قلم صاحبة أكبر خبطة صحافية في القرن العشرين يؤرخ الشرق الأوسط

في عدد الـ30 من أغسطس (آب) في عام 2009، كرست صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية عددها لإعادة إحياء الذكرى السبعين للحرب العالمية الثانية. وتفاخرت المطبوعة العريقة آنذاك بأشهر صحافييها، كلير هولينغوورث صاحبة أكبر سبق صحافي في القرن الماضي، التي كشف انطلاق الحرب عام 1939.
سافرت هولنغوورث (26 عاما) آنذاك وحدها إلى الحدود الألمانية وشاهدت القافلة الأولى من الدبابات الألمانية وهي تتحرك لغزو بولندا.
وبعد ذلك بثلاثة أيام كانت أول من كتب عن بدء القتال. وقالت هولنغوورث للـ«تلغراف» آنذاك: «كشفت هذه القصة عندما كنت صغيرة جدًا جدًا. ذهبت إلى هناك لرعاية اللاجئين والعميان ومن يعانون الصمم وضعف القدرات الذهنية. ولكن أثناء وجودي هناك فجأة باتت الحرب واقعًا».
كلير التي رسخت في ذاكرة الصحافيين والناس واندرجت تحت قائمة أهم مراسلي الحرب في العالم، رحلت عنا الأسبوع الماضي عن عمر يناهز 105 أعوام في منزلها بهونغ كونغ. سارعت الصحافة الغربية لنقل خبر موتها بعد عقود من العطاء الصحافي واستذكار مسيرتها الحافلة التي بدأت بخبطة صحافية تاريخية. ولكن عند البحث في أرشيفها والتعمق بكتبها، نرى أن أبرز محطات وكتابات كلير كانت بالفعل في منطقة الشرق الأوسط، حيث أمضت المراسلة معظم سنوات عملها في بيروت والقاهرة تتنقل بين الدول العربية تحاور الملوك وصناع القرار العرب فينة، ثم تعرج على طهران للجلوس مع الشاه والأميرة فوزية في مكتب مكتظ بالكتب الحربية.
* فرشاة أسنان وآلة كاتبة... ومسدس
وكما بدأت كلير مسيرتها المهنية بخبطة صحافية، أمضت الأربعة عقود التي تلتها وهي تحقق إنجازات مماثلة من خلال عملها كمراسلة لـ«ديلي تلغراف» والـ«غارديان» في الشرق الأوسط والشرق الأقصى. استطاعت كلير أن تلف العالم لتكشف خفاياه وفي حقيبة سفرها فرشاة أسنان وآلة كاتبة.. ومسدس أحيانًا، حسبما كشفت صفحات مذكراتها. وفي مناطق النزاع اختبأت في شاحنات الجيش ونامت مع عناصره في الخنادق وكان الرمل لحافها في ليالٍ أمضتها في الصحراء القارسة البرد.
ووسط إطلاق الرصاص الحي والاعتقالات المغلوطة، طغى حس صحافي استقصائي على كلير، واستطاعت تحصيل قصص صعب على غيرها اكتشافها. حبها للتحقيق والتدقيق جعل منها ضحية اتهامات بالتجسس من قبل الحكومات الأجنبية والبريطانية وكانت حديث صالونات صناع القرار. كلير كانت شاهدة على الحرب العالمية الثانية وأرختها من أوروبا الشرقية، كما كتبت عن الثورة الجزائرية والنكبة الفلسطينية وحرب فيتنام وغيرها من أهم أحداث القرن الماضي.
وعلاقاتها مع كبار صناع القرار فتحت لها أبواب لإنتاج قصص مميزة، لم يستطع غيرها تحصيلها. في عام 1965، أرادت كلير تغطية الحرب الهندية - الباكستانية ولكن جرى حظر لجميع المراسلين من الخطوط الأمامية، ولكن معرفتها بأنديرا غاندي، وزيرة الإعلام في الهند آنذاك، منحها إذنًا خاصًا لتكون هي الوحيدة على خط النار. كما كانت كلير من أوائل الصحافيين الغربيين الذين يعملون كمراسلين من الصين عندما افتتحت الـ«تلغراف» مكتبها في بكين عام 1973 وكانت شاهدة على عصر الصين تحت حكم ماو تسي تونغ.
* أول وآخر من حاورت شاه إيران
واستطاعت كلير أن تكون الصحافية الأولى التي تجري مقابلة مع شاه إيران محمد رضا بهلوي بعدما تسلم الحكم عام 1941 كما كانت الصحافية الوحيدة التي اقتنع الشاه بإجراء مقابلة معها بعد عزله من الخميني عام 1979 جراء الثورة الإسلامية في البلاد.
وكتب الصحافي باتريك غاريت (كلير عمته) في كتابه تحت عنوان: «عن الحظ والحرب: كلير هولينغوورث أول مراسلات الحرب» أن الصحافية استطاعت تأمين مقابلتها الأولى مع شاه إيران عام 1943 عن طريق صديقتها آن لامبتون التي كانت تعمل في الملحقة الإعلامية بالسفارة البريطانية لدى طهران. ودعيت كلير إلى القصر لمقابلة الشاه الذي اصطحبها إلى داخل مكتبه الخاص المكتظ بكتب التاريخ الحربي. ومع أن الشاه لم يتحدث الإنجليزية بطلاقة، استطاعت كلير إجراء حديث مطول معه بعدما اكتشفا أنهما يتشاطران ولعا بالجيش والأدوات الحربية. والتقت كلير بزوجة الشاه آنذاك الأميرة فوزية شقيقة الملك فؤاد، ملك مصر التي كانت قد سئمت الجلوس بالقصر بعيدًا عن مجتمعها المصري. ولأن كلير كانت منخرطة بذاك المجتمع آنذاك، جلست مع الأميرة فوزية لتحدثها عن آخر «سواليف» الطبقة المخملية.
وعندما عزل المرشد الإيراني الشاه عام 1979، كان رافضًا الحديث مع الصحافيين، ولكن علاقته الوطيدة بكلير سمحت لها بتحصيل حوار خاص معه، فزارته في المغرب. وخلال المقابلة، قال الشاه إن من تسلم منه الحكم هم زمرة من الإرهابيين والمتطرفين الذين سيدفعون البلاد إلى الهاوية بعدما كانت في أوج ازدهارها. ولام الغرب الذي جلس مكتوف الأيدي أمام الذي جرى في إيران، بحسب ذكره. واتهمت كلير بعد نشر الحوار على تأييدها «الأعمى» للشاه، ولكنها تنبأت بسقوط إيران من بعده، حسب ما كتبه غاريت.
* كلير والشرق الأوسط.. خبطات صحافية وكتاب تحليلي
وخلال عمل كلير كمراسلة لـ«غارديان» في الشرق الأوسط، استطاعت تحصيل الكثير من الخبطات الصحافية ومنها القصة التي فضحت العميل البريطاني كيم فيلبي وكشفت أنه جاسوس للاتحاد السوفياتي. ففي عام 1963، كانت كلير مراسلة الـ«غارديان» في بيروت وكان فيلبي يعمل في الـ«أوبسيرفر» التابعة لـ«غارديان»، في بيروت أيضًا. وكانا سيتقابلان للغداء، ولكنه اختفى، وبعد تحرياتها، اكتشفت كلير أنه سافر إلى روسيا. وكتبت قصة لـ«غارديان»، ولكن الصحيفة رفضت نشرها إلا بعد التحقق، مما أشعر كلير بالإهانة لعدم ثقة المطبوعة بمصادرها. وبعدها بقليل، أكدت الحكومة البريطانية سفر فيلبي إلى روسيا، ومع أن الـ«غارديان» تأخرت في النشر، إلا أن كلير هي التي كشفت حقيقة الجاسوس.
وخلال وجودها في الشرق الأوسط، اقتربت كلير من الموت مرارًا وكانت أسوأ حادثة وجودها على مقربة من تفجير فندق الملك داود في القدس عام 1946 هي وزوجها. لم يحدث لهم شيء، ولكن التفجير أودى بحياة مائة شخص آنذاك.
توفيت كلير وفي حصيلتها أربعة كتب وعمل أخير تضمن مذكراتها. ومن أهم أعمالها كتاب تحت عنوان «العرب والغرب» الذي صدر عام 1952 في وقت كانت تتنقل فيه بين القاهرة وبيروت. ناقشت كلير في صفحاته تاريخ الشرق الأوسط وتأسيس الدول العربية. وتنوعت أبوابه لتتناول نسيج مصر الاجتماعي والكيان الأردني وثورة النفط السعودي وقلاقل اليمن. كما تطرقت إلى «وعد بلفور»، الذي خسَّر الفلسطينيين دولتهم، وتداعيات النكبة. كما كرست الجزء الأخير لتقييم حال الشرق الأوسط حينذاك وسط موجة ظهور آيديولوجيات القومية والشيوعية وحماس ازدهار الصناعة. وفي مطلع الكتاب اقتبست كلير من كتاب المؤرخ الراحل جورج أنطونيوس يقظة العرب: «وثيقة سايكس بيكو كانت صادمة، فهي نتاج أسوأ درجات الطمع والاتفاقيات المزدوجة التي قسمت المنطقة لصالح الإنجليز والفرنسيين».
** هونغ كونغ تشهد آخر أيامها
اختارت هولينغوورث الإقامة في هونغ كونغ عند تقاعدها عام 1989 في شقة على مقربة من نادي الصحافيين الأجانب الذي كانت تزوره يوميًا. كما تلقت كلير عدة جوائز منها جائزة جيمس كاميرون لصحافة عام 1994.
وحتى في عقدها التسعين، اختارت كلير النوم على الأرض ليظل جسدها جامدًا ولا يستسلم، بحسب قولها. وفي آخر سنواتها، كلما جلست لإجراء مقابلة مع الصحافيين، أكدت أن سنها يمنعها من تغطية حروب كالسابق، ولكن حتى آخر أيامها، كشف مقربون لها أنها نامت وتحت وسادتها جواز سفرها، وإلى جانبها حذاؤها، كإجراء احتياطي، فلربما عادت يومًا وآلتها الكاتبة إلى خط النار.
أبرز مقالات كلير في منطقة الشرق الأوسط
* مقابلة مع الملك عبد الله الأول ملك الأردن في عمّان في أبريل (نيسان) عام 1948 أي قبل شهر واحد على النكبة. وقال الملك لكلير: «متخوف مما سيحصل بعد مغادرة البريطانيين فلسطين، عندي شعور أن الروس سيقومون بدعم اليهود، وأنا جاهز للتصدي وإرسال عشرة آلاف جندي للقتال».
* مقالة نشرتها الـ«غارديان» لكلير في مطلع مايو (أيار) 1949 من القاهرة تحت عنوان: «الإخوان يخططون للاستيلاء على السلطة في القاهرة». وتأتي هذه المقالة بعد شهرين من اغتيال مفكر الجماعة حسن البنا الذي أدى إلى تمرد الجماعة وقلاقل أمنية في العاصمة المصرية.
* مقالة تحليلية في عدد الـ«غارديان» ليوم 6 من مايو عام 1964 تحت عنوان «النفط في ليبيا». كتبت كلير: «اكتشاف النفط في ليبيا لم يغير من عاصمتها طرابلس المتلونة بألوان إيطالية إلى الآن، ولكن هذا الاكتشاف سيغير معالم بلد كبير جغرافيا بتعداد سكاني ضئيل». وأضافت: «الملك إدريس ينتابه شعور بالحزن، لأنه يعي أن الملكية لن تستمر بعده».
* مقال نشر أواخر عام 1966 عن إيران تحت عنوان «الشاه ووحوش النفط»، وقصدت هنا الشركات البريطانية والأميركية التي أرادت قطعة الكعك الأكبر من قالب مخزون إيران النفطي. وفيما كتبت عن التنافس هذا، اختتمت كلير مقالها بقولها، «سيحتفل الشاه والشعب الإيراني بحلول 2500 عام على حكم ملكي في البلاد في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، لكن ذلك سيتم فقط إن لعب الشاه (كروته) بتروٍ».