من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيال

من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيال
TT

من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيال

من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيال

«دراكولا مصاص الدماء»... هكذا عرفناه من أفلام السينما الغربية متمثلة في شخصية الكونت دراكولا، الذي كان يمتص دماء ضحاياه مثل الخفافيش، فقط ليتحول الضحية بعد موته إلى كائن آخر من مصاصي الدماء. وهكذا جسّدت هوليوود هذه الشخصية التي برع في تمثيلها الممثل البريطاني الراحل الشهير كريستوفر لي، وسرعان ما تعددت الأفلام والمسلسلات المختلفة حول هذه الشخصية بأشكال مختلفة.
ولقد ابتكر المخرجون وكتَّاب القصص وسيلة قتل هذا المخلوق الخيالي من خلال وسيلتين أساسيتين، هما: دق الخازوق في قلبه مباشرة فيموت، أو يُكشف لضوء الشمس الذي يحرقه لأنه كائن ليلي لا يعيش إلا في الظلام. وهكذا تسلسلت الروايات، غير أن الحقيقة هي أن هذه الشخصية لها أساس في كتب التاريخ، ولكن ليس كمصاص دماء بطبيعة الحال، بل كشخصية سادية متعطشة للدماء والقتل والتعذيب.
الشخصية التاريخية التي اشتقت منها هذه الانحرافات الروائية هي للكونت فلاد ابن دراكولا، حاكم إقليم والاخيا (ولاشيا - أو بلاد الأفلاق - أكبر أقاليم جمهورية رومانيا الحالية) خلال القرن الخامس عشر، وينسب اسم «دراكولا» إلى والده وهو المرادف باللغة الرومانية لابن التنين.
لقد ولد فلاد لأمير إقليم والاخيا، الواقع بين قوتين متحاربتين هما الدولة العثمانية الفتية والدولة المجرية. وكان على هذا الإقليم أن يوازن سياسته دائمًا بين عدوين كبيرين لا طاقة له بهما. واختار والد فلاد أن يتحالف مع العثمانيين ضد المجريين، ووفقًا لمعايير ذلك الوقت كان التحالف يتطلب ضمانات لتحاشي الخيانة والغدر، وفي هذه الحالة سلّم الأب ابنيه فلاد ورادو إلى السلطان العثماني رهينتين لضمان ولائه له.
وعاش فلاد في كنف العثمانيين لسنوات طويلة، لكنه على الرغم من أنه لقي منهم معاملة حسنة للغاية تضمنت تدريبه على كل فنون القتال والحرب والحياة الرغدة، نشأ على كراهية العثمانيين والإسلام على حد سواء. وحقًا، رفض اعتناق الإسلام وتشرَّب الثقافة العثمانية تمامًا، إلا أنه كتم أمر كراهيته لهما منتظرًا لحظة عودته لقيادة بلاده. وهذا ما حدث عام 1448 عندما قتل والده بعد مؤامرة النبلاء ضده، فعاد فلاد ليتولى إمارة والاخيا، في ظاهره حليفًا للعثمانيين وفي باطنه عدوًا شديد العداوة لهم.
وعلى الفور بدأ القائد الشاب التجهيز لمواجهة العثمانيين، إلا أن هذه الخطة كانت تحتاج إلى تأمين الجبهة الداخلية، وهو ما فعله بكل عنف وقسوة في استهانة كاملة بإنسانيته وإنسانية شعبه. إذ بدأ تشديد قبضته من خلال التخلص من طبقة النبلاء بعد دعوتهم إلى مأدبة عشاء لكنه لم يتخلص منهم بالقتل، بل جمعهم تحت تهديد السلاح ووضعهم كعمال لبناء الجدران وترميم الأسوار الدفاع حول عاصمته دون أية مراعاة لحالتهم الاجتماعية أو أعمارهم، فمات أغلبيتهم بعد مرور فترة وجيزة.
أما على المستوى الشعبي فقد وضع دستورًا أخلاقيًا متشددًا للغاية، وكانت العقوبات أكثر من رادعة، فأغلبية عقوبات الذكور كانت قتل المذنبين على الخازوق وتركهم لساعات طويلة أو حتى أيام ليموتوا ببطء شديد، وكان يتلذذ وهو يراهم يتألمون ويرى في ذلك عبرة للرعية. ولكن الثابت تاريخيًا أن هذا الرجل السادي المريض كانت يشتاق إلى هذا المنظر، بدليل أنه قتل الآلاف من شعبه بهذه الطريقة البشعة، أما عقوبة الزانية فكان سلخها وتركها لتموت في الساحات العامة. ويقال إن أحد النبلاء دخل عليه ففزع من روائح الجثث المنتنة في الساحات، وعندما شكا له، أمر فلاد فورًا بجدع أنفه ووضعه على الخازوق هو الآخر. ويقال إن هذا الرجل المريض نفسيًا كان يتلذذ بمشاهدة مناظر القتل والتعذيب لدرجة أنه تعمد أن يكون حول قصره من كل الاتجاهات خوازيق يعدم عليها الناس.
