زيغمونت باومان: من «الحداثة الصلبة» إلى الحداثة «السائلة»

تلمّس موضوعات العصر بعين فاحصة وناقدة تشهد عليها تجربته السياسية والفلسفية

زيغمونت - باومان
زيغمونت - باومان
TT

زيغمونت باومان: من «الحداثة الصلبة» إلى الحداثة «السائلة»

زيغمونت - باومان
زيغمونت - باومان

زيغمونت باومان، سوسيولوجي وفيلسوف بولندي. ولد في بوزنان سنة 1925، لأبوين يهوديين اضطرا لمغادرة بولندا بعد الغزو النازي سنة 1939 في اتجاه الاتحاد السوفياتي. واختارا سنة 1953 التوجه إلى إسرائيل. غير أن ذلك لم يَرُق للسوسيولوجي المعادي للصهيونية. ففي مقابلة له عام 2011 مع مجلة «بوليتكا» البولندية، انتقد باومان إسرائيل بقوله إنها لم تكن مهتمة إطلاقا بالسلام، بل كانت تستخدم الهولوكوست كعذر لشرعنة أفعالها المتوحشة، مشبها الجدار الفاصل الذي أقامته في الضفة الغربية، بالجدران التي وضعتها النازية في وارسو (الغيتو)، عندما قتل آلاف اليهود في الهولوكوست.
سبق لزيغمونت أن اشتغل في المخابرات العسكرية البولندية كمدرس في العلوم السياسية. وخلال تلك الفترة (1939 – 1953)، درس السوسيولوجيا في أكاديمية وارسو، على يد كبار السوسيولوجيين البولنديين، أمثال ستينسلو أوسوسكي وجوليان هوتشفيلد. غير أنه سيغادر قسم السوسيولوجيا نحو قسم الفلسفة، بسبب حظر علم الاجتماع في بولندا، لأنه «علم اجتماع بورجوازي». وفي عام 1954، أصبح محاضرا في جامعة وارسو، حيث استقر بها إلى عام 1968، خلال وجوده في قسم الاقتصاد في جامعة لندن. وشغل منذ 1971 كرسي الأستاذية في قسم علم الاجتماع في جامعة ليدز، حيث أصبح، فيما بعد، رئيسا للقسم. ومنذ ذلك الوقت، كانت كتب باومان تنشر باللغة الإنجليزية على وجه الحصر، إلى أن عد منذ العقد التاسع من القرن الماضي، أحد أبرز أوجه حركة مناهضة العولمة النيوليبرالية.
نشر بومان ما يقارب السبعة والخمسين كتابا، ونحو مائة مقال. ونالت أعماله كثيرًا من الجوائز العالمية، من بينها جائزة أميرة استورياس في إسبانيا عام 2010. وهي أعمال تشمل مجالات مختلفة مثل: العولمة، والحداثة، وما بعد الحداثة، والاستهلاك، والنظام الأخلاقي، والبيروقراطية، والعقلانية، والإقصاء الاجتماعي، ومن أهمها: دراسة عن «الحركة الاشتراكية البريطانية» (كتابه الأول الذي نشر بالبولندية سنة 1959 وتم تنقيحه وترجمته إلى الإنجليزية سنة 1972)، «حياة بلا روابط» (2005)، «ثراء الأقلية» (2014). ومن كتبه المترجمة إلى العربية، نجد: «الحداثة السائلة»la modernité liquide (الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2016)، «الحداثة والهولوكوست» (مدارات، 2014)، «الحب السائل: حول هشاشة العلاقات بين الناس» (الشبكة العربية 2016)، «الحرية» (مدبولي 2012)، «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة» (مشروع كلمة 2016). ويمكن تفسير هذا الاهتمام العربي المتأخر بفكر ونصوص ريغمونت، بالحاجة إلى تفكير نقدي يواكب مستجدات العصر والإشكالات التي يطرحها مجتمع الاستهلاك اليوم، بالنظر إلى حدة أطروحته التي يمزج فيها بين مجالات عدة: السوسيولوجيا، الفلسفة، الأدب، الاقتصاد، السياسة.
مر تفكير زيغمونت في مساره الفكري والفلسفي، بأربع مراحل لا تنقطع فيها الواحدة عن الأخرى، بل يمكن النظر إليها كوحدة ناظمة لمجموع أطروحته النقدية، نجملها فيما يلي:
