تعامل ملتبس لـ«داعش» مع الغطاء الديني في هجماته

ما يُقرأ من عملية رأس السنة في إسطنبول

قناصل من 21 دولة ينعون ضحايا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
قناصل من 21 دولة ينعون ضحايا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
TT

تعامل ملتبس لـ«داعش» مع الغطاء الديني في هجماته

قناصل من 21 دولة ينعون ضحايا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
قناصل من 21 دولة ينعون ضحايا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول (غيتي)

الهجمة الإرهابية التي استهدفت مطعمًا وناديًا في مدينة إسطنبول التركية ليلة رأس السنة، وإن كانت امتدادًا لاستراتيجية داعشية تستهدف المحافل الدينية والاحتفالات، فلقد جاء اختيار بداية العام تحديدًا «رسالة إنذار» بوجود خطة مستقبلية تعرض تركيا لموجة مستمرة من الهجمات الإرهابية. وهذه الهجمات عزز مبرراتها الموقع الجغرافي لتركيا وحدودها مع سوريا والعراق، الأمر الذي سهل عبور المقاتلين المتطرفين من خلال تركيا من أجل الوصول إلى المناطق المضطربة التي تعد مقرًا للتنظيمات كـ«داعش».
لعل التوجّه التركي لمواجهة تنظيم داعش وتنفيذ حملات عسكرية في كل من العراق وسوريا كان أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى استهداف تركيا. وإذا كان التنظيم الإرهابي المتطرف قد بدأ في تنفيذ هجمات إرهابية منذ عام 2015، فإن الفترة الأخيرة تنذر بتكثيف لهذه الهجمات. وهذا، بعدما جدد البرلمان التركي في أكتوبر (تشرين الأول) 2016 تفويضه للحكومة التركية بإرسال قوات مسلحة في الخارج، تحديدًا في كل من سوريا والعراق، على أن ينتهي التمديد في نهاية أكتوبر 2017.
المعروف أن هدف أنقرة هو إقامة «منطقة أمنية» خالية من المنظمات الإرهابية، كما صرح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وضرب التنظيمات الإرهابية كـ«داعش» في عقر دارها. وبالفعل، عكف الجيش التركي على تنفيذ حملات عسكرية في سوريا تحت مسمى عملية «درع الفرات»، بينما انتشرت القوات التركية في قاعدة بعشيقة، بمحافظة نينوى في شمال العراق، لتدريب متطوعين من أجل استعادة السيطرة على مدينة الموصل المجاورة.
هذا الواقع ربما صار سببًا رئيسًا لرغبة «داعش» في تكثيف هجماته على تركيا في محاولة للضغط عليها، ولو عبر عمليات عشوائية تستخدم تقنيات متواضعة نسبيًا كمباغتة شخص مسلح مكانًا مكتظًا بالناس وإطلاق النار عليهم.
في الواقع لا يعد استهداف «داعش» في الآونة الأخيرة لتركيا تطورًا مفاجئًا، إذ إنه اجتهد في إعداد رسائل إعلامية كثيرة من خلال مواقعه الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي لإبراز عزمه على ذلك. هذه الرسائل بدأت من رأس هرم التنظيم المتطرف عبر بث تسجيل صوتي لزعيم «داعش» «أبو بكر البغدادي» في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، بعنوان «هذا ما وعدنا الله ورسوله». وفيه دعا البغدادي أتباعه إلى «غزو» تركيا ومهاجمة مصالحها. ومثل هذا الظهور الإعلامي للزعيم الداعشي كان مفاجئًا؛ إذ إنه لا يظهر إلا نادرًا. وكانت آخر رسالة صوتية له في ديسمبر (كانون الأول) 2015، وذلك للتأكيد على استمرار قوة التنظيم وعدم تأثره بالضربات الجوية التي تشنها روسيا وقوات التحالف عليه.
بناء عليه، جاء التسجيل الصوتي الأخير للبغدادي كإنذار بعزمٍ جدي على الهجمات وتحريض أعضاء التنظيم والمتعاطفين معه بطاعته والانصياع له.
* التباس داعشي لافت
ظاهريًا على الأقل، تبرز محاولة البغدادي استثارة المنتمين لـ«داعش» للمبادرة إلى مهاجمة تركيا ذات مضمون ديني صارخ في خطابه الموجه لهم، إذ قال: «أيها الموحِّدون، دخلت تركيا اليوم في دائرة عملكم ومشروع جهادك فاستعينوا بالله واغزوها، واجعلوا أمنها فزعًا، ورخاءها هلعًا، ثم أدرجوها في مناطق صراعكم الملتهبة». واستطرد زعيم «داعش» في تحريضه وحضه قائلاً: «يا أجناد الخلافة في أرض الشام، ها قد جاءكم الجندي التركي الكافر، وإن دم أحدهم كدم الكلب خسة ورداءة، فأروهم بطشكم واصلوهم بنار غضبكم وخذوا بثأر دينكم وتوحيدكم من إخوان الشياطين وقدوة المرتدين وحلفاء الملحدين».