عودة إلى التسلسل التاريخي؛ بمجرد أن دانت لفلاد ولأخيه رادو السيطرة المطلقة على والاخيا بالقهر والدم، فتح الجبهة مباشرة مع العثمانيين ودخل في صدام عسكري مع السلطان محمد الثاني «الفاتح» في أعقاب فتح الأخير القسطنطينية بسنوات قليلة. وكان السلطان قد أوفد اثنين من السفراء ليتفاوضوا مع فلاد بدلاً من الحرب، وعندما طلب منهما خلع عمامتيهما، اعتذر السفيران، فما كان منه إلا أن أمر جنوده بدق المسامير في رأسيهما لتثبيت العمامتين. هذا التصرف الوحشي أثار غضب السلطان فنشبت الحرب بينهما لسنوات طويلة، وخلالها طبَّق فلاد كل التكتيكات التي تعلمها في البلاط العثماني، حتى إنه في عام 1462 جر جيش محمد «الفاتح» إلى معركة مفتوحة بالقرب من نهر الدانوب وهزم - متحالفًا مع المجريين - مقدمة جيشه هزيمة نكراء، وأقدم على قتل كل الأسرى على الخازوق كعادته، وقطع أيدي البعض وأرجلهم، وتركهم أمام أنظار جنود جيش السلطان المتقدم ليروهم.
وهكذا، ازداد غضب السلطان وأقسم على الانتقام من فلاد بوضع رأسه على الخازوق أسوة بما كان يفعله مع الأسرى والمصابين. وبالفعل، عندما تقدم الجيش العثماني داخل والاخيا، وعلى الرغم من سياسة «الأرض المحروقة» التي لجأ إليها فلاد ليبطئ تقدم العثمانيين - وهو ما حدث - فإنه أخفق مع المجريين في مواجهة قوة جيش الدولة العثمانية الفتية المتصاعدة شهرًا بعد شهر.
وفعلاً استطاع العثمانيون محاصرة قلعة دراكولا، لكن فلاد تمكن من الفرار بمساعدة الغجر وتوجه إلى إقليم ترانسلفانيا، شمال غربي والاخيا، المتاخم للمجر، محاولاً تحالفه مع المجريين الذين قبضوا عليه. وفي هذه الأثناء، نصّب السلطان الفاتح الأمير رادو بدلاً من أخيه حاكمًا لوالاخيا. وظل فلاد في المنفى حتى عام 1475 عندما جاءه خبر وفاة أخيه، فقرر العودة متوهمًا أن الشعب سيستقبله بالترحاب. إلا أن هذا لم يحدث بطبيعة الحال لأن الشعوب لا تنسى مجرميها. وبالتالي فإنه لم يصمد بعد اعتلائه العرش أكثر من شهرين، إذ مات في ظروف غامضة، ويقال إنه قتل على أيدي الخدم أو أحد النبلاء. وفي كل الأحوال فقد قطعت رأسه وأرسلت مغطاة بالعسل إلى السلطان العثماني، الذي علّق على الخازوق في العاصمة أدرنة لتكون رمزًا للانتقام والعظة، لكل من تسوّل له نفسه خيانة العثمانيين بعد ذلك في أوروبا.
وهكذا انتهت حياة هذا الرجل الدموي السادي الذي تناقلت أوروبا قصص فظائعه لقرون تالية. وبقي عالقًا في الذاكرة الإنسانية على اعتباره من أسوأ الحكام وأكثرهم تعطشًا لدماء شعبه وأعدائه على حد سواء، كما دخل إلى عالمنا اليوم من خلال روايات «دراكولا مصاص الدماء»، مع الإشارة إلى أن ثمة روايات تزعم أن فلاد كان في بعض المناسبات يضع الخبز في كوب من دماء أعدائه أو المذنبين من شعبه ويأكله!
أخيرًا، أينما كانت الحقيقة، فإن أكل الخبز بالدم أو شرب الدم لا يختلفان كثيرًا، خصوصًا في السياسة والحكم. فالأمران يستويان، فإن لم ينل الشعب من أمثاله فإن التاريخ ينال منهم بالروايات والسير العفنة، تمامًا مثلما حدث مع الكونت فلاد ابن دراكولا.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.