الفوارق بين الجماعات المقاتلة السنّية والشيعية

أمام دورَي المرجعية والدولة

قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
TT

الفوارق بين الجماعات المقاتلة السنّية والشيعية

قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)
قوات مكافحة الإرهاب الخاصة العراقية تحمل علم «داعش» بعد تحرير منطقة الكرامة في الموصل من المتطرفين (غيتي)

إن حمل السلاح في سبيل الإيمان الديني ليس مفهوما سنيًا فقط، بل تؤمن به كل الفرق الإسلامية، وكما هو حاضر في جماعات منسوبة للسنة، مثل تنظيمات الجهاد والقاعدة وداعش وغيرها، فهو حاضر في غيرها، وخاصة لدى التنظيمات الشيعية الحركية المسلحة مثل «حزب الله» (لبنان) و«أنصار الله» (اليمن) و«الحشد الشعبي» و«عصائب الحق» و«سرايا الأشتر» وألوية «أبو الفضل العباس» (العراق) و«فاطميون» الذي أسس في مايو (أيار) 2015 و«حزب الله في سوريا» الذي أسس في يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، وعشرات غيرها من الجماعات المتطرفة المرتبطة بـ«أمير» و«مرشد» لها و«ولي فقيه» يمثل مرجعية ملزمة لدى قادتها وأعضائها، مهما تعددت بلدانها ومناطقها أو اختلفت ساحاتها.
تلتقي الفئتان المسلحتان من التنظيمات السنية والشيعية المتشددة التي ترفع لواء الدين في التفافها حول «أمير» و«رمز» أو «ولي فقيه عالم» تدين له بالسمع والطاعة والتقليد. ولكن بينما تتوزع التنظيمات السنّية المعولمة على تنظيم داعش الصاعد والقاعدة المتراجع بعد زعامة أيمن الظواهري، تبدو الجماعات – أو قل الميليشيات – الشيعية أكثر صلابة في التفافها حول «مركز» واحد و«أمير» واحد تأتمر بأمره وتوجهاته دون سواه هو «مرشد الثورة الإيرانية» وليس غيره، أو من يفوضه عنه ويرتبط به.
* التشابه في الخطاب
دائما ما تتشابه المنطلقات والشعارات في كلا الخطابين المتشددين السني والشيعي، من دعاء «الموت لأميركا» و«الغرب» مرورًا بـ«مواجهة التغريب» و«الشيطان الأكبر» إلى دعوى «تحرير القدس» - التي لم يخوضوا معركة حقيقية من أجلها - ووصولاً إلى «الحكومة» و«الحاكمية الإسلامية» كما صكها أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وآية الله الخميني في كتاباتهم، ويوصف القتلى في كلا الفريقين بـ«الشهداء».
لكن بينما الجماعات السنّية المسلحة جماعات معادية تناهض الدول والأنظمة السنّية التي تنتمي إليها، يحتضن نظام «الولي الفقيه» الإيراني الميليشيات الشيعية ويدعمها أذرعًا ووكلاء لتوسعاته وتدخلاته في شؤون المنطقة وانقلابًا على أعدائه فيها. ولقد صرحت نعيمة مستشاري المرشدة الطلابية لقوات «الباسيج» - التي أسسها الخميني عام 1979 ويعتبر الحرس الثوري «الباسدران» أحد فروعها - لراديو فردا الفارسي في 23 ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن هذه الروح بقولها إن «الباسيج ليس مجرد اسم أو منظمة، بل هو جيش مكوّن من 80 مليون شخص هم عدد أفراد المجتمع الإيراني، وهذا الجيش هو الدرع الحامي للثورة الإسلامية والذي ينفذ أهدافها ومخططاتها داخل إيران وخارجها. لا بد أن يكون جيش الباسيج في حالة تأهب قصوى من أجل الحفاظ على استقرار النظام الجمهوري الإسلامي وحلفائه الإقليميين».