ولكن إذا ما كان خطاب البغدادي موجّهًا إلى «أهل السنة» ومصرّحًا فيه كعادته على أن تنظيمه هو «الملجأ» الوحيد لهم، يلاحظ إشكالية لافتة والتباس غريب في تعاقب الرسائل الداعشية ما بين التقليدية التي تستخدم شعارات دينية تبرر بها أسباب إتيانها هجماتها الإرهابية، ووجود رسائل داعشية أخرى تبتعد عن الغطاء الديني لتصبح أشبه بمواجهة مباشرة بين التنظيم وتركيا. وحقًا، أشار البغدادي في خطابه الأخير إلى دور أنقرة في معركة الموصل كسبب لمهاجمة تركيا، بمطالبته مقاتلي «داعش» بأن يطلقوا «نار غضبهم» على تركيا ونقل المعركة إليها.
من جهة أخرى، قد يكون الظهور الإعلامي للبغدادي وتحريضه أتباعه نتيجة نجاحهم في تنفيذ عدد من الهجمات الإرهابية في تركيا في عام 2016، ليظهر أشبه بفارس مغوار تمكن من تحقيق انتصارات في الهجمات السابقة وسيستمر مستقبلاً. وتعد حادثة مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، التي حدثت يوم 28 يونيو (حزيران) 2016، أبرز تلك الهجمات وتسببت يومذاك بمقتل 43 شخصًا. ثم إن تلك الهجمة تعد الأكثر نجاحًا على صعيد التنظيم؛ كونها استهدفت مطارًا لمدينة مهمة وأكثر استقطابًا للسياح، ما سهل من مهمة إثارة الرعب وضرب تركيا سياحيًا. كذلك يعد المطار رمزًا «علمانيًا» بحمله اسم مصطفى كمال أتاتورك، أحد أبرز مؤسسي تركيا العلمانية الحديثة، وبالتالي، اكتسب استهدافه إشارة رمزية إلى تهديد «داعش» لنظام تركيا السياسي.
* تشكيك في «إسلامية» تركيا
ثم كامتداد أبعد لهذا التوجه في التشكيك في «إسلامية» تركيا، جاء البث المرئي لـ«داعش» في 22 ديسمبر 2016 والصادر عن «المكتب الإعلامي التابع لولاية حلب»، في تصوير بشع لاختطاف جنديين تركيين وضعا داخل قفص حديدي، ومن ثم تم جرّهما خارجه وهما مقيدان بالسلاسل قبل إحراقهما وهما على قيد الحياة.
هنا كان التعمد واضحًا أن يتسبب المشهد بالصدمة ويبث الرعب بأسلوب استعراضي. وصاحب هذا البث البشع وصف أحد عناصر «داعش» باللغة التركية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بـ«الطاغوت»، وقوله إن التنظيم أصبح يعتبر تركيا «أرض جهاد»، محرّضًا على إحراق تركيا وتدميرها. في مثل هذا التصريح استخدام مباشر لرسالة سياسية واضحة. وهو يشير إلى نوعٍ من التخبط في رسائل التنظيم المتطرف المازجة ما بين الديني تارة والسياسي المباشر تارةً أخرى، مع استهداف واضح للمسلمين سواء مدنيين أو جنودا دون إعطاء مبررات دينية مقنعة أو تخوف من استثارة مثل هذه الأحداث غضب المسلمين.
وفي الوقت نفسه قد تكون الرسالة السياسية المباشرة رد فعل لمهاجمة تركيا «داعش» في معاقلها في سوريا والموصل، وفتحها قاعدة جوية عسكرية تتيح لقوات التحالف الدولي توجيه ضربات نحو التنظيم. وكان ملاحظًا في الفترة الأخيرة كيف كثّف تنظيم داعش من تحريضه المنتمين إليه ضد تركيا، ويظهر ذلك جليًا عبر المنشورات الإعلامية للتنظيم، والتي تستخدم اللغة التركية بالتحديد موجهة لأعضائهم الأتراك، ولتجنيد أعضاء أتراك جدد من جهة، ولتصل رسائل التهديد بوضوح إلى تركيا من جهة أخرى، من أبرز تلك المواقع الإلكترونية مثل موقع «دار الخلافة» ومجلة «قسطنطينة».
وفي الوقت الذي تعظم هذه المنشورات من أهمية فكرة «الخلافة الإسلامية» كملاذ لجميع المسلمين وحل لكل مشكلاتهم، ظهر توجه لـ«شخصنة» المواجهة، وتجريم إردوغان، وتوجيه الوعيد له ولرئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو. أيضًا يلاحظ وصف عناصر الجيش التركي بأنهم «كفار»، وبأن مؤسستهم «غير دينية» في «شرعنة» لمواجهتهم وقتلهم. وبالفعل جاء في بيان للتنظيم نشر في موقع «دار الخلافة» باللغة التركية تهديد مباشر لتركيا «عليكم أن تتراجعوا فورًا عن الحرب، وسحب أيديكم منها، فأميركا التي تثقون بها لن تنقذكم، وغدًا عندما تغزوكم الدولة الإسلامية، وتنفجر القنابل فجأة، لا تبكوا». ويستمر التهديد في ذات البيان «اليوم الذي يشعرون بفرحة لأنهم يوجهون ضربات للدولة الإسلامية، فغدًا لنرى ماذا سيقولون عندما يلتهم متفجراتهم أسود الخلافة».
الأمر اختلف بعض الشيء في بيان التنظيم إثر الهجوم على المطعم والنادي في