المرحلة الأولى «مرحلة بولندا»، وهي التي كتب فيها كثيرًا من النصوص باللغة البولندية: امتدت إلى ما يقارب العقد من الزمن (1957 - 1968)، حيث تأثرت أعماله بالماركسية الأرثوذوكسية، التي سيتمرد عليها بعد نفيه من بلده الأصلي إلى بريطانيا، بسبب نقده للمجتمع الشيوعي البولوني وللاتحاد السوفياتي.
المرحلة الثانية: (1971 – 1982)، حين درس علم الاجتماع النقدي متأثرًا بجورج سيمل وأنطونيو غرامشي. وفيها اكتشف عوالم الفرد والمجتمع والتنظيمات الاجتماعية، وبلور رؤية المجتمع الصلب الذي ينطبق على طور الرأسمالية الإنتاجية، القائمة على الصناعة والتجارة والتبادل واستغلال الموارد الطبيعية والمواد الأولية.
المرحلة الثالثة: (1987 - 1991)، التي تميزت بنقده الجذري للحداثة، بما هي السبب في كثير من المآسي التي عاشتها البشرية طوال القرن العشرين، حيث تنامى العنف في أشكاله الفظيعة. فأبشع «الجرائم في تاريخ الإنسان لم ينشأ من خرق النظام، بل عن اتباعه بشدة وبلا أخطاء. فلم تكن الهولوكست جريمة ارتكبتها مجموعة من الغوغاء، بل نفذتها مجموعة محترمة ومنظمة ترتدي زيا رسميا، وتتبع القانون، وتتحرى الدقة في تعليماتها» («الحداثة والهولوكوست» ص245). وهو في هذا، يتفق مع حنة آرنت في وصفها للشر السياسي التافه الذي طبع تاريخ الفاشية الألمانية، حيث تنسب المسؤولية للنظام القمعي الذي ارتكب الجرائم، وليس لإيخمان الذي حوكم سنة 1963 بتهمة المسؤول عن جرائم الحرب. كما تميزت هذه المرحلة بأفول دور المثقف. ففي حواره (فبراير/ شباط 2008) مع كاترين بورتفين (ترجمه إلى الفرنسية جيريم دافيس ولورينا جاليوت): «مثلت الثمانينات نهاية مرحلة تاريخية مهمة كان فيها دور المثقفين حاسما، إذ انتهى حلم كبير أسس له فلاسفة الأنوار كحلم يعد بمجتمع مثالي ويضمن السعادة للبشر، مجتمع يحكمه العقل البشري بفضل الإبداع والعمل البشريين. أفلت فكرة المجتمع المثالي تلك مع نهاية الألفية الثانية، حين وضع حد لها عنوة. وهذا ما يسميه بنهاية اليوتوبيات أو الآيديولوجيات المرتبطة بنهاية الدولة - الأمة. ويتجسد ذلك، في نظره، في التناقض الحاصل بين مجال السياسة ومجال السلطة. ففي العالم المعاصر، بعد انهيار الدولة - الأمة، تتجه السلطة نحو الأعلى، نحو عالم ما بعد الدولة - الأمة (المعولم)، في حين تنحدر السياسة نحو الأسفل (المجال الوطني) وتظل حبيسة الدول المحلية - الوطنية. وبهذا لم يعد المثقف قادرا على التأثير في السياسيين المحليين لأنه يدرك أن السلطة والقوة ليستا بيده بل تتجاوزانه.
المرحلة الرابعة: (1992 إلى اليوم)، حيث اشتهر على نطاق واسع بنقده لما بعد الحداثة، كمرحلة عممت فيها ثقافة الاستهلاك والحرية الفردية، وفيها أطلق (سنة 1998) مفهوم المجتمع السائل (مجتمع الاستهلاك والحرية الفردية) لتعويض المجتمع ما بعد الحداثي. ففي المجتمع السائل، كمجتمع استهلاكي يمثل نموذج الاقتصاد النيوليبرالي، الذي يسم الحقبة الراهنة من تطور الرأسمالية العالمية، يندمج الفرد بفضل استهلاكه وقدرته على إشباع رغباته في السوق. وقد ترجمت أعماله في هذه المرحلة إلى لغات عالمية عدة.
