الفوارق بين الجماعات المقاتلة السنّية والشيعية

أمام دورَي المرجعية والدولة

قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
TT

الفوارق بين الجماعات المقاتلة السنّية والشيعية

قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)

إن حمل السلاح في سبيل الإيمان الديني ليس مفهوما سنيًا فقط، بل تؤمن به كل الفرق الإسلامية، وكما هو حاضر في جماعات منسوبة للسنة، مثل تنظيمات الجهاد والقاعدة وداعش وغيرها، فهو حاضر في غيرها، وخاصة لدى التنظيمات الشيعية الحركية المسلحة مثل «حزب الله» (لبنان) و«أنصار الله» (اليمن) و«الحشد الشعبي» و«عصائب الحق» و«سرايا الأشتر» وألوية «أبو الفضل العباس» (العراق) و«فاطميون» الذي أسس في مايو (أيار) 2015 و«حزب الله في سوريا» الذي أسس في يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، وعشرات غيرها من الجماعات المتطرفة المرتبطة بـ«أمير» و«مرشد» لها و«ولي فقيه» يمثل مرجعية ملزمة لدى قادتها وأعضائها، مهما تعددت بلدانها ومناطقها أو اختلفت ساحاتها.
تلتقي الفئتان المسلحتان من التنظيمات السنية والشيعية المتشددة التي ترفع لواء الدين في التفافها حول «أمير» و«رمز» أو «ولي فقيه عالم» تدين له بالسمع والطاعة والتقليد. ولكن بينما تتوزع التنظيمات السنّية المعولمة على تنظيم داعش الصاعد والقاعدة المتراجع بعد زعامة أيمن الظواهري، تبدو الجماعات – أو قل الميليشيات – الشيعية أكثر صلابة في التفافها حول «مركز» واحد و«أمير» واحد تأتمر بأمره وتوجهاته دون سواه هو «مرشد الثورة الإيرانية» وليس غيره، أو من يفوضه عنه ويرتبط به.
* التشابه في الخطاب
دائما ما تتشابه المنطلقات والشعارات في كلا الخطابين المتشددين السني والشيعي، من دعاء «الموت لأميركا» و«الغرب» مرورًا بـ«مواجهة التغريب» و«الشيطان الأكبر» إلى دعوى «تحرير القدس» - التي لم يخوضوا معركة حقيقية من أجلها - ووصولاً إلى «الحكومة» و«الحاكمية الإسلامية» كما صكها أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وآية الله الخميني في كتاباتهم، ويوصف القتلى في كلا الفريقين بـ«الشهداء».
لكن بينما الجماعات السنّية المسلحة جماعات معادية تناهض الدول والأنظمة السنّية التي تنتمي إليها، يحتضن نظام «الولي الفقيه» الإيراني الميليشيات الشيعية ويدعمها أذرعًا ووكلاء لتوسعاته وتدخلاته في شؤون المنطقة وانقلابًا على أعدائه فيها. ولقد صرحت نعيمة مستشاري المرشدة الطلابية لقوات «الباسيج» - التي أسسها الخميني عام 1979 ويعتبر الحرس الثوري «الباسدران» أحد فروعها - لراديو فردا الفارسي في 23 ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن هذه الروح بقولها إن «الباسيج ليس مجرد اسم أو منظمة، بل هو جيش مكوّن من 80 مليون شخص هم عدد أفراد المجتمع الإيراني، وهذا الجيش هو الدرع الحامي للثورة الإسلامية والذي ينفذ أهدافها ومخططاتها داخل إيران وخارجها. لا بد أن يكون جيش الباسيج في حالة تأهب قصوى من أجل الحفاظ على استقرار النظام الجمهوري الإسلامي وحلفائه الإقليميين».
