لنتصور أن لدينا راعيًا للغنم، يخرج صباحًا باكرًا بماشيته بحثًا عن المرعى. ويجد، بعد بحث طويل، أرضًا بها عشب أخضر كثيف. أكيد سيصرخ فرحًا وسيثيره المشهد، لأنه وجد ما سيشبع غنمه. لكن في مقابل ذلك، لنتصور المشهد نفسه، لكن الناظر للعشب الأخضر، هذه المرة، لن يكون الراعي، بل عالِم نبات. في هذه الحالة، ستنقلب الرؤية رأسًا على عقب. فما سيثير انتباه هذا العالم، ليس كون العشب صالحًا كغذاء للماشية، بل سيرى في اخضرار العشب علامة على إنتاج الطاقة. فالنبات الأخضر هو معمل «للتركيب الضوئي». والآن، لنأخذ، افتراضًا، عين الراعي ونقوم بتشريحها في المختبر، ونقارنها، بعد ذلك، بتشريح عين عالم النبات، فماذا سنجد؟ بالطبع، التكوين نفسه والبنية نفسها. إذن فالرؤية (أي الفهم والمعرفة)، لا تتحدد بالفيزيولوجيا فقط، بل هي مرتبطة بالخلفية النظرية أيضًا. فالراعي لا ولن يتمكن من رؤية التركيب الضوئي في النبات، لأنه، باختصار، لا يمتلك العدة النظرية المسعفة والمخولة لذلك، بعكس عالم النبات، الذي وجراء تكوينه الأكاديمي، تشكل في ذهنه ركامًا وطبقات معرفية سمحت له برؤية مختلفة تمامًا.
إننا لا نرى بعيوننا، بل بعقولنا، أو بتعبير أكثر دقة نقول: إن كل ملاحظة ليست بريئة أبدًا، بل هي مثقلة ومحملة بخلفية نظرية صريحة أو ضمنية، واعية أو غير واعية، هي التي تدفع نحو رؤية محددة وتطرد أخرى. أو لنقل إن قدر أي ملاحظة أن تكون انتقائية.
إن هذا المعطى أعلاه، هو ما يفسر لنا لماذا نتضارب في فهم الأشياء حد التناقض. فحين تقول لصاحبك: انظر معي إلى ما أراه! حاول أن تفهم ما اكتشفته! ويرد عليك: معذرة لا أستطيع نهائيًا أن أرى ما تبصره أنت، وأعجز عن استيعاب ما تفهمه! فيجب أن نعلم مباشرة، أن الأمر، في هذه الحالة، لم يعد مسألة نظر حسي، بل يتجاوز ذلك ليصبح نظرًا عقليًا. إننا قد نلاحظ بالعين الشيء نفسه، لكننا لا نراه بالضرورة الشيء عينه. فالأمر يتعدى العين المكونة من بؤبؤ وقرنية وشبكية وعصب بصري... إلى محتوى العقل بالأساس.