يصعب اختصار كل أفكار هذا الفيلسوف النقدي في هذا المقال، بالنظر إلى كثافتها وصعوبة التوليف بينها من دون تخصيصها مدخلاً تفصيليًا لجميع رؤاه، حول العنف والهوية والديمقراطية والسياسة والعولمة. في تحديده للفرق بين الحداثة الصلبة والحداثة السائلة، يقول: «لم أنظر الآن، ولا أنظر الآن، إلى الصلابة والسيولة باعتبارهما ثنائية متعارضة، بل أنظر إليهما على أنهما حالتان متلازمتان تحكمهما رابطة جدلية. إن البحث عن صلابة الأشياء والحالات هو ما دفع إلى إذابتها، وأبقى على استمرارية الإذابة، ووجه مسارها. فلم تكن السيولة خصما معاديا، بل أثر من آثار البحث عن الصلابة، ولم يكن لها أبٌ سواه، حتى عندما أنكر ذلك الأب أنها ابنته الشرعية» (الحداثة السائلة، ص 27). فالجدل يقضي بكون حالات لم تعرف من قبل حداثة صلبة، لكنها الآن في صلب الحداثة السيالة، ويتوجب عليها أن تتقن المشي على رمال متحركة. لأن ما يجري في عالم اليوم، لا تحكمه لا اتفاقية وارسو (حول حق الأقليات في تقرير المصير) ولا اتفاقية ويستفاليا حول الدولة - الأمة (الوطنية)، لجهة أن الحدود السيادية لم تعد كما كانت، أي أن العلبة السوداء للسيادة الوطنية، بتعبير سيلا بنحبيب، يتوجب فتحها. فالمهاجرون يتدفقون من كل حدب وصوب، كما تتدفق الأموال والسلع والمعلومات. لقد صار كل شيء معولما حتى ما نعتقد أنه حبيس حميميتنا الخاصة. لهذا «نستطيع أن نسمى ما نذهب إليه، في اللحظة الحالية، بأنه أزمة الديمقراطية، انكماش الثقة. نعتقد أن قياداتنا ليس فقط غبية وفاسدة، لكنها أيضا حمقاء. الفعل يستلزم القوة لتتمكن من اتخاذ القرارات. وبالطبع، نحتاج السياسة، التي تعطيك القدرة لتقرر ما تحتاجه». ومن كان عليهم أن يمارسوا السياسة توجهوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يعتبره باومان «مجرد فخ»، بحيث نعتقد أننا ننتمي إليه، لأنه يمنحنا السلطة في حذف هذا أو ذاك من قائمة الأصدقاء، أو السلطة في إضافة هذا أو ذاك. في حين أن الصداقة أبعد ما تكون، وأن تختزل في «وخز الفأرة». الصداقة لقاء والتقاء، شعور وتعبير، تبادل وتفاعل وانفعال، لأن هناك «قيمتين لطالما كان صعبًا التوفيق بينهما؛ الأمن والحرية. فإذا كنت تريد الأمن، فعليك أن تتنازل بقدر معين من الحرية. وإذا كنت تريد الحرية، فعليك أن تتنازل بقدر معين من الأمن. هذه المعضلة ستستمر إلى الأبد». فالصراع الدائر الآن، يتمحور حول علاقة الفرد بالمجتمع، ولم يعد يتعلق الأمر بنقص الأمن، بل بنقص الحرية. فالأمن توفره كل العدسات المحيطة بك من كل الجهات، وأحيانًا من حيث لا تعلم. وهذا ما يضفي على سؤال الهوية بعدا جديدا: «سؤال الهوية تبدل، من شيء تولد به إلى مهمة، والمهمة تكمن في أنه يتوجب عليك صنع مجتمعك الخاص»، مجتمع تنتمي إليه لا أن ينتمي إليك، كما هو حال مواقع التواصل الاجتماعي. فأية علاقة تربط بين المجتمع والفرد ومواقع التواصل الاجتماعي؟ الفرد جزء من المجتمع، ولا يستطيع الفكاك منه ولا تعويضه بشبكات التواصل الاجتماعي أو عالم التقنية (العبودية الرقمية)، في حين أن الشبكات الاجتماعية هي جزءٌ من الفرد وتنتمي إليه.
تكمن إذن راهنية فكر وفلسفة ريغمونت باومان في تلمسه لموضوعات العصر بعين فاحصة وناقدة، تشهد عليها تجربته السياسية والفلسفية، بحيث لم يستطع الاتحاد السوفياتي ولا الشيوعية البولونية، ولا كبر سنه من مواصلة نقده للحاضر لاستشراف المستقبل المشرق.