وأضافت مستشاري عن هوية ووظيفة الباسيج بقولها «إن الهدف الرئيسي لقوات الباسيج اليوم هو الحفاظ على الهوية الإيرانية وقيمها في مواجهة الشيطان الأكبر وحلفائه وحماية المرشد الأعلى للثورة الإسلامية والتصدي لجميع المخاطر التي تواجه إيران من البلدان المجاورة».
وهكذا يوظف هذا النظام أمواله وثروات شعبه لدعم هذه التنظيمات المتطرفة بينما يعاني الإيرانيون والشعوب الإيرانية من أزمات عميقة واحتياجات الحياة الأساسية، حيث يزيد معدل التضخم حسب الخبراء الإيرانيين أنفسهم. وفي حين يتهم رموز النظام بجرائم فساد كبيرة تبلغ المليارات، يعيش ما يقرب من مليون إيراني في مساكن غير إنسانية، وتنتشر فيه أوجاع الجوع والمرض والفساد، حسب الإعلام الإيراني نفسه.
* بين دعم إيران ومعاداة دول المنطقة
يمكن وصف الحالتين الميليشياويتين الشيعية والسنّية بأنها «جماعات دولة» لكنها موالية إيرانيًا ومعادية إسلاميًا، فهي تدافع في ناحية عن نظام الثورة الإسلامية و«ولاية الفقيه» ومصالحه وولاءاته - وفي الحالة السنّية عن أشباه دول غير معترف بها هي إمارات دينية مثل «داعش» وطالبان، ومن ناحية أخرى تجابه وتستنزف الدول المعادية والمعتدلة وتريد «الانقلاب» عليها وتراها جميعا نتاجا لما بعد سايكس بيكو في العالم العربي والإسلامي، وطاغوتًا يحكم بغير ما أنزل الله ويوالي أعداءه!
وفي فكرة الانقلاب تتقارب كل الجماعات، سنية وشيعية. وليس ما فعلته جماعة الحوثي (أو «أنصار الله») من مايو 2014 بغزو دماج المجاورة، ثم احتلال عمران ثم محاصرة العاصمة صنعاء والحكومة في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه بحجة رفع أسعار الوقود وإقالة الحكومة في البداية، إلا انقلابًا مرحليًا تم بمحاصرة الرئاسة ومؤسسات الدولة في ديسمبر (كانون الأول) 2014، ثم جاءت مطاردتها بعد فبراير (شباط) 2015 إلا تعبيرا عن هذا الانقلاب المعتقد لدى جماعات شيعية كما هو موجود أساسا وسلوكا ومنهجا للتغيير بشكل واضح لدى الجماعات السنية المتشددة مثل تنظيمي «الجهاد الإسلامي» وحزب التحرير الإسلامي الذي اشتهر بمركزية هدف الخلافة ومنهج «الانقلاب» عنده.
وفي المقابل فإن الجماعات السنية والشيعية ليست جماعات «دعوة وهداية روحية» غالبا، بل مؤسسات تجنيد تنظيمي ووجداني وسلوكي يقوم على أساس السمع والطاعة، بينما جهد الهداية الروحية والجوانية تتصوره جهدًا تقليديًا تتركه للتقليديين، بل يتطور مفهوم الهداية عندها إلى «خارجية» يسميها المراقبون «التجنيد» وهو يشبه ما كان يراه الخوارج من مغادرة «القعود» و«الهجرة» إلى الميدان والقتل والقتال، وقد يكفرون على ذلك كما كان يكفّر الخوارج الأزارقة.
* من الوفاق للصدام في سوريا
حتى فاصل الثورة السورية التي انطلقت مدنية لا عنفية من براءة أطفال درعا في مارس (آذار) 2011 كان هناك تحالف غير معلن ومشبوه بين الاتجاهين، لم يغيره إلا استباق الميليشيات الشيعية لنصرة نظام بشار الأسد ضد ثورة شعبه ضده.
وهي حقًا بدأت مدنية ولم تتعسكر ابتداء إلا بانشقاقات ضباط عن جيشه مثلها الضابط الراحل حسين هرموش في يوليو (تموز) 2011، ثم رياض الأسعد في أكتوبر (تشرين الأول) 2011. وهذه الانشقاقات حصلت رفضا للفظائع والجرائم التي ارتكبتها الميليشيات الشيعية أو الميليشيات الطائفية بحق المدنيين السوريين، والتي مثل قدومها المبكر من أبريل (نيسان) 2011 مبررًا وحافزًا لدخول «جبهة النصرة» المنسوبة للسنة، والتي انقسمت بينها وبين «داعش» فيما بعد، وأسلمة وطوأفة الصراع بعد عسكرته، الذي مثل عبئًا على ثورة هدفت للديمقراطية ومبادئ التقدم والمواطنة والمساواة التي ترفضها وتعارضها الميليشيات الطائفية الشيعية والسنّية على السواء كما يعارضها بشار الأسد.
ولا تزال الميليشيات الشيعية والسنّية تخوض معاركها في هذه الساحة التي فجر اشتعالها النيران في سائر بلدان المنطقة، خاصة عامي 2014 و2015، بعد إعلان «داعش» «الخلافة» المزعومة وسيطرته على الموصل وبضع محافظات سنّية عراقية. ومن ثم، بعد شنه عملياته في سائر أنحاء المنطقة والعالم - باستثناء إيران - وتنشيطه فروعه بحثًا عن ملاذات آمنة وبؤر توحش جديدة في ليبيا ومصر وعمليات استنزافية بطول العالم وعرضه، بعد أن أصبحت ملهمة لسائر المجموعات الإرهابية، وجاذبة لـ«الخلايا النائمة» و«الذئاب المنفردة» في المنطقة والعالم. وكما مثّل زلزال الانتفاضات العربية فرصًا هائلة وضخمة للمتشددين العرب السنة، مثل كذلك حضورًا ومكسبًا كبيرًا لإيران ومتشدديها الشيعة بشكل واضح.
* فارق المرجعية بين السنة والشيعة
والحقيقة أنه لا توجد في العالم الإسلامي السنّي مرجعية واحدة، بل ثمة مرجعيات متعدّدة وفضاء مفتوح من المفتين، يرجع إليهم الأفراد بحريّة كاملة، قد يكونون رسميين أو غير رسميين. ولا يمثل تقليدهم أو اتباعهم إلزامًا عقديًا لدى السنة، بل لدى المؤمنين والتابعين لهم من أبناء السنة. وهذا ما يجعل الفضاء الديني السنّي واسعًا وفضفاضا، يصعد فيه الاختلاف والتنوّع وتصعد فيه وجوه جديدة. وكما تستمر فيه وجوه وتصعد فيه أصوات وتخفت من آن لآخر، قد تصعد فيه بعض أفكار التطرف حرة طليقة بعيدًا، في شكل تنظيمات ذات أدبيات ومرجعيات خاصة، أو فتاوى فردية لأفراد في مسائل معينة، لكنها لا تمثل في الغالب عن المؤسسة الرسمية تاريخيا التي تتفق في طرحها وممارساتها مع توجّهات الدولة التي يكفرها هؤلاء.
ولا تمثل المؤسسة الدينية الرسمية في العالم السنّي - مثل الأزهر ووزارات الأوقاف وهيئات العلماء ومجامع البحوث - إلا كيانات مرتبطة بالدولة وإدارة الشأن الديني العام وتنظيم أمر المساجد والمعاهد وترتيب شؤونها وموظفيها وتحديد مناهجها ومراجعة ما يتعلق بالشأن الديني من قرارات أو قوانين، وخاصة تلك ذات الصفة الرسمية، أو يرتبط بها ورؤاها وأفرادها.
على العكس من ذلك، تمثل المرجعية وتقليدها اعتقادًا وتوجيهًا والتزامًا عند الطائفة الشيعية الإمامية. إلا أنها ظلت ساكنة وتقليدية ومحافظة حتى ظهور حراكها مع «ولاية الفقيه» عن طريق الخميني (توفي سنة 1989) الذي نجح في التمكين لمرجعيته وتفجير الثورة من سواكن التقليد بالتعاون مع القوى المدنية والسياسية المعارضة للشاه، ثم صفّى تلك القوى وأخرجها من الساحة فيما بعد، وصارت الدولة التي أنشأها تمثل مرجعية وولاء دينيًا قبل أن تكون ولاء دينيًا وسياسيا.
ومع الخميني، وبعده «المرشد» الحالي علي خامنئي، ظلت مرجعية «الولي الفقيه» ملزمة للمؤمنين بها. ونجحت في إقصاء سواها، وخاصة المعتدلين في الفضاء الشيعي، وطرد المعترضين على توجهاتها، مثل آية الله حسين منتظري، نائب الخميني الأسبق، الذي يحاكم ابنه من قبل خامنئي ونظامه الآن، كما سبق أن أقصى حفيد الخميني نفسه من الانتخابات السابقة، لاتهامه بالاعتدال، ومعارضة «الولي الفقيه» أو التحفظ عليه. واليوم تكتظ السجون الإيرانية بالمئات الذين ينحرفون قليلا عن توجهاته، كما لا يزال «الإصلاحيون» وقادة «الحركة الخضراء» التي برزت في انتخابات 2009 قيد الإقامة الجبرية، وتعني البيعة والسمع والطاعة له الإيمان والإخلاص لـ«الثورة الإسلامية» و«الإمامة» معًا، كما صرح قبيل الانتخابات الأخيرة للبرلمان وهيئة «مصلحة تشخيص النظام» ويصرح دائما.
ومثلما يطرد «الولي الفقيه» من بلاطه وسلطانه كل المتحفّظين عن أو المعترضين على توجهاته، حتى من أبناء «الثورة الإسلامية» الإيرانية، تطرد الجماعات السنّية المتشددة المنشقين عليها أو المعترضين على أوامر «أمرائها». إذ ليس للخلاف مكان في فكر الجهتين، وليس للشورى مكان إلا في تنفيذ الأوامر وتحقيق الأهداف.
ختامًا، بينما يبدو التنظيم السنّي المتشدّد نظامًا للسمع والطاعة خارج الأطر الرسمية وضد توجهات الدول في العالم العربي والإسلامي، واستنزافًا وإنهاكًا مستمرا لها، تبدو التنظيمات الشيعية المتشددة في حضن الدولة والنظام الإيراني وجزءًا فاعلاً وجوهريا من أولوياته، وتدين لـ«أميره» الذي هو «الولي الفقيه» بالسمع والطاعة كذلك. وبينما تكون مرجعية «الولي الفقيه» رسمية وأساسية وشعبية في شكل تنظيم يشبه الدولة، تمثل سلطة «الأمير» المرجعية الوحيدة لدى التنظيمات السنّية المتشددة.
والجهتان قادرتان على طرد وإقصاء مخالفيها وتحقيق ما تريدانه من عناصرهما وأتباعهما. لكن بينما التنظيمات السنّية ترفض السياسة وتكفر بها وبمفرداتها، وتبدو محشورة ومحصورة في أهداف التنظيم الضيقة، فتضرب خبط عشواء حيثما استطاعت وفي كل مكان، نرى التنظيمات الشيعية جزءًا من استراتيجية دولة وثورة إسلامية عالمية هي الثورة الإيرانية، ومن نزوع سياسي وتوسّعي وتدخلي لا يرفض السياسة بل يوظفها، وبالتالي فهي لا تمتلك أهدافًا خاصة، ولا تستنزف جهودها وأعداءها إلا فيما يخدم مصالح نظام طهران وحلفائه وتوجهاتهم كما هو ماثل اليوم في سوريا واليمن والعراق ولبنان وغيرها.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