وأضافت مستشاري عن هوية ووظيفة الباسيج بقولها «إن الهدف الرئيسي لقوات الباسيج اليوم هو الحفاظ على الهوية الإيرانية وقيمها في مواجهة الشيطان الأكبر وحلفائه وحماية المرشد الأعلى للثورة الإسلامية والتصدي لجميع المخاطر التي تواجه إيران من البلدان المجاورة».
وهكذا يوظف هذا النظام أمواله وثروات شعبه لدعم هذه التنظيمات المتطرفة بينما يعاني الإيرانيون والشعوب الإيرانية من أزمات عميقة واحتياجات الحياة الأساسية، حيث يزيد معدل التضخم حسب الخبراء الإيرانيين أنفسهم. وفي حين يتهم رموز النظام بجرائم فساد كبيرة تبلغ المليارات، يعيش ما يقرب من مليون إيراني في مساكن غير إنسانية، وتنتشر فيه أوجاع الجوع والمرض والفساد، حسب الإعلام الإيراني نفسه.
* بين دعم إيران ومعاداة دول المنطقة
يمكن وصف الحالتين الميليشياويتين الشيعية والسنّية بأنها «جماعات دولة» لكنها موالية إيرانيًا ومعادية إسلاميًا، فهي تدافع في ناحية عن نظام الثورة الإسلامية و«ولاية الفقيه» ومصالحه وولاءاته - وفي الحالة السنّية عن أشباه دول غير معترف بها هي إمارات دينية مثل «داعش» وطالبان، ومن ناحية أخرى تجابه وتستنزف الدول المعادية والمعتدلة وتريد «الانقلاب» عليها وتراها جميعا نتاجا لما بعد سايكس بيكو في العالم العربي والإسلامي، وطاغوتًا يحكم بغير ما أنزل الله ويوالي أعداءه!
وفي فكرة الانقلاب تتقارب كل الجماعات، سنية وشيعية. وليس ما فعلته جماعة الحوثي (أو «أنصار الله») من مايو 2014 بغزو دماج المجاورة، ثم احتلال عمران ثم محاصرة العاصمة صنعاء والحكومة في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه بحجة رفع أسعار الوقود وإقالة الحكومة في البداية، إلا انقلابًا مرحليًا تم بمحاصرة الرئاسة ومؤسسات الدولة في ديسمبر (كانون الأول) 2014، ثم جاءت مطاردتها بعد فبراير (شباط) 2015 إلا تعبيرا عن هذا الانقلاب المعتقد لدى جماعات شيعية كما هو موجود أساسا وسلوكا ومنهجا للتغيير بشكل واضح لدى الجماعات السنية المتشددة مثل تنظيمي «الجهاد الإسلامي» وحزب التحرير الإسلامي الذي اشتهر بمركزية هدف الخلافة ومنهج «الانقلاب» عنده.
وفي المقابل فإن الجماعات السنية والشيعية ليست جماعات «دعوة وهداية روحية» غالبا، بل مؤسسات تجنيد تنظيمي ووجداني وسلوكي يقوم على أساس السمع والطاعة، بينما جهد الهداية الروحية والجوانية تتصوره جهدًا تقليديًا تتركه للتقليديين، بل يتطور مفهوم الهداية عندها إلى «خارجية» يسميها المراقبون «التجنيد» وهو يشبه ما كان يراه الخوارج من مغادرة «القعود» و«الهجرة» إلى الميدان والقتل والقتال، وقد يكفرون على ذلك كما كان يكفّر الخوارج الأزارقة.
* من الوفاق للصدام في سوريا
حتى فاصل الثورة السورية التي انطلقت مدنية لا عنفية من براءة أطفال درعا في مارس (آذار) 2011 كان هناك تحالف غير معلن ومشبوه بين الاتجاهين، لم يغيره إلا استباق الميليشيات الشيعية لنصرة نظام بشار الأسد ضد ثورة شعبه ضده.
