الفوارق بين الجماعات المقاتلة السنّية والشيعية

أمام دورَي المرجعية والدولة

قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
TT

الفوارق بين الجماعات المقاتلة السنّية والشيعية

قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)

إن حمل السلاح في سبيل الإيمان الديني ليس مفهوما سنيًا فقط، بل تؤمن به كل الفرق الإسلامية، وكما هو حاضر في جماعات منسوبة للسنة، مثل تنظيمات الجهاد والقاعدة وداعش وغيرها، فهو حاضر في غيرها، وخاصة لدى التنظيمات الشيعية الحركية المسلحة مثل «حزب الله» (لبنان) و«أنصار الله» (اليمن) و«الحشد الشعبي» و«عصائب الحق» و«سرايا الأشتر» وألوية «أبو الفضل العباس» (العراق) و«فاطميون» الذي أسس في مايو (أيار) 2015 و«حزب الله في سوريا» الذي أسس في يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، وعشرات غيرها من الجماعات المتطرفة المرتبطة بـ«أمير» و«مرشد» لها و«ولي فقيه» يمثل مرجعية ملزمة لدى قادتها وأعضائها، مهما تعددت بلدانها ومناطقها أو اختلفت ساحاتها.
تلتقي الفئتان المسلحتان من التنظيمات السنية والشيعية المتشددة التي ترفع لواء الدين في التفافها حول «أمير» و«رمز» أو «ولي فقيه عالم» تدين له بالسمع والطاعة والتقليد. ولكن بينما تتوزع التنظيمات السنّية المعولمة على تنظيم داعش الصاعد والقاعدة المتراجع بعد زعامة أيمن الظواهري، تبدو الجماعات – أو قل الميليشيات – الشيعية أكثر صلابة في التفافها حول «مركز» واحد و«أمير» واحد تأتمر بأمره وتوجهاته دون سواه هو «مرشد الثورة الإيرانية» وليس غيره، أو من يفوضه عنه ويرتبط به.
* التشابه في الخطاب
دائما ما تتشابه المنطلقات والشعارات في كلا الخطابين المتشددين السني والشيعي، من دعاء «الموت لأميركا» و«الغرب» مرورًا بـ«مواجهة التغريب» و«الشيطان الأكبر» إلى دعوى «تحرير القدس» - التي لم يخوضوا معركة حقيقية من أجلها - ووصولاً إلى «الحكومة» و«الحاكمية الإسلامية» كما صكها أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وآية الله الخميني في كتاباتهم، ويوصف القتلى في كلا الفريقين بـ«الشهداء».
لكن بينما الجماعات السنّية المسلحة جماعات معادية تناهض الدول والأنظمة السنّية التي تنتمي إليها، يحتضن نظام «الولي الفقيه» الإيراني الميليشيات الشيعية ويدعمها أذرعًا ووكلاء لتوسعاته وتدخلاته في شؤون المنطقة وانقلابًا على أعدائه فيها. ولقد صرحت نعيمة مستشاري المرشدة الطلابية لقوات «الباسيج» - التي أسسها الخميني عام 1979 ويعتبر الحرس الثوري «الباسدران» أحد فروعها - لراديو فردا الفارسي في 23 ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن هذه الروح بقولها إن «الباسيج ليس مجرد اسم أو منظمة، بل هو جيش مكوّن من 80 مليون شخص هم عدد أفراد المجتمع الإيراني، وهذا الجيش هو الدرع الحامي للثورة الإسلامية والذي ينفذ أهدافها ومخططاتها داخل إيران وخارجها. لا بد أن يكون جيش الباسيج في حالة تأهب قصوى من أجل الحفاظ على استقرار النظام الجمهوري الإسلامي وحلفائه الإقليميين».
وأضافت مستشاري عن هوية ووظيفة الباسيج بقولها «إن الهدف الرئيسي لقوات الباسيج اليوم هو الحفاظ على الهوية الإيرانية وقيمها في مواجهة الشيطان الأكبر وحلفائه وحماية المرشد الأعلى للثورة الإسلامية والتصدي لجميع المخاطر التي تواجه إيران من البلدان المجاورة».
وهكذا يوظف هذا النظام أمواله وثروات شعبه لدعم هذه التنظيمات المتطرفة بينما يعاني الإيرانيون والشعوب الإيرانية من أزمات عميقة واحتياجات الحياة الأساسية، حيث يزيد معدل التضخم حسب الخبراء الإيرانيين أنفسهم. وفي حين يتهم رموز النظام بجرائم فساد كبيرة تبلغ المليارات، يعيش ما يقرب من مليون إيراني في مساكن غير إنسانية، وتنتشر فيه أوجاع الجوع والمرض والفساد، حسب الإعلام الإيراني نفسه.
* بين دعم إيران ومعاداة دول المنطقة
يمكن وصف الحالتين الميليشياويتين الشيعية والسنّية بأنها «جماعات دولة» لكنها موالية إيرانيًا ومعادية إسلاميًا، فهي تدافع في ناحية عن نظام الثورة الإسلامية و«ولاية الفقيه» ومصالحه وولاءاته - وفي الحالة السنّية عن أشباه دول غير معترف بها هي إمارات دينية مثل «داعش» وطالبان، ومن ناحية أخرى تجابه وتستنزف الدول المعادية والمعتدلة وتريد «الانقلاب» عليها وتراها جميعا نتاجا لما بعد سايكس بيكو في العالم العربي والإسلامي، وطاغوتًا يحكم بغير ما أنزل الله ويوالي أعداءه!
وفي فكرة الانقلاب تتقارب كل الجماعات، سنية وشيعية. وليس ما فعلته جماعة الحوثي (أو «أنصار الله») من مايو 2014 بغزو دماج المجاورة، ثم احتلال عمران ثم محاصرة العاصمة صنعاء والحكومة في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه بحجة رفع أسعار الوقود وإقالة الحكومة في البداية، إلا انقلابًا مرحليًا تم بمحاصرة الرئاسة ومؤسسات الدولة في ديسمبر (كانون الأول) 2014، ثم جاءت مطاردتها بعد فبراير (شباط) 2015 إلا تعبيرا عن هذا الانقلاب المعتقد لدى جماعات شيعية كما هو موجود أساسا وسلوكا ومنهجا للتغيير بشكل واضح لدى الجماعات السنية المتشددة مثل تنظيمي «الجهاد الإسلامي» وحزب التحرير الإسلامي الذي اشتهر بمركزية هدف الخلافة ومنهج «الانقلاب» عنده.
وفي المقابل فإن الجماعات السنية والشيعية ليست جماعات «دعوة وهداية روحية» غالبا، بل مؤسسات تجنيد تنظيمي ووجداني وسلوكي يقوم على أساس السمع والطاعة، بينما جهد الهداية الروحية والجوانية تتصوره جهدًا تقليديًا تتركه للتقليديين، بل يتطور مفهوم الهداية عندها إلى «خارجية» يسميها المراقبون «التجنيد» وهو يشبه ما كان يراه الخوارج من مغادرة «القعود» و«الهجرة» إلى الميدان والقتل والقتال، وقد يكفرون على ذلك كما كان يكفّر الخوارج الأزارقة.
* من الوفاق للصدام في سوريا
حتى فاصل الثورة السورية التي انطلقت مدنية لا عنفية من براءة أطفال درعا في مارس (آذار) 2011 كان هناك تحالف غير معلن ومشبوه بين الاتجاهين، لم يغيره إلا استباق الميليشيات الشيعية لنصرة نظام بشار الأسد ضد ثورة شعبه ضده.
وهي حقًا بدأت مدنية ولم تتعسكر ابتداء إلا بانشقاقات ضباط عن جيشه مثلها الضابط الراحل حسين هرموش في يوليو (تموز) 2011، ثم رياض الأسعد في أكتوبر (تشرين الأول) 2011. وهذه الانشقاقات حصلت رفضا للفظائع والجرائم التي ارتكبتها الميليشيات الشيعية أو الميليشيات الطائفية بحق المدنيين السوريين، والتي مثل قدومها المبكر من أبريل (نيسان) 2011 مبررًا وحافزًا لدخول «جبهة النصرة» المنسوبة للسنة، والتي انقسمت بينها وبين «داعش» فيما بعد، وأسلمة وطوأفة الصراع بعد عسكرته، الذي مثل عبئًا على ثورة هدفت للديمقراطية ومبادئ التقدم والمواطنة والمساواة التي ترفضها وتعارضها الميليشيات الطائفية الشيعية والسنّية على السواء كما يعارضها بشار الأسد.
ولا تزال الميليشيات الشيعية والسنّية تخوض معاركها في هذه الساحة التي فجر اشتعالها النيران في سائر بلدان المنطقة، خاصة عامي 2014 و2015، بعد إعلان «داعش» «الخلافة» المزعومة وسيطرته على الموصل وبضع محافظات سنّية عراقية. ومن ثم، بعد شنه عملياته في سائر أنحاء المنطقة والعالم - باستثناء إيران - وتنشيطه فروعه بحثًا عن ملاذات آمنة وبؤر توحش جديدة في ليبيا ومصر وعمليات استنزافية بطول العالم وعرضه، بعد أن أصبحت ملهمة لسائر المجموعات الإرهابية، وجاذبة لـ«الخلايا النائمة» و«الذئاب المنفردة» في المنطقة والعالم. وكما مثّل زلزال الانتفاضات العربية فرصًا هائلة وضخمة للمتشددين العرب السنة، مثل كذلك حضورًا ومكسبًا كبيرًا لإيران ومتشدديها الشيعة بشكل واضح.
* فارق المرجعية بين السنة والشيعة
والحقيقة أنه لا توجد في العالم الإسلامي السنّي مرجعية واحدة، بل ثمة مرجعيات متعدّدة وفضاء مفتوح من المفتين، يرجع إليهم الأفراد بحريّة كاملة، قد يكونون رسميين أو غير رسميين. ولا يمثل تقليدهم أو اتباعهم إلزامًا عقديًا لدى السنة، بل لدى المؤمنين والتابعين لهم من أبناء السنة. وهذا ما يجعل الفضاء الديني السنّي واسعًا وفضفاضا، يصعد فيه الاختلاف والتنوّع وتصعد فيه وجوه جديدة. وكما تستمر فيه وجوه وتصعد فيه أصوات وتخفت من آن لآخر، قد تصعد فيه بعض أفكار التطرف حرة طليقة بعيدًا، في شكل تنظيمات ذات أدبيات ومرجعيات خاصة، أو فتاوى فردية لأفراد في مسائل معينة، لكنها لا تمثل في الغالب عن المؤسسة الرسمية تاريخيا التي تتفق في طرحها وممارساتها مع توجّهات الدولة التي يكفرها هؤلاء.
ولا تمثل المؤسسة الدينية الرسمية في العالم السنّي - مثل الأزهر ووزارات الأوقاف وهيئات العلماء ومجامع البحوث - إلا كيانات مرتبطة بالدولة وإدارة الشأن الديني العام وتنظيم أمر المساجد والمعاهد وترتيب شؤونها وموظفيها وتحديد مناهجها ومراجعة ما يتعلق بالشأن الديني من قرارات أو قوانين، وخاصة تلك ذات الصفة الرسمية، أو يرتبط بها ورؤاها وأفرادها.
على العكس من ذلك، تمثل المرجعية وتقليدها اعتقادًا وتوجيهًا والتزامًا عند الطائفة الشيعية الإمامية. إلا أنها ظلت ساكنة وتقليدية ومحافظة حتى ظهور حراكها مع «ولاية الفقيه» عن طريق الخميني (توفي سنة 1989) الذي نجح في التمكين لمرجعيته وتفجير الثورة من سواكن التقليد بالتعاون مع القوى المدنية والسياسية المعارضة للشاه، ثم صفّى تلك القوى وأخرجها من الساحة فيما بعد، وصارت الدولة التي أنشأها تمثل مرجعية وولاء دينيًا قبل أن تكون ولاء دينيًا وسياسيا.
ومع الخميني، وبعده «المرشد» الحالي علي خامنئي، ظلت مرجعية «الولي الفقيه» ملزمة للمؤمنين بها. ونجحت في إقصاء سواها، وخاصة المعتدلين في الفضاء الشيعي، وطرد المعترضين على توجهاتها، مثل آية الله حسين منتظري، نائب الخميني الأسبق، الذي يحاكم ابنه من قبل خامنئي ونظامه الآن، كما سبق أن أقصى حفيد الخميني نفسه من الانتخابات السابقة، لاتهامه بالاعتدال، ومعارضة «الولي الفقيه» أو التحفظ عليه. واليوم تكتظ السجون الإيرانية بالمئات الذين ينحرفون قليلا عن توجهاته، كما لا يزال «الإصلاحيون» وقادة «الحركة الخضراء» التي برزت في انتخابات 2009 قيد الإقامة الجبرية، وتعني البيعة والسمع والطاعة له الإيمان والإخلاص لـ«الثورة الإسلامية» و«الإمامة» معًا، كما صرح قبيل الانتخابات الأخيرة للبرلمان وهيئة «مصلحة تشخيص النظام» ويصرح دائما.
ومثلما يطرد «الولي الفقيه» من بلاطه وسلطانه كل المتحفّظين عن أو المعترضين على توجهاته، حتى من أبناء «الثورة الإسلامية» الإيرانية، تطرد الجماعات السنّية المتشددة المنشقين عليها أو المعترضين على أوامر «أمرائها». إذ ليس للخلاف مكان في فكر الجهتين، وليس للشورى مكان إلا في تنفيذ الأوامر وتحقيق الأهداف.
ختامًا، بينما يبدو التنظيم السنّي المتشدّد نظامًا للسمع والطاعة خارج الأطر الرسمية وضد توجهات الدول في العالم العربي والإسلامي، واستنزافًا وإنهاكًا مستمرا لها، تبدو التنظيمات الشيعية المتشددة في حضن الدولة والنظام الإيراني وجزءًا فاعلاً وجوهريا من أولوياته، وتدين لـ«أميره» الذي هو «الولي الفقيه» بالسمع والطاعة كذلك. وبينما تكون مرجعية «الولي الفقيه» رسمية وأساسية وشعبية في شكل تنظيم يشبه الدولة، تمثل سلطة «الأمير» المرجعية الوحيدة لدى التنظيمات السنّية المتشددة.
والجهتان قادرتان على طرد وإقصاء مخالفيها وتحقيق ما تريدانه من عناصرهما وأتباعهما. لكن بينما التنظيمات السنّية ترفض السياسة وتكفر بها وبمفرداتها، وتبدو محشورة ومحصورة في أهداف التنظيم الضيقة، فتضرب خبط عشواء حيثما استطاعت وفي كل مكان، نرى التنظيمات الشيعية جزءًا من استراتيجية دولة وثورة إسلامية عالمية هي الثورة الإيرانية، ومن نزوع سياسي وتوسّعي وتدخلي لا يرفض السياسة بل يوظفها، وبالتالي فهي لا تمتلك أهدافًا خاصة، ولا تستنزف جهودها وأعداءها إلا فيما يخدم مصالح نظام طهران وحلفائه وتوجهاتهم كما هو ماثل اليوم في سوريا واليمن والعراق ولبنان وغيرها.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».