التطرّف حالة انقسام وتشظٍ هوياتي

مناقشة في دعوة «المقدسي» لتوحيد المقاتلين في سوريا

مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
TT

التطرّف حالة انقسام وتشظٍ هوياتي

مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)

تبدو الدعوة إلى «الوحدة» و«الاتحاد» دائمة وفاعلة لدى مختلف حركات التشدد الديني والآيديولوجي معا، حسب تصورات الأمة لدى كل منهما، على أساس ديني أو عنصري أو لغوي، حركات قطرية أو حركات معولمة. ولكن لم تكن تجاربها وممارساتها يومًا عامل توحد أو توحيد، بل ظلت حالة انقسام ورافد انشطار وضعف في الفضاء العام للأمة والدولة وفي فضائها الخاص بخصوص علاقتها بغيرها من الجماعات المتشددة.
إن خطابات جماعات وأحزاب التشدد الديني والآيديولوجي حركات طرح وقسمة، وليست حركات جمع وإضافة. وكثيرا ما يكون العداء والانقسام فيما بينها أكثر من عدائها للآخرين وخصوصًا المختلفين معها، وهو ما سنمثل به في حالة «الجماعات المقاتلة في سوريا» التي صعدت أخيرًا الدعوة لتوحيدها وكان آخرها ما طرحه المتشدد الأردني «أبو محمد المقدسي».
كان الانقسام واضحا في تاريخ حركات آيديولوجية يمينية يسارية وقومية بعثية، كما كان بين فرعي البعث في سوريا والعراق في ثمانينات القرن الماضي، وكما هو ماثل بين جماعات التطرف الديني العنيف في سوريا والعراق الآن. ولا يزال الانشطار والانشقاق سمة أكثر وضوحا في تاريخ وواقع الأحزاب الراديكالية واليمينية المتشددة - شرقا وغربا - منذ عهد بعيد، رغم صحوة اليمين العالمية الآن. فالأصل أن التطرف رافد تشتت، وحالة انقسام وتصفية، وليس قاموسه الانغلاقي الطردي والتمييزي، الذي يحتكر الحق والحقيقة، إلا تشظيا هوياتيا تكارهيا لا يعرف الاحتواء، بل يفجر نزعات الانفصال ودعوى الانقسام، التي يفتقد اعتدال احتوائها وفن إدارة اختلافاتها.
التشدد والنزعات الانفصالية
ووفق ما نسميه «متتابعة الغلو» يبدو التشدد والتطرف حالة انشطار بنيوي وداخلي، تتناسل منه فروع أكثر تشددا من أصله، وتنزع شرعيته صانعة شرعيتها.
هكذا خرج «داعش» من بطن «القاعدة»، وخرجت الأخيرة من مخاضات الحركات الراديكالية السابقة العهد وحقبة «المجاهدين الأفغان». وتظل الأزمات المستعصية والعالقة - كما هو في سوريا والعراق الآن - سياقا مناسبا لتوالد وإثمار الغلو والتشظي العنيف المستمر من شجرة العنف «المقدس».
تبدو المسألة أكثر وضوحا إذا ربطنا بين نزوع وصعود التطرف العنيف وجماعاته في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ووصولاً لزلزال الانتفاضات العربية عام 2011. وبين صعود النزعات الأقلوية والانفصالية لدى طوائف دينية وأقليات قومية وإثنية.
إن الاعتدال وحده هو القادر على تحقيق الوحدة، لأنه يستطيع إدارة الاختلاف واحتواءه، أما اليمينية شرقًا وغربا - فهي انعزال يناسب انغلاقها، ولا تتسع لأكثر من حضور الذات الضيق النافي للآخرين، وحال تحققه ينتج التشظيات والانشطارات في بنية الهوية الواحدة والدولة الواحدة لمزيد من الانقسام ليس غير، ويصدق عليها الأثر الإسلامي «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».
تعجب أمثال أبي الحسن الأشعري (ت 324 هجرية) وأبو الفتح الشهرستاني (ت 548 هجرية) وغيرهما من مؤرخي «مقالات الإسلاميين» أو مبحث «الملل والنحل» من تناسل الغلو وازدياد عدد الخوارج وفرقهم، حتى انقسموا فيما بينهم إلى عشرين فرقة وطائفة، يكفّر بعضها بعضًا، ورصدوا هذا التكاثر أو التشظي بلغتنا، في حالة كل فرق الغلاة من الباطنية وخروج بعضها من بعض وعلى بعض بشكل واضح ومعهود.
كذلك لم تشتهر طائفة أو فرقة أو جماعة متشدّدة بنجاح ما سعت إليه من محاولة توحيدية كبيرة. بل لم تنجح أحيانًا في توحيد ما تحت يدها من أرض، وهو ما شاهدناه في اقتتال «إمارة» طالبان مع سائر الميليشيات الأفغانية الأخرى، ونشاهده اليوم في قتال «داعش» لاحقًا سائر الجماعات الراديكالية التي تلتقي معها أحيانًا في المرجعية والأفكار والأهداف.
تاريخيا كذلك، لم تتح لأي جماعة متشددة - آيديولوجية أو دينية - لم تمكِّن لمفهوم الاختلاف وإدارته - عقلانيا أو ديمقراطيا أو إنسانيا - أن تؤسس دولة قوية ووحدوية. بل سريعا ما انهارت تجاربها الوحدوية التي أقامها اليمينيون والآيديولوجيون المتشدّدون عربيا في خمسينات القرن الماضي. إنها لم تصمد عند أول تحد ولو موج ماء، ولم يبق منهم إلا الأكثر مرونة وتدربا وتقديرا للواقع لا الانقلاب عليه، كما كانت تعابير أمثال المودودي وميشال عفلق أيضا.
من هنا، كانت غالبية تجارب المتشددين هامشا في التاريخ وهامشا في الواقع. وباستثناءات قليلة كإمارة الخوارج الأولى في الأحواز التي قضى عليها المهلب بن أبي صفرة، لم نعرف دولا كبيرة للمُغالين والمتشدّدين. ومن حضر منها استخدم أدوات مختلفة من المرونة والاحتواء وقوانين التاريخ والسياسة درعا للبقاء.
نادرا ما تحدث وحدة أو اتحاد بين تنظيمين أو مجموعتين متشددين. ولا تكون إذا حدثت إلا مؤقتة، وفي سياقات محددة ومحدودة، لتحقيق هدف ما كحالة توحيد مجموعات «الجهاد المصري» الوحيدة مع محمد عبد السلام فرج عام 1979 التي أنتجت اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، ونجاح الثورة الإيرانية التي ألهبت حماس سائر الإسلاميين. لكن سريعا ما انفك عقد وحدتهم في السجون خلافا على ولاية «الضرير والأسير» وقتال «الطائفة الممتنعة» و«العذر بالجهل» بعد راديكالية مختلفة، كانت موالية لـ«القاعدة» سابقا، بغية الحصول على الدعم أو تماسا مع الألق التي أحدثته حينها وينتهي الآن.
ومن هذه الحالات المحدودة للتوحّد ما حدث لبعض الوقت بين قادة «المجاهدين الأفغان» بعد جلاء الاتحاد السوفياتي عام 1989. لكن سريعا ما عادوا يقتتلون على غنائم السلطة والنفوذ. أو ما حاوله «أبو مصعب الزرقاوي» بعد قدومه إلى العراق عام 2004 من توحيد الجماعات الراديكالية في مجلس شوري وتنسيقي واحد فيما بينها، إلا أنها كذلك سريعا ما انقسمت وتقاتلت... وكان أول رافضي زعامة «الزرقاوي» أول من استضافه واستقبله في بيته، وعرّفه على سائر التنظيمات المتطرفة في العراق، ألا وهو قائد «جيش المجاهدين» المعروف «أبو عبد الله المنصور» الذي كان أول من أحل «الخليفة» الداعشي المزعوم دمه بعدما بدأ ينشط في سوريا، وكان من أسباب خلافه مع «أبو محمد الجولاني» فيما بعد.
وراهنًا، تشهد حركات متطرفة مثل «بوكو حرام» و«حركة شباب المجاهدين» الأفريقيتين انشقاقات وخلافات قوية على قيادتها وانقسام عناصرها بين القيادات المتنازعة. ولنناقش فيما يلي دعوة أطلقها المنظر المتشدد الأردني «أبو محمد المقدسي» لتوحيد الجماعات المقاتلة في سوريا في ظل تراجعاتها ووطأة الحرب عليها، كجزء من حالة العجز عن طرح خطاب «وحدوي»، بل واستحالته لدى أفكار الجماعات المتشددة.
يوم 29 ديسمبر (كانون الأول) الماضي نشر المنظر الأردني المتشدد «أبو محمد المقدسي» وثيقة له تدعو لاتحاد الجماعات المقاتلة في سوريا واندماجها، بعنوان «الموازنة بين الاندماج والثوابت» في ست ورقات. وحاول «المقدسي» من خلال هذه الوثيقة ملامسة هذه الدعوة، التي يتوجه إليها قبل شهور وأثارت عليه عددا من كتاب ونشطاء «القاعدة» الذين يرونه يميل للتصالح مع «داعش»، كذلك أثارت عليه الداعشيين الذين لا يصارح ولاء وبراء منهم، بعدما كان أشد انتقادًا لهم في السابق.
في هذه الوثيقة لم يسم «المقدسي» أيا من الجماعات التي يستهدفها ويدعوها للاتحاد فيما بينها، والتي ينطبق عليها ما وضعه من شروط لجوازه، وهي: التوحيد والحاكمية وألا تكون مرتبطة بأي قوى خارجية أو تؤمن بالديمقراطية - أو ما يسميه «الإردوغانية» ويعتبرها من شرك الطواغيت. كذلك لم يسم أيا من تلك التي يستثنيها دون أن يسميها، وخاصة الجماعات المقاتلة الراديكالية، التي يشمل بعضها، ولكنها الأكثر مرونة واستعدادا للتحاور والقبول بغيرها من الفصائل.
رفض «المقدسي» إطلاق القول بأن «جهاد الدفع لا شرط له» مقيدا له بالتوحيد واستهداف تحكيم الشريعة والكفر بالقوانين الوضعية، لكنه بدا مرتبكًا يفتقد الضبط حين لم يسم ولم يحدد أطرا لدعوته أو سياقا لها. داعيا لها على استحياء ربما لتخفيف حدة التوتر بين الجماعات المقاتلة في سوريا - وخصوصا الأقرب إليه... أي «جبهة النصرة» (أو جبهة فتح الشام كما تسمت فيما بعد) و«داعش».
أغلب الظن أن «المقدسي» يحاول بهذه الدعوة الخجولة استعادة مكانته الرمزية لدى الجماعات المقاتلة المتطرفة في سوريا، بعد تحولات تدريجية شهدها خطابه في السابق إزاء «داعش». إذ كان منظرو «داعش» وشرعيوه قد شنوا على «المقدسي» حملة ضروسا ونقدا حادا، وخاصة في أعقاب إعدام «داعش» الطيار الأردني «الشهيد» معاذ الكساسبة في يناير (كانون الثاني) 2015، والذي كان وسيطًا في الإفراج عنه. غير أن الدواعش خدعوه ولم يقبلوا ما طرح عليهم من حل وسط يومذاك.
لكنه، بعد فترة نجده يحاول استعادة شعبيته لديهم بتراجع عن وصفهم بـ«الخوارج» وتحاشيه تعميم اتهاماته بل وإيجاد الأعذار لهم وتقديم النصرة وإيجابها تجاه حرب التحالف الدولي عليهم. ثم الدعوة لاتحاد الجماعات المقاتلة في الساحة «جهاد دفع» ضد العدو الصائل (الخارجي الذي لا يميز) والمسكوت عنه في دعوته. كما يبدو أن رباطه بتنظيم «القاعدة» والظواهري قد تراجع قليلا فلم يعد يذكره أو يصفه كما كان يصفه، بـ«حكيم الأمة»، ولم يعد يدافع عن «القاعدة» وخطابها كما كان يفعل. وهو الموقف الذي بدا واضحا ويتميز به عن غيره حتى أقربهم إليه «أبو قتادة الفلسطيني» أو أبعدهم عنه الذي خاض ضده معركة كبيرة وهو المصري د. طارق عبد الحليم.
ويبقى، أن أهم من تحولات «المقدسي» وارتباكاته، أن وثيقته نفسها ورؤيته نفسها أظهرتا ارتباكا عميقًا. فهو من يحصر دعوته للوحدة في جماعات بعينها، ويستعين في خاتمته بنص مطول لابن تيمية (رحمه الله) من الفتاوى لا يضع فيه شرطا لـ«جهاد الدفع»، ويدعو لتجاوز الخلافات الجزئية بين المسلمين حال ألم بهم خطر. ونص ابن تيمية هنا - كما كانت سيرته - واقعي تمامًا، فهو من ناصر ووقف ودعم نظريًا جهود أمراء المماليك وسلاطينهم، وخاصة السلطان الناصر بن قلاوون، حتى من سجنه منهم، في وجه الحملات التترية والصليبية، وهذا رغم كونه حنبليا وكونهم أشعرية حنفية. وهو من دعا في عدد من مؤلفاته ورسائله للعذر بالخلاف وتجاوز الشقاق الحاد بين المسلمين، وعدم التعصب للطوائف والفرق، مثل كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم» ورسالة «رفع الملام» وفي الفتاوى ومنهاج السنة وغيرهما.
ختاما، إن توحّد المتشددين أمر بعيد المنال في أي مكان، ويظل دعوة حيية خجولة ومرتبكة، تكتفي برفع شعارات الوحدة والدعوة إليها، ولكن هو في بنيته حالة انشطار وتشظ كما هو في تجربته المزيد من الانقسام لا يمكن أن يصنع توحدًا.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.