باومان... علم الاجتماع مسؤولية أخلاقية

من القلة الذين كتبوا بعمق واهتمام شخصي عن قضية النزوح البشري

باومان في إحدى محاضراته
باومان في إحدى محاضراته
TT

باومان... علم الاجتماع مسؤولية أخلاقية

باومان في إحدى محاضراته
باومان في إحدى محاضراته

عن 92 عامًا، غادرنا في التاسع من يناير (كانون الثاني) المفكر البولندي زيغمونت باومان، وإذا كنت ربطت الإشارة إليه بنظرية الحداثة السائلة، فما ذلك إلا لشهرة تلك النظرية التي طورها وعرفه الكثيرون بها، وإلا فهناك كثير مما يتصل بالمفكر الراحل غير نظريته الشهيرة. كما أن ربطي له بتلك النظرية يأتي من صلتي بها بوصفي أحد مترجمَي كتابه «هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي؟»، الذي نشرت ترجمته في أبوظبي بعنوان معدل هو «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة». كان مفهوم باومان للحداثة هو ما شد انتباهي منذ البدء فحرصت على التعريف به وبعمله، وأراني الآن عشية رحيله مدعوًا للتعريف به مرة أخرى، فالقليل الذي كتب عنه ومنه الكتب القليلة التي ترجمت له، والتي قد لا تزيد على 3 أو 4 كتب من نحو 50 كتابًا لا تزال بعيدة عن العربية، لا تكفي لنقل مجمل فكره إلى قراء العربية. ولست في هذا المقال أطمح إلى أكثر من لفت الانتباه لأهمية بعض أطروحاته.
يعد باومان من كبار علماء الاجتماع في القرن العشرين، فهو من أنداد هابرماس وبورديو وغيرهما، وإن لم يجر اسمه جريان اسم هذين وغيرهما على الألسن. وتتأسس أهميته فيما يبدو لي على إضافات كبرى قدمها في تحليل الأثر الذي تركته مستجدات العصر وظواهره على الحياة الاجتماعية في أوروبا بشكل خاص والعالم بشكل عام، فهو من كبار منظري العولمة ومظاهرها وآثارها، كما أنه من القلة الذين كتبوا بعمق واهتمام شخصي عن قضية النزوح البشري الذي شهده القرن العشرين، سواء تمثل بالهجرات أو اللجوء. هذا إلى جانب اشتغاله المميز على أثر التقنية وشبكات التواصل الاجتماعي على القيم وأوجه الحياة الكثيرة في المجتمعات الحديثة، سواء في الغرب أو غيره. وهو في هذا وغيره مفكر كثير الابتكار والإدهاش حين يتناول قضية من القضايا. كما أنه، وهذا لا يقل أهمية إن لم يفق غيره في ذلك، صاحب موقف تجاه القضايا التي يحللها. فليس هو بالمفكر الذي يحلل على الطريقة الأكاديمية الجامدة، وإنما هو المفكر المناضل ضد الاضطهاد والهيمنة والعنف، مثلما أنه الباحث الساعي إلى تقديم ما يقضي أو يخفف من سطحية الفهم والتناول لظواهر نعيشها في حياتنا اليومية.
ولد باومان في بولندا سنة 1925 لأبوين يهوديين، كانت يهوديتهما، شأن كثير من يهود أوروبا في القرن العشرين، يهودية اسمية لا يهودية معتقد وعبادة. وكان من الطبيعي أن يتباعد الأبوان وابنهما عن ذلك الانتماء في ظل التطورات التي اجتاحت أوروبا قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. انتمى زيغمونت للماركسية وعاش في الاتحاد السوفياتي وعمل في ظل ذلك الكيان السياسي، كما أنه حارب من أجل تحرير بولندا من الاحتلال النازي إبان الحرب الثانية. وقد أثيرت مسألة انتمائه الماركسي وصلته بالسوفيات ضمن تهم فندها في تصريحات واضحة. والأوضح هو أن باومان معني في أعماله بالقيم وما تعرضت له من هزات وإعادة تشكيل نتيجة للتطورات السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية في عالم شهد ويشهد الحروب والهيمنة الاستعمارية وتشتيت الجماعات البشرية، ثم تطورات الاقتصاد الرأسمالي وانتشار التقنية، إلى غير ذلك، مما أدى في كثير من الأحيان، وحسب عنوان أحد كتب باومان (المشتركة)، إلى «العمى الأخلاقي». يقول ليونيداس دونكسيس، الذي يدرّس العلوم السياسية في ليتوانيا والذي دخل مع باومان في حوار طويل تألف منه الكتاب، إن المفكر البولندي نظر إلى علم الاجتماع بوصفه مسؤولية أخلاقية، فهو بالنسبة إليه علم «لا يكتفي بأن يصدر أصواتًا ولكنه ينظر إلى عينيك مباشرة»، أي أنه علم منغمر في المسؤولية الأخلاقية التي يحمّلها القارئ أيضًا.
ومما لا شك فيه أنه كان لتجربة باومان، بوصفه يهوديًا شهد الهولوكوست عن قرب وشهد التطهير العرقي في بلاده نفسها، أعمق الأثر على انشغاله بالدراسات الاجتماعية وبالفلسفة، من حيث هي نتاج التأمل في الأوضاع الأخلاقية والسياسية والاقتصادية في حياة المجتمعات الأوروبية. وينسحب ذلك أيضًا على نقده لأوروبا المعاصرة، من حيث هي تثبت عجزها عن تقبل الآخر كما تمليه القيم الأخلاقية التي تعدها من موروثها، القيم التي أكدها الفيلسوف كانط قبل 200 عام وتشدق بها تنويرو فرنسا، وقبل ذلك أكدها الموروث المسيحي/ اليهودي وسلسلة طويلة من المصلحين. وليس كانط في نقده بنشاز في المشهد الفكري الغربي عمومًا، فهو ينضم إلى قائمة من المفكرين الكبار، من أمثال فوكو وإدغار موران وآلان باديو وتشومسكي ممن أدانوا الحضارة المعاصرة في صميم بنيتها. لكن ذلك النقد لم يؤد بباومان إلى اليأس أو الشجب النهائي، فكما قال في الحوار الذي أجري معه على قناة الجزيرة الإنجليزية قبل وفاته بأشهر قليلة: «أنا متشائم على المدى القصير، ولكني متفائل على المدى الطويل».
في كل الحالات سيتذكر العالم باومان من حيث هو صوت للحق، وإن كان فهمه وتقدير فكره يعتمد إلى حد كبير على استيعاب السياق الذي نما وأبدع من خلاله، وهو سياق أوروبي في المقام الأول. ذلك السياق ضروري لفهم عنايته بمتغيرات العصر على المستويات العلمية والتقنية وأثرها على الإنسان. وتأتي في طليعة تلك العناية انشغاله بما أسماه «الحداثة السائلة»، الحداثة التي حدد معالمها في كتابه «الثقافة في عالم من الحداثة السائلة» بقوله:
«أستعمل عبارة (حداثة سائلة) هنا لوصف الشكل الحالي للوضع الحديث، الذي يوصف من قبل مؤلفين آخرين بـ(ما بعد الحداثة)، و(الحداثة المتأخرة)، و(الحداثة الثانية) أو (الحداثة الافتراضية). وما يجعل الحداثة (سائلة)، ويبرر بذلك اختيار ذلك الاسم، هو ما فيها من عملية تحديث ذات دفع وتكثيف ذاتيين وما تنطوي عليه من نزوع للقسر والسيطرة تؤدي، كما يفعل السائل، إلى ألا يتمكن أي من أنماط الحياة الاجتماعية من الحفاظ على شكله لفترة طويلة».
يتكرر هذا التحديد في غير كتاب من كتب باومان، ومنه كتابه المترجم بعنوان «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة» الذي عايشته مترجمًا لعدة أشهر، فكانت تجربة مثرية وممتعة على صعوبة أسلوب باومان؛ جمله الطويلة والملتفة والأهم من ذلك الحاجة الدائمة للتفكير مجددًا فيما بدا واضحًا ومستقرًا.
على أن قارئ باومان، بقدر ما تثريه تجربة القراءة وتمتعه، سيلاحظ التكرار الكثير في كتب صارت تصدر متلاحقة في السنوات الأخيرة. الحداثة السائلة التي صارت ميسمًا على فكر باومان تتكرر في معظم الإصدارات، ولربما كان مرد ذلك إلى جدة المفهوم وصعوبة اقتلاع المفهوم البديل الذي استقر في التداول، وهو ما بعد الحداثة. ويبدو أننا أمام أنموذج كلاسيكي من نماذج صراع المصطلحات والمفاهيم، صراع عشت تجربته مع الزميل د. ميجان الرويلي في كتابنا «دليل الناقد الأدبي» حين حاولنا إحلال مصطلح «التقويض» محل «التفكيك» لترجمة «ديكونستركشن». فعلى الرغم من المحاججة التي قدمناها وانتشار الكتاب، فإن التفكيك ظل هو السائد إلى يومنا هذا.
وليس من أمل في أن ينتشر مفهوم باومان على الرغم من أنه أكثر دقة من مفهوم «ما بعد الحداثة» الذي لا يقول أكثر من أن الحداثة انتهت، ونحن في مرحلة أتت بعدها. في الحداثة السائلة تحديد أولي لطبيعة التغير الذي حدث في تلك المرحلة، تحديد أشبعه باومان تفصيلاً وتطبيقًا في كثير من الكتب والمحاضرات التي ألقاها في أماكن كثيرة، والتي لا تزال محفوظة على «يوتيوب». في كتب مختلفة يتحدث باومان عن الحب السائل والثقافة السائلة والحياة السائلة وغير ذلك. لكن قدَر المفهوم هو قدَر الأفكار والنظريات والأطروحات الفلسفية، قدر تحدده مخاضات الفكر وحظوظ الاستقبال ومتغيرات الاحتياج. المؤكد هو أن المفكر البولندي، الذي قدم كل ذلك، لن يُنسى كما تُنسى المفاهيم والمصطلحات أو يذوب في سيولة التاريخ كما تذوب الموضات والمخترعات التي وقف طويلاً أمام تأثيرها.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.