نفهم من خلال هذا التصور، الذي يرى أن الملاحظة تحتاج إلى جواز مرور نظري لكي تتم، كثيرًا من الاكتشافات المعرفية التي ظهرت في حقبة زمنية ولم تظهر في أخرى، لأنها احتاجت إلى تراكمات معرفية تؤهل إلى اكتشافها. وخير مثال على ذلك، فكرة دوران الأرض وحركية الشمس. فلماذا فلكي القرن السابع عشر، وليكن «غاليليو» نموذجًا، يرى الشمس ثابتة؟ بينما فلكي القرون الوسطى، وليكن «البتاني» مثلاً، يرى الشمس متحركة؟ على الرغم من أنهما ينظران إلى الشيء نفسه، حيث تسقط الشمس على شبكية عينهما بالشاكلة نفسها. إن المسألة ليست تحديقًا في الشيء أبدًا، بل هي نظرية بالأساس. ففلكي القرن السابع عشر، مسلح بنظرية جديدة هي مركزية الشمس الكوبيرنيكية. أما فلكي القرون الوسطى، فهو موجه بإطار نظري مختلف يقوم على مركزية الأرض الأرسطية. إذن، إذا غيرت مرجعيتك وافتراضك وأسئلتك، ستغير بالضرورة نظرتك. إنه الأمر نفسه الذي حدث مع العالم إسحاق نيوتن. فهو اكتشف الجاذبية، ليس لأنه رأى التفاحة تسقط، فهذه مجرد خرافة وتبسيط مخل لكيفية اكتشاف الحقائق وفهم الطبيعة. فالأمر أكثر تعقيدًا من ذلك. إن الناس قد رأت التفاح يسقط منذ آلاف السنين، من دون أن توحي لهم واقعة السقوط هذه بفرضية الجاذبية. فالأمر إذن ليس مرتبطًا بملاحظة خام وعفوية. بل لا بد من مرجعية وإطارات ذهنية تسمح بالرؤية المناسبة. فواقعة سقوط الأجسام في القرن السابع عشر، كانت الشغل الشاغل للعلماء. فغاليليو مثلا، تمكن من وضع قوانين سقوط الأجسام. كما أن العلماء آنذاك، اهتموا بمسألة دوران الأجسام في السماء، وما العالم كبلر إلا نموذج منهم. فأصبح بحوزة العلم قوانين متعلقة بحركة السقوط في الأرض (التفاحة مثلا)، وقوانين متعلقة بحركة الدوران في السماء (القمر مثلا). في هذه الظروف بالضبط، وبهذه الإمكانات النظرية، وبهذه الخلفية والأفق الذهني، جاء نيوتن متسائلا: لماذا تسقط التفاحة ولا يسقط القمر؟ فعبقرية نيوتن لا تكمن في كونه لا حظ التفاحة تسقط، بل في تخيله لنظرية الجاذبية، التي بواسطتها حل اللغز، مكتشفا أن السقوط دوران والدوران سقوط. فالمسألة مرتبطة فقط بتغير الكتلة والمسافة. بل إنه اعترف شخصيًا، بأن ما أقامه من منجز، كان على أكتاف هذين العملاقين، أي غاليليو وكبلر. نخلص إلى أن قصة سقوط التفاحة، قصة ساذجة وبسيطة لا تشرح حقيقة كيف تصنع المعرفة. فنيوتن لو ولد في زمن قبل القرن السابع عشر، ما كان ليقدر على تخيل فكرة الجاذبية نهائيًا، فالأمر كان يحتاج إلى نضج وإلى سياق خاص، هو سياق العلم الحديث فلكل نبأ مستقر.
* نحو فهم عالم النصوص
ما قدمناه أعلاه، هو ما تعلنه الإبستمولوجيا (علم العلم) في مجال العلوم الطبيعية. أي أن الملاحظة ليست بريئة، ودائمًا موجَّهة بإطارات نظرية تحملها الذات في جوفها. وهي الفكرة نفسها التي ستعلنها الهرمينوطيقا، أي نظرية التأويل، باعتبارها مبحثا خاصا بدراسة عمليات الفهم، أو لنقل إنها تدرس «فهم الفهم»، لكن، هذه المرة مع وجهة أخرى هي: النصوص.
فمن أهم فتوحات الهرمينوطيقا، إعلانها أنه لا فهم من دون فهم سالف، أي من دون موقف مسبق. فأنا أعرف إذا كنت مؤهلاً لذلك. وهو ما يسقطنا بالضرورة، في تعدد التأويلات، نظرا لتعدد المسبقات المنطلق منها. وهذا ما دفع نيتشه إلى القول، إنه «لا توجد حقائق بل توجد تأويلات»، كما أعلن جادامر أيضا، أنه ينبغي علينا أن ندرك أن كل فهم لا بد له من بعض «التحيز»، إذ لا قراءة مطلقة، فهي محدودة بسقف الذات وأفقها ومسبقاتها. فسعي عصر الأنوار إلى التخلص من كل التحيزات أمر صعب المنال. بل هو تحيز في حد ذاته. بعبارة أخرى نقول، إن فهم القارئ لنص معين لا يتم بطريقة آلية. فلا يكفي أن تقرأ نصًا لتقبض على معناه بتلقائية. بل نحن نقتحم النصوص بمضمراتنا وإطاراتنا الثقافية. فالذات القارئة ليست صافية كما قد يعتقد البعض. بل هي تجمع في كيانها طبقات نفسية واجتماعية وتاريخية وآفاقا نظرية وغيرها، تلقي بظلها على الفهم. فهي بمثابة الموجه في القراءة. وهو ما يجعل المعنى يكون بصيغة الجمع. ومن ثم قدرنا هو التأويل ولا شيء غير التأويل. فالاختلاف في الآفاق والأطر الذهنية، يحد من القراءة ويسيجها ويضع لها سقفًا.
سنفهم إذن، لماذا تؤكد الهرمينوطيقا على أن استعادة المعنى التاريخي الأصلي للنص، هو مثالية صعبة التحقق. إنها طمع في محال. بل هي خرافة. يقول الدكتور عادل مصطفى، في كتابه الشيق «فهم الفهم»، الصادر عن دار «رؤية»: «لا يحكم الأصل إلا يومًا واحدًا، ليخلع بعد ذلك، ويصبح سبيًا للحاكم الأبدي الفعلي... التأويل».
إن المعرفة الإنسانية ومحاولة فهمها للنصوص، القديمة بالخصوص، قدرها أن تكون ذاتية. ما يطرح إحراجا كبيرا لمسألة الموضوعية، التي تعني النزاهة والحياد القيمي، وإبعاد شوائب الذات عن الموضوع المدروس. بعبارة أخرى، فالموضوعية التي هي مطلب كل عالم، والتي هي السعي الدؤوب نحو إلغاء تأثيرات الذات، تصبح جراء التصور المذكور أعلاه، صعبة المنال. لأن المعرفة يعلق بها دائمًا ما هو ذاتي. إن القارئ له تاريخيته الخاصة، والمتمثلة في هموم عصره التي سيسقطها، لا محالة، على نص غريب عنه وينتمي إلى حقبة تاريخية أخرى، مشحونة بهموم أخرى وآفاق مختلفة، مما يضع حدًا للموضوعية، ويقحمنا في تحيز محتوم.
إن الهرمينوطيقا، تلح على أن الفهم يجري بالمواجهة بين تاريخيتين: تاريخية القارئ وتاريخية النص. وإذا اقتنعنا بذلك، فهذا يعني أن اختراق النصوص من أجل القبض على المعنى، سيكون انتقائيا بالضرورة، وليس بريئًا أبدًا، ما دام موجهًا بمرجعية وافتراض معين، وفي أحيان كثيرة بشاكلة تتجاوزنا. الأمر الذي سيفضي إلى القول، بالنسبية عوض المطلق. فما يسميه المرء حقيقة النص، هو حقيقة بحسب نظرية معينة، ستنافسها حقيقة أخرى ستنطلق من نظرية أخرى. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الأحسن الحديث عن التأويلات.
في الختام، قد يقول قائل: أليس في هذا ميوعة وإفراطًا في سيولة المعنى الذي لن يتوقف، ما سيؤدي إلى الفوضى؟ سنقول إن المشكلة ليست في تعدد المعاني التي هي قدر محتوم. بل في أيها أفضل وأيها أحسن. وهو السؤال الذي سيبقى عالقًا نطرحه كالآتي: كيف نفاضل بين النظريات الموجهة للرؤية؟ وما المعايير التي نحتاج إليها لاختيار أحسن التأويلات؟ وهذه قصة أخرى.
من فهم الطبيعة إلى فهم النصوص... نظرة حول مشكلة التحيز
كل ملاحظة قدرها أن تكون انتقائية
من فهم الطبيعة إلى فهم النصوص... نظرة حول مشكلة التحيز
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة