التطرّف حالة انقسام وتشظٍ هوياتي

مناقشة في دعوة «المقدسي» لتوحيد المقاتلين في سوريا

مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
TT

التطرّف حالة انقسام وتشظٍ هوياتي

مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)

تبدو الدعوة إلى «الوحدة» و«الاتحاد» دائمة وفاعلة لدى مختلف حركات التشدد الديني والآيديولوجي معا، حسب تصورات الأمة لدى كل منهما، على أساس ديني أو عنصري أو لغوي، حركات قطرية أو حركات معولمة. ولكن لم تكن تجاربها وممارساتها يومًا عامل توحد أو توحيد، بل ظلت حالة انقسام ورافد انشطار وضعف في الفضاء العام للأمة والدولة وفي فضائها الخاص بخصوص علاقتها بغيرها من الجماعات المتشددة.
إن خطابات جماعات وأحزاب التشدد الديني والآيديولوجي حركات طرح وقسمة، وليست حركات جمع وإضافة. وكثيرا ما يكون العداء والانقسام فيما بينها أكثر من عدائها للآخرين وخصوصًا المختلفين معها، وهو ما سنمثل به في حالة «الجماعات المقاتلة في سوريا» التي صعدت أخيرًا الدعوة لتوحيدها وكان آخرها ما طرحه المتشدد الأردني «أبو محمد المقدسي».
كان الانقسام واضحا في تاريخ حركات آيديولوجية يمينية يسارية وقومية بعثية، كما كان بين فرعي البعث في سوريا والعراق في ثمانينات القرن الماضي، وكما هو ماثل بين جماعات التطرف الديني العنيف في سوريا والعراق الآن. ولا يزال الانشطار والانشقاق سمة أكثر وضوحا في تاريخ وواقع الأحزاب الراديكالية واليمينية المتشددة - شرقا وغربا - منذ عهد بعيد، رغم صحوة اليمين العالمية الآن. فالأصل أن التطرف رافد تشتت، وحالة انقسام وتصفية، وليس قاموسه الانغلاقي الطردي والتمييزي، الذي يحتكر الحق والحقيقة، إلا تشظيا هوياتيا تكارهيا لا يعرف الاحتواء، بل يفجر نزعات الانفصال ودعوى الانقسام، التي يفتقد اعتدال احتوائها وفن إدارة اختلافاتها.
التشدد والنزعات الانفصالية
ووفق ما نسميه «متتابعة الغلو» يبدو التشدد والتطرف حالة انشطار بنيوي وداخلي، تتناسل منه فروع أكثر تشددا من أصله، وتنزع شرعيته صانعة شرعيتها.
هكذا خرج «داعش» من بطن «القاعدة»، وخرجت الأخيرة من مخاضات الحركات الراديكالية السابقة العهد وحقبة «المجاهدين الأفغان». وتظل الأزمات المستعصية والعالقة - كما هو في سوريا والعراق الآن - سياقا مناسبا لتوالد وإثمار الغلو والتشظي العنيف المستمر من شجرة العنف «المقدس».
تبدو المسألة أكثر وضوحا إذا ربطنا بين نزوع وصعود التطرف العنيف وجماعاته في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ووصولاً لزلزال الانتفاضات العربية عام 2011. وبين صعود النزعات الأقلوية والانفصالية لدى طوائف دينية وأقليات قومية وإثنية.
إن الاعتدال وحده هو القادر على تحقيق الوحدة، لأنه يستطيع إدارة الاختلاف واحتواءه، أما اليمينية شرقًا وغربا - فهي انعزال يناسب انغلاقها، ولا تتسع لأكثر من حضور الذات الضيق النافي للآخرين، وحال تحققه ينتج التشظيات والانشطارات في بنية الهوية الواحدة والدولة الواحدة لمزيد من الانقسام ليس غير، ويصدق عليها الأثر الإسلامي «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».
تعجب أمثال أبي الحسن الأشعري (ت 324 هجرية) وأبو الفتح الشهرستاني (ت 548 هجرية) وغيرهما من مؤرخي «مقالات الإسلاميين» أو مبحث «الملل والنحل» من تناسل الغلو وازدياد عدد الخوارج وفرقهم، حتى انقسموا فيما بينهم إلى عشرين فرقة وطائفة، يكفّر بعضها بعضًا، ورصدوا هذا التكاثر أو التشظي بلغتنا، في حالة كل فرق الغلاة من الباطنية وخروج بعضها من بعض وعلى بعض بشكل واضح ومعهود.
كذلك لم تشتهر طائفة أو فرقة أو جماعة متشدّدة بنجاح ما سعت إليه من محاولة توحيدية كبيرة. بل لم تنجح أحيانًا في توحيد ما تحت يدها من أرض، وهو ما شاهدناه في اقتتال «إمارة» طالبان مع سائر الميليشيات الأفغانية الأخرى، ونشاهده اليوم في قتال «داعش» لاحقًا سائر الجماعات الراديكالية التي تلتقي معها أحيانًا في المرجعية والأفكار والأهداف.
تاريخيا كذلك، لم تتح لأي جماعة متشددة - آيديولوجية أو دينية - لم تمكِّن لمفهوم الاختلاف وإدارته - عقلانيا أو ديمقراطيا أو إنسانيا - أن تؤسس دولة قوية ووحدوية. بل سريعا ما انهارت تجاربها الوحدوية التي أقامها اليمينيون والآيديولوجيون المتشدّدون عربيا في خمسينات القرن الماضي. إنها لم تصمد عند أول تحد ولو موج ماء، ولم يبق منهم إلا الأكثر مرونة وتدربا وتقديرا للواقع لا الانقلاب عليه، كما كانت تعابير أمثال المودودي وميشال عفلق أيضا.
من هنا، كانت غالبية تجارب المتشددين هامشا في التاريخ وهامشا في الواقع. وباستثناءات قليلة كإمارة الخوارج الأولى في الأحواز التي قضى عليها المهلب بن أبي صفرة، لم نعرف دولا كبيرة للمُغالين والمتشدّدين. ومن حضر منها استخدم أدوات مختلفة من المرونة والاحتواء وقوانين التاريخ والسياسة درعا للبقاء.
نادرا ما تحدث وحدة أو اتحاد بين تنظيمين أو مجموعتين متشددين. ولا تكون إذا حدثت إلا مؤقتة، وفي سياقات محددة ومحدودة، لتحقيق هدف ما كحالة توحيد مجموعات «الجهاد المصري» الوحيدة مع محمد عبد السلام فرج عام 1979 التي أنتجت اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، ونجاح الثورة الإيرانية التي ألهبت حماس سائر الإسلاميين. لكن سريعا ما انفك عقد وحدتهم في السجون خلافا على ولاية «الضرير والأسير» وقتال «الطائفة الممتنعة» و«العذر بالجهل» بعد راديكالية مختلفة، كانت موالية لـ«القاعدة» سابقا، بغية الحصول على الدعم أو تماسا مع الألق التي أحدثته حينها وينتهي الآن.
ومن هذه الحالات المحدودة للتوحّد ما حدث لبعض الوقت بين قادة «المجاهدين الأفغان» بعد جلاء الاتحاد السوفياتي عام 1989. لكن سريعا ما عادوا يقتتلون على غنائم السلطة والنفوذ. أو ما حاوله «أبو مصعب الزرقاوي» بعد قدومه إلى العراق عام 2004 من توحيد الجماعات الراديكالية في مجلس شوري وتنسيقي واحد فيما بينها، إلا أنها كذلك سريعا ما انقسمت وتقاتلت... وكان أول رافضي زعامة «الزرقاوي» أول من استضافه واستقبله في بيته، وعرّفه على سائر التنظيمات المتطرفة في العراق، ألا وهو قائد «جيش المجاهدين» المعروف «أبو عبد الله المنصور» الذي كان أول من أحل «الخليفة» الداعشي المزعوم دمه بعدما بدأ ينشط في سوريا، وكان من أسباب خلافه مع «أبو محمد الجولاني» فيما بعد.
وراهنًا، تشهد حركات متطرفة مثل «بوكو حرام» و«حركة شباب المجاهدين» الأفريقيتين انشقاقات وخلافات قوية على قيادتها وانقسام عناصرها بين القيادات المتنازعة. ولنناقش فيما يلي دعوة أطلقها المنظر المتشدد الأردني «أبو محمد المقدسي» لتوحيد الجماعات المقاتلة في سوريا في ظل تراجعاتها ووطأة الحرب عليها، كجزء من حالة العجز عن طرح خطاب «وحدوي»، بل واستحالته لدى أفكار الجماعات المتشددة.
يوم 29 ديسمبر (كانون الأول) الماضي نشر المنظر الأردني المتشدد «أبو محمد المقدسي» وثيقة له تدعو لاتحاد الجماعات المقاتلة في سوريا واندماجها، بعنوان «الموازنة بين الاندماج والثوابت» في ست ورقات. وحاول «المقدسي» من خلال هذه الوثيقة ملامسة هذه الدعوة، التي يتوجه إليها قبل شهور وأثارت عليه عددا من كتاب ونشطاء «القاعدة» الذين يرونه يميل للتصالح مع «داعش»، كذلك أثارت عليه الداعشيين الذين لا يصارح ولاء وبراء منهم، بعدما كان أشد انتقادًا لهم في السابق.
في هذه الوثيقة لم يسم «المقدسي» أيا من الجماعات التي يستهدفها ويدعوها للاتحاد فيما بينها، والتي ينطبق عليها ما وضعه من شروط لجوازه، وهي: التوحيد والحاكمية وألا تكون مرتبطة بأي قوى خارجية أو تؤمن بالديمقراطية - أو ما يسميه «الإردوغانية» ويعتبرها من شرك الطواغيت. كذلك لم يسم أيا من تلك التي يستثنيها دون أن يسميها، وخاصة الجماعات المقاتلة الراديكالية، التي يشمل بعضها، ولكنها الأكثر مرونة واستعدادا للتحاور والقبول بغيرها من الفصائل.
رفض «المقدسي» إطلاق القول بأن «جهاد الدفع لا شرط له» مقيدا له بالتوحيد واستهداف تحكيم الشريعة والكفر بالقوانين الوضعية، لكنه بدا مرتبكًا يفتقد الضبط حين لم يسم ولم يحدد أطرا لدعوته أو سياقا لها. داعيا لها على استحياء ربما لتخفيف حدة التوتر بين الجماعات المقاتلة في سوريا - وخصوصا الأقرب إليه... أي «جبهة النصرة» (أو جبهة فتح الشام كما تسمت فيما بعد) و«داعش».
أغلب الظن أن «المقدسي» يحاول بهذه الدعوة الخجولة استعادة مكانته الرمزية لدى الجماعات المقاتلة المتطرفة في سوريا، بعد تحولات تدريجية شهدها خطابه في السابق إزاء «داعش». إذ كان منظرو «داعش» وشرعيوه قد شنوا على «المقدسي» حملة ضروسا ونقدا حادا، وخاصة في أعقاب إعدام «داعش» الطيار الأردني «الشهيد» معاذ الكساسبة في يناير (كانون الثاني) 2015، والذي كان وسيطًا في الإفراج عنه. غير أن الدواعش خدعوه ولم يقبلوا ما طرح عليهم من حل وسط يومذاك.
لكنه، بعد فترة نجده يحاول استعادة شعبيته لديهم بتراجع عن وصفهم بـ«الخوارج» وتحاشيه تعميم اتهاماته بل وإيجاد الأعذار لهم وتقديم النصرة وإيجابها تجاه حرب التحالف الدولي عليهم. ثم الدعوة لاتحاد الجماعات المقاتلة في الساحة «جهاد دفع» ضد العدو الصائل (الخارجي الذي لا يميز) والمسكوت عنه في دعوته. كما يبدو أن رباطه بتنظيم «القاعدة» والظواهري قد تراجع قليلا فلم يعد يذكره أو يصفه كما كان يصفه، بـ«حكيم الأمة»، ولم يعد يدافع عن «القاعدة» وخطابها كما كان يفعل. وهو الموقف الذي بدا واضحا ويتميز به عن غيره حتى أقربهم إليه «أبو قتادة الفلسطيني» أو أبعدهم عنه الذي خاض ضده معركة كبيرة وهو المصري د. طارق عبد الحليم.
ويبقى، أن أهم من تحولات «المقدسي» وارتباكاته، أن وثيقته نفسها ورؤيته نفسها أظهرتا ارتباكا عميقًا. فهو من يحصر دعوته للوحدة في جماعات بعينها، ويستعين في خاتمته بنص مطول لابن تيمية (رحمه الله) من الفتاوى لا يضع فيه شرطا لـ«جهاد الدفع»، ويدعو لتجاوز الخلافات الجزئية بين المسلمين حال ألم بهم خطر. ونص ابن تيمية هنا - كما كانت سيرته - واقعي تمامًا، فهو من ناصر ووقف ودعم نظريًا جهود أمراء المماليك وسلاطينهم، وخاصة السلطان الناصر بن قلاوون، حتى من سجنه منهم، في وجه الحملات التترية والصليبية، وهذا رغم كونه حنبليا وكونهم أشعرية حنفية. وهو من دعا في عدد من مؤلفاته ورسائله للعذر بالخلاف وتجاوز الشقاق الحاد بين المسلمين، وعدم التعصب للطوائف والفرق، مثل كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم» ورسالة «رفع الملام» وفي الفتاوى ومنهاج السنة وغيرهما.
ختاما، إن توحّد المتشددين أمر بعيد المنال في أي مكان، ويظل دعوة حيية خجولة ومرتبكة، تكتفي برفع شعارات الوحدة والدعوة إليها، ولكن هو في بنيته حالة انشطار وتشظ كما هو في تجربته المزيد من الانقسام لا يمكن أن يصنع توحدًا.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».