* كتب المقال قبل رحيل الفيلسوف باومان



الأكاديمية الإسبانية تستذكر يوسا وتكشف أعمالاً له غير منشورة

الأكاديمية الإسبانية تستذكر يوسا وتكشف أعمالاً له غير منشورة
TT

الأكاديمية الإسبانية تستذكر يوسا وتكشف أعمالاً له غير منشورة

الأكاديمية الإسبانية تستذكر يوسا وتكشف أعمالاً له غير منشورة

تحتفل الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية يوم الأحد المقبل بذكرى مرور 3 أشهر على رحيل الكاتب الكبير ماريو فارغاس يوسا في مسقط رأسه ليما عاصمة البيرو عن عمر ناهز التسعين عاماً. ودعت هذه المؤسسة العريقة التي شهدت النور مطالع القرن الثامن عشر عدداً من كبار الأدباء والنقّاد الإسبان والأميركيين اللاتينيين الذين واكبوا أعمال فارغاس يوسا إلى إلقاء محاضرات حول الأديب الذي نال جائزة نوبل، وجائزة سرفانتيس، ونقلت أعماله إلى أكثر من 35 لغة. ومن المنتظر أن يتخلل المناسبة الكشف عن أعمال غير منشورة للكاتب، الذي خص «الشرق الأوسط» بمقالاته الدورية طيلة 4 سنوات تقريباً.

كان يوسا يقول إنه لا يهاب الموت، ولا يفكّر فيه أبداً، وإن جلّ ما يتمناه عندما تأتي ساعته هو أن يكون منكبّاً على الكتابة أو منهمكاً في بحث أو مشروع أدبي جديد. وكان يخشى أن يضعف بصره إلى درجة حرمانه من المطالعة التي كانت شغفه الأول. لكن الموت جاءه، على موعد كان يعرف أنه دنا عندما قرر العودة إلى ليما خريف العام الفائت، في كنف أسرته، بعد معاناة دامت 5 سنوات من مرض لا علاج له، ولم يكشف عنه إلا للمقرّبين في دائرته الضيّقة، وبعد قصة حب عاصف ترك جرحاً عميقاً في فؤاده.

رحل ماريو فارغاس يوسا، أو «دون ماريو» كما كنّا نناديه، متصالحاً مع أسرته التي كانت اعتكرت علاقته بها منذ عشر سنوات إثر قصة غرامه الأخيرة مع نجمة المجتمع المخملي الإسباني والزوجة الأولى للمطرب المعروف خوليو إيغلزياس. انطفأ آخر عمالقة الأدب الأميركي اللاتيني بعد أن حصد جميع الجوائز الأدبية العالمية الكبرى، وانسدل الستار على حقبة ذهبية رصّعت سماءها كوكبة من المبدعين الكبار مثل الكولومبي غارسيا ماركيز والمكسيكي كارلوس فونتيس والأرجنتيني خوليو كوارتازار.

انطفأ فارغاس يوسا في المدينة التي أحبها أكثر من كل المدن العديدة التي أقام فيها مثل باريس وبرشلونة ولندن ونيويورك، ومدريد التي كانت موطنه الثاني بعد أن كرّمه الملك خوان كارلوس الأول بمنحه الجنسية الإسبانية الفخرية إثر نيله جائزة سرفانتيس وعضوية الأكاديمية الملكية للغة، وقبل أن تفتح له الأكاديمية الفرنسية أبوابها بوصفه أول أديب يجلس بين خالديها من غير أن ينشر كتاباً واحداً بلغة موليير. وكانت قالت عنه رئيسة الأكاديمية إنها لم تقرأ عن فلوبير أفضل وأعمق مما كتبه صاحب «المدينة والكلاب» المتوّج بنوبل عام 2010.

غاب الصبي الذي بقي شقيّاً ومغامراً ومشاكساً وأنيقاً وقارئاً نهماً حتى التاسعة والثمانين من عمره، بعد أن أمضى الأسابيع الأخيرة من حياته يجول في العشايا على المطارح التي ألهمت العديد من روائعه الأدبية، وبعد أن ترك لنا ما يزيد على ثمانين مؤلفاً في الرواية وأدب السيرة والبحث السردي والسياسة، من بينها مجموعة من المقالات عن العراق الذي زاره، برفقة نجله البكر آلفارو، الكاتب هو أيضاً، بعد الغزو الأميركي، وعن فلسطين التي زار أراضيها المحتلة وجال فيها، وعن لبنان الذي ربطته به علاقة عائلية بعد زواج ابنه من لبنانية.

كان في صباه الأول يحلم بأن يكون «كاتباً فرنسياً»، ربما لإعجابه بالأدباء الفرنسيين مثل فلوبير وهوغو وسارتر، وما لهم من مكانة مرموقة في المجتمع الفرنسي. وقد روى أنه اتخذ قراره النهائي بأن يصبح كاتباً ذات يوم في أحد مقاهي مدريد التي وصلها عام 1958 بمنحة لدراسة الأدب في جامعتها المركزية، وراح يتردد يومياً على ذلك المقهى حيث وضع المخطوط الأول لرائعته «المدينة والكلاب» التي قال عنها صديقه اللدود غارسيّا ماركيز أنه يتمنّى لو كان هو كاتبها.

خلال إقامته الأولى في باريس مارس مهنة المتاعب في القسم الإسباني لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، والترجمة التحريرية بالتعاقد مع منظمة «اليونسكو»، والترجمة الفورية التي كانت مناسبة لقائه الأول بخوليو كورتازار في مؤتمر حول القطن في اليونان. وقد وضع رواية لاحقاً تدور وقائعها حول مترجمة فورية من البيرو ومغامراتها العاطفية في باريس. في العاصمة الفرنسية اكتشف فلوبير، وتبحّر في أعماله وحياته إلى أن أصبحت بحوثه عنه من المراجع الأساسية لدراسة صاحب «مدام بوفاري». تأثر كثيراً بسارتر، وسار في خطاه السياسية يوم كان من أشد مناصري الثورة الكوبية قبل أن ينقلب بشكل نهائي وعنيف على الفكر الشيوعي والحركات اليسارية التي كان معظم أدباء أميركا اللاتينية من مؤيديها. ولدى سؤاله مرة حول ما إذا كانت الانتقادات القاسية التي تعرّض لها من اليسار الأميركي اللاتيني بسبب انقلابه على نظام كاسترو في كوبا هي التي دفعته إلى الجنوح نحو الفكر الليبرالي، أجاب «ربما».

ماريو بارغاس يوسا

في إسبانيا وضع أطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة مدريد حول أعمال غارسيّا ماركيز عام 1971، وهي تحليل عميق لكل ما أنتجه ماركيز حتى صدور «مائة عام من العزلة»، وأصبحت مرجعاً لدراسة الكاتب الكولومبي. لكن بعد الخلاف الذي نشب بينهم بسبب «حادثة عاطفية» امتنع كلاهما دائماً عن الحديث عنها، وانتهى عام 1976 باللكمة الشهيرة من فارغاس يوسا على وجه ماركيز التي وضعت حداً نهائياً للصداقة التي ربطتهما، رفض فارغاس يوسا إعادة نشر كتابه حول ماركيز، حتى عام 2006 عندما سمح بنشره ضمن أعماله الكاملة. وفي عام 2021، وبمناسبة مرور 50 عاماً على صدوره قرر رفع الفيتو عن إعادة نشره، وقال يومها في حديث إلى «الشرق الأوسط»: «لم أشعر يوماً بالحسد من نجاح ماركيز، بل من موهبته».

وفي إسبانيا أيضاً تعرّف فارغاس يوسا على كارمن بالسيلز، الوكيلة الأدبية المعروفة في برشلونة، التي كانت وراء شهرة كثيرين من كتّاب أميركا اللاتينية مثل ماركيز وكورتازار وفونتيس، والتي أصبحت فيما بعد وكيلته الحصرية. ويروي دون ماريو أنه عندما كان يقيم مع عائلته في لندن، حيث كان يدرّس في جامعة كينغز كولج، اتصلت به بالسيلز، وعرضت عليه أن يترك التدريس، ويتفرّغ للكتابة في برشلونة التي انتقل إليها عام 1969، وفيها ولدت ابنته مورغانا، وصدرت له روايات عدة، وكتب أطروحته الشهيرة عن غارسيا ماركيز.

خلال إقامته الأولى في باريس بدأ بكتابة إحدى روائعه «محادثة في الكاتدرائية»، وأكملها خلال ترحاله بين العاصمة الفرنسية وواشنطن ولندن وبورتوريكو، وصدرت بعيد وصوله إلى برشلونة. والكاتدرائية ليست كنيسة ضخمة، بل اسم لمقهى باريسي كان فارغاس يوسا يتردد عليه. وكان فكّر في البداية أن ينشرها في جزأين لضخامتها، وكان يقول إنها الرواية التي تطلبت منه أكبر قدر من الجهد بين تنقيح ومراجعة وإعادة كتابة، وإنه لو طلب إليه أن ينقذ رواية واحدة من أعماله، لاختارها. وتدور الرواية حول الأزمات السياسية التي كانت بلاده البيرو تعاني منها. وقد دفعه هذا الاهتمام لاحقاً إلى خوض المعترك السياسي عندما ترشّح للانتخابات الرئاسية عام 1990، وخسرها أمام ألبرتو فوجيموري الذي انتهى لاحقاً في السجن بتهم الفساد حتى وفاته العام الماضي. لم يندم على تلك التجربة، وبقي يشدد على أن الأدب والسياسة هما وجهان لعملة واحدة هي حرية الإنسان. وخلال السنوات الأخيرة التي أقامها في إسبانيا كان ناشطاً في نشر الفكر الليبرالي، وسار في مظاهرات ضد الحركة التي كانت تنادي باستقلال مقاطعة كاتالونيا.

كان فارغاس يوسا غزيراً في إنتاجه الأدبي، بقدر ما كان نهماً في مطالعاته التي غالباً ما كانت مواضيع لمقالاته الأدبية والنقدية التي تنشرها له «الشرق الأوسط» منذ سنوات. منذ شبابه الأول كانت الكتابة هاجسه، وسعى بمثابرة إلى التفرّغ لها. وكتب يوماً إلى أحد أصدقائه، عندما كان لا يزال في السابعة عشرة من عمره: «سأصبح كاتباً. لا أريد أن أكون صحافياً، ولا محامياً ولا مدرسّاً، حتى لو اضطررت لتخصيص وقتي من أجل كسب العيش لأعمال أخرى، لكني سأصبح كاتباً. معنى ذلك أنني سأكرّس أفضل أوقاتي وطاقتي للكتابة. سأبحث عن أعمال تؤمن لي قوتي من غير أن تحول دون انصرافي الأساسي للكتابة. وإذا كان ذلك يعني أنني سأتكبد صعاباً مادية، لن أتردد لأني أعرف جيداً أنني سأكون أكثر تعاسة في الحياة إذا تخليّت عن الأدب لأسباب مادية».

وعندما نال جائزة نوبل في عام 2010 قال: «لا أبالغ في القول إن الأدب أنقذ حياتي. كنت أعيش في عالم مغلق وعدواني في أغلب الأحيان، تحكمه قواعد موروثة ويسوده الصمت والخوف من البوح. لكن في الكتب وقعت على باب سري وسحري من الكلمات التي بنيت منها عوالم سمحت لي بأن أتنفس بحُرية مطلقة. كانت الكتابة بالنسبة لي منذ البداية سبيلاً إلى الوجود من غير أن أستأذن أحداً. هي التي منحتني نعمة تغيير الواقع، بالخيال وليس بالقوة. وتعلمت منها أن بلداً من غير حكايات، ومن غير قراء، ومن غير كتّاب، هو بلد محكوم عليه بالنسيان».

كان دون ماريو يردد أن القراءة لا تقلّ أهمية عن الكتابة، وأن مطالعاته لها الفضل الأكبر فيما أنتجه من أعمال، ويقول: «من فلوبير تعلّمت أن الجهد يصل حيث لا تصل الموهبة التي ليست سوى مثابرة وصبر طويل. ومن ديكنز وبلزاك وتولستوي وكونراد وتوماس مان تعلمت أن تفاصيل الأرقام والتواريخ لا تقل أهمية في الرواية عن مهارة الأسلوب واستراتيجية السرد، وتعلمت من سارتر أن الكلمة هي أيضاً فعل، ومن كامو وأورويل أن الأدب من غير أخلاق ليس إنسانياً».

نشر فارغاس يوسا ثلاثاً من روائعه الأدبية قبل بلوغه الثالثة والثلاثين من عمره، وفي الخطاب الذي ألقاه لدى تسلمه جائزة نوبل قال: «علينا ن نواصل الكتابة والقراءة والحلم؛ لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة والأكثر فاعلية للتخفيف من حتمية الفناء وقهر سلطان الزمن».

الحب كان المصدر الأول للمتاعب والمشكلات التي واجهته في حياته التي كانت مليئة بالمغامرات، وأثارت حسداً كثيراً بين أترابه. كان يقول إن الذكاء يكمن أيضاً في الفصل بين الحب والجنس، لأن الحب هو نبع العذابات التي لا قدرة لنا على التحكم فيها. رحل مهيض الفؤاد بعد أن فشل في استئناف الاتصال بالمرأة التي كانت مهبط مشاعره في السنوات الأخيرة من حياته، لكنه كان قد استعاد السكينة العميقة التي كان يحنّ إليها دوماً بجانب أسرته، في المطارح حيث نبتت أجمل أحلامه.