وهي حقًا بدأت مدنية ولم تتعسكر ابتداء إلا بانشقاقات ضباط عن جيشه مثلها الضابط الراحل حسين هرموش في يوليو (تموز) 2011، ثم رياض الأسعد في أكتوبر (تشرين الأول) 2011. وهذه الانشقاقات حصلت رفضا للفظائع والجرائم التي ارتكبتها الميليشيات الشيعية أو الميليشيات الطائفية بحق المدنيين السوريين، والتي مثل قدومها المبكر من أبريل (نيسان) 2011 مبررًا وحافزًا لدخول «جبهة النصرة» المنسوبة للسنة، والتي انقسمت بينها وبين «داعش» فيما بعد، وأسلمة وطوأفة الصراع بعد عسكرته، الذي مثل عبئًا على ثورة هدفت للديمقراطية ومبادئ التقدم والمواطنة والمساواة التي ترفضها وتعارضها الميليشيات الطائفية الشيعية والسنّية على السواء كما يعارضها بشار الأسد.
ولا تزال الميليشيات الشيعية والسنّية تخوض معاركها في هذه الساحة التي فجر اشتعالها النيران في سائر بلدان المنطقة، خاصة عامي 2014 و2015، بعد إعلان «داعش» «الخلافة» المزعومة وسيطرته على الموصل وبضع محافظات سنّية عراقية. ومن ثم، بعد شنه عملياته في سائر أنحاء المنطقة والعالم - باستثناء إيران - وتنشيطه فروعه بحثًا عن ملاذات آمنة وبؤر توحش جديدة في ليبيا ومصر وعمليات استنزافية بطول العالم وعرضه، بعد أن أصبحت ملهمة لسائر المجموعات الإرهابية، وجاذبة لـ«الخلايا النائمة» و«الذئاب المنفردة» في المنطقة والعالم. وكما مثّل زلزال الانتفاضات العربية فرصًا هائلة وضخمة للمتشددين العرب السنة، مثل كذلك حضورًا ومكسبًا كبيرًا لإيران ومتشدديها الشيعة بشكل واضح.
* فارق المرجعية بين السنة والشيعة
والحقيقة أنه لا توجد في العالم الإسلامي السنّي مرجعية واحدة، بل ثمة مرجعيات متعدّدة وفضاء مفتوح من المفتين، يرجع إليهم الأفراد بحريّة كاملة، قد يكونون رسميين أو غير رسميين. ولا يمثل تقليدهم أو اتباعهم إلزامًا عقديًا لدى السنة، بل لدى المؤمنين والتابعين لهم من أبناء السنة. وهذا ما يجعل الفضاء الديني السنّي واسعًا وفضفاضا، يصعد فيه الاختلاف والتنوّع وتصعد فيه وجوه جديدة. وكما تستمر فيه وجوه وتصعد فيه أصوات وتخفت من آن لآخر، قد تصعد فيه بعض أفكار التطرف حرة طليقة بعيدًا، في شكل تنظيمات ذات أدبيات ومرجعيات خاصة، أو فتاوى فردية لأفراد في مسائل معينة، لكنها لا تمثل في الغالب عن المؤسسة الرسمية تاريخيا التي تتفق في طرحها وممارساتها مع توجّهات الدولة التي يكفرها هؤلاء.
ولا تمثل المؤسسة الدينية الرسمية في العالم السنّي - مثل الأزهر ووزارات الأوقاف وهيئات العلماء ومجامع البحوث - إلا كيانات مرتبطة بالدولة وإدارة الشأن الديني العام وتنظيم أمر المساجد والمعاهد وترتيب شؤونها وموظفيها وتحديد مناهجها ومراجعة ما يتعلق بالشأن الديني من قرارات أو قوانين، وخاصة تلك ذات الصفة الرسمية، أو يرتبط بها ورؤاها وأفرادها.
على العكس من ذلك، تمثل المرجعية وتقليدها اعتقادًا وتوجيهًا والتزامًا عند الطائفة الشيعية الإمامية. إلا أنها ظلت ساكنة وتقليدية ومحافظة حتى ظهور حراكها مع «ولاية الفقيه» عن طريق الخميني (توفي سنة 1989) الذي نجح في التمكين لمرجعيته وتفجير الثورة من سواكن التقليد بالتعاون مع القوى المدنية والسياسية المعارضة للشاه، ثم صفّى تلك القوى وأخرجها من الساحة فيما بعد، وصارت الدولة التي أنشأها تمثل مرجعية وولاء دينيًا قبل أن تكون ولاء دينيًا وسياسيا.
ومع الخميني، وبعده «المرشد» الحالي علي خامنئي، ظلت مرجعية «الولي الفقيه» ملزمة للمؤمنين بها. ونجحت في إقصاء سواها، وخاصة المعتدلين في الفضاء الشيعي، وطرد المعترضين على توجهاتها، مثل آية الله حسين منتظري، نائب الخميني الأسبق، الذي يحاكم ابنه من قبل خامنئي ونظامه الآن، كما سبق أن أقصى حفيد الخميني نفسه من الانتخابات السابقة، لاتهامه بالاعتدال، ومعارضة «الولي الفقيه» أو التحفظ عليه. واليوم تكتظ السجون الإيرانية بالمئات الذين ينحرفون قليلا عن توجهاته، كما لا يزال «الإصلاحيون» وقادة «الحركة الخضراء» التي برزت في انتخابات 2009 قيد الإقامة الجبرية، وتعني البيعة والسمع والطاعة له الإيمان والإخلاص لـ«الثورة الإسلامية» و«الإمامة» معًا، كما صرح قبيل الانتخابات الأخيرة للبرلمان وهيئة «مصلحة تشخيص النظام» ويصرح دائما.
ومثلما يطرد «الولي الفقيه» من بلاطه وسلطانه كل المتحفّظين عن أو المعترضين على توجهاته، حتى من أبناء «الثورة الإسلامية» الإيرانية، تطرد الجماعات السنّية المتشددة المنشقين عليها أو المعترضين على أوامر «أمرائها». إذ ليس للخلاف مكان في فكر الجهتين، وليس للشورى مكان إلا في تنفيذ الأوامر وتحقيق الأهداف.
ختامًا، بينما يبدو التنظيم السنّي المتشدّد نظامًا للسمع والطاعة خارج الأطر الرسمية وضد توجهات الدول في العالم العربي والإسلامي، واستنزافًا وإنهاكًا مستمرا لها، تبدو التنظيمات الشيعية المتشددة في حضن الدولة والنظام الإيراني وجزءًا فاعلاً وجوهريا من أولوياته، وتدين لـ«أميره» الذي هو «الولي الفقيه» بالسمع والطاعة كذلك. وبينما تكون مرجعية «الولي الفقيه» رسمية وأساسية وشعبية في شكل تنظيم يشبه الدولة، تمثل سلطة «الأمير» المرجعية الوحيدة لدى التنظيمات السنّية المتشددة.
والجهتان قادرتان على طرد وإقصاء مخالفيها وتحقيق ما تريدانه من عناصرهما وأتباعهما. لكن بينما التنظيمات السنّية ترفض السياسة وتكفر بها وبمفرداتها، وتبدو محشورة ومحصورة في أهداف التنظيم الضيقة، فتضرب خبط عشواء حيثما استطاعت وفي كل مكان، نرى التنظيمات الشيعية جزءًا من استراتيجية دولة وثورة إسلامية عالمية هي الثورة الإيرانية، ومن نزوع سياسي وتوسّعي وتدخلي لا يرفض السياسة بل يوظفها، وبالتالي فهي لا تمتلك أهدافًا خاصة، ولا تستنزف جهودها وأعداءها إلا فيما يخدم مصالح نظام طهران وحلفائه وتوجهاتهم كما هو ماثل اليوم في سوريا واليمن والعراق ولبنان وغيرها.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.