر بهذه الطريقة». ويقول إن الأمازيغ يراهنون على الدولة، و«الدولة قوامها الدستور، وبالتالي لا تهاون ولا استخفاف ولا تنازل في الاستحقاقات التشريعية، وعلى رأسها الاستحقاق الدستوري... هذه المعطيات وهذه الأفكار بعيدة كل البعد عن رؤى الآخرين». ولا يتفق بن خليفة مع الطرح الوارد من الشرق الليبي، لأن من يتبنونه هم - كما يقول - «بقايا الفكر القومجي»، و«الوحدة العربية».
ولا يتفق كذلك مع المشروع الذي تتبناه ميليشيات في الغرب الليبي، لأنه مشروع يتحدث عن «خلافة موهومة، وعن أمة دينية، والعودة إلى الوراء برؤية المستقبل... هذا شيء ينافي العقل والمنطق».
ويعد الأمازيغ في ليبيا «مكونًا ثقافيًا» أكثر التفافا حول هويته الخاصة، مقارنة بالطوارق والتبو، وهذا أمر كان يقلق القذافي. وينتشر الأمازيغ في عدة بلدان في شمال أفريقيا، منها الجزائر والمغرب وتشاد ومالي وبوركينا فاسو. ويتكون العلم الأمازيغي من ثلاثة ألوان أفقية؛ أزرق، وأخضر، وأصفر. ويتوسطه حرف «الزاي» باللغة الأمازيغية باللون الأحمر. وتأسس الكونغرس الأمازيغي، الذي كان يرأسه الليبي، بن خليفة، بوصفه منظمة غير حكومية، قبل نحو عشرين عاما، وترأسه، منذ عام 2015 الجزائرية كاميرا نايت سيد.
وقبل عدة أيام احتفل السكان الأمازيغ في شمال أفريقيا برأس السنة الأمازيغية 2967، بما فيها ليبيا، التي حرص فيها نشطاء أمازيغ في ملابس ملونة على التذكير بحقوقهم، ودعوة الليبيين للتصالح حفاظا على الوحدة الوطنية؛ يقرعون الطبول ويعزفون موسيقاهم الخاصة، وهذا مكسب في حد ذاته مقارنة بالماضي. فقد كان القذافي يقف ضد الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، خشية تسببها في التفريق بين الليبيين، كما لم يكن متحمسا لتسجيل الأسماء غير العربية وغير الإسلامية لمواليد الأمازيغ، في سجلات الدولة.
في الوقت الراهن عادتْ مشاعر الإحباط للأمازيغ وأقرانهم من الطوارق والتبو، لأن المطالب الكبيرة لم يتحقق منها أي شيء يذكر. لم تعد غالبية القيادات الأمازيغية تعوِّل على حكومة السراج الضعيفة، وربما كان هذا أحد أسباب «الانقلاب» على المجلس الرئاسي من جانب حكومة خليفة الغويل، المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام الذي يرأسه نوري أبو سهمين، وهو من أصول أمازيغية، وما زال أبو سهمين متمسكا بـ«المؤتمر» بوصفه جسما تشريعيا، رغم انتهاء دوره باتفاق الصخيرات، وإحلال جسم استشاري بدلا منه اسمه «المجلس الأعلى للدولة» برئاسة القيادي المصراتي، عبد الرحمن السويحلي.
كما أن استقالة الكوني - وفقا لمصدر من زعماء الطوارق - كانت لها أسباب، من بينها أنَّ الرجل لم يكن يكتفي بالتعامل في المجلس الرئاسي بصفته قائدا «قبليا طارقيا» فقط، ولكنه كان يعتبر نفسه ممثلا لجميع قبائل إقليم فزان (جنوب ليبيا) في مجلس السراج.
ويضيف المصدر أن مقترحات كثيرة تقدم بها الكوني للمجلس الرئاسي، تخص الجنوب، يبدو أنه جرى تجاهلها، ما دفعه في نهاية المطاف إلى تركِ منصبه؛ ومن بين هذه المقترحات، ضرورة تدخل المجلس بشكل جدي ومحايد لمنع تدفق السلاح لأطراف قَبَليِّة، ومنها كذلك مزاعم عن سحب أطراف في حكومة السراج لعقود شركات جنوبية ومنحها، في المقابل، لمحسوبين على رجال أعمال من المدن الليبية الشمالية.
ويشير المصدر نفسه إلى غضب الكوني أيضا من خلو قائمة تعيين سفراء ليبيين في الخارج من جميع الأسماء التي قدمها للمختصين بتسمية السفراء الجدد، وتابع قائلا إنَّ الكوني رَاهنَ، بعد كل هذه الإحباطات التي تسببت في إحراجه أمام أبناء الجنوب، على أنَّ المستقبل ليس مع المجلس الرئاسي، ولكن مع قبيلته؛ الطوارق، ومع غيرها من قبائل دعمت ترشحه لعضوية هذا المجلس، وبالتالي وجد في الاستقالة طوق نجاة من سفينة السراج.
خروج قيادات طارقية وتباوية، مثل الكوني في الغرب، وعبد المجيد في الشرق، من المشهد، إضافة لموقف القيادي الأمازيغي، أبو سهمين، يجعل المشكلة أكثر تعقيدا، وبخاصة أن الأمازيغ وبعضا من قيادات الطوارق والتبو كانوا قد قاطعوا، منذ البداية، الانتخابات البرلمانية ولجنة صياغة الدستور، احتجاجًا على تجاهل معاناتهم وعودتهم مرة أخرى إلى المربع الأول، ولم تأتِ وسائل الضغط هذه بالنتائج المرجوَّة في ظل مصاعب اقتصادية وانفلات أمني واضطراب سياسي بلا حُدود.
وعن موضوع اللغة والمطالب الخاصة بـ«المكونات الثقافية الليبية»، يقول عميش إن هذا الموضوع سوف يعتمد على ما ستطرحه الأغلبية خلال المرحلة المقبلة، مشيرا إلى أن البلاد مُنقسمة، في الوقت الراهن، بين ثلاث حكومات. ويُوضح قائلا: «بعد أن تستقر الدولة سيجري بحث حق الأمازيغ في استعمال لغتهم، وسيحصلون على حقوقهم الطبيعية العادلة».
ويضيف رئيس لجنة العدل والمصالحة الوطنية: «هم لا يشكلون في مجموعهم إقليمًا بكامله، حتى يَكُونُوا بشكل مُعيَّن، لكنهم أجزاء موزعة في عدة مدن». ويزيد عميش قائلا إن أغلب التبو والطوارق في صراعات مع بعضهما بعضا، في عدة مناطق، وفي الوقت نفسه يتعاملان مع الواقع الموجود الآن، ولا يطالبان بتضمين لغتهما الخاصة في الدستور، كما يفعل الأمازيغ. وينظر عميش إلى لهجة بعض المتشددين للقومية الأمازيغية في ليبيا، في هذا التوقيت، باعتبارها محاولة، من جانب أطراف دولية، لخلق مزيد من التعقيد في المنطقة العربية وإذكاء الصراعات فيها، قائلا إن «موضوع الأمازيغ في ليبيا لم يكن أبدا يمثل أي مشكلة».
ومن جانبه، يوضح الدكتور سلامة بشأن الكتلة العددية لـ«المكونات الثقافية الليبية» بقوله إنه لم يسبق إجراء إحصاء لهم... «لا تستطيع أن تقول كم عدد الأمازيغ، أو كم عدد التبو والطوارق... وليس لكل هؤلاء كتلة بشرية بارزة، حتى تجمعاتهم بصفتهم سكان مناطق، دائما السقف لا يتجاوز نحو 10 آلاف نسمة لكل منطقة... وفي الإجمالي لا توجد إحصاءات».
وعن الوضع الحالي في ظل تعدد الحكومات وحالة الاحتراب بين الخصوم، يقول سلامة إن «الانقسام السياسي في ليبيا أثَّرَ على التوجهات السياسية لهذه المكونات الثقافية... مثلا التبو أقرب إلى معسكر السيد حفتر، والطوارق محسوبون على فجر ليبيا في المنطقة الغربية، الأمازيع منقسمون؛ منهم من هو محسوب على فجر ليبيا وفيهم من يقف على الحياد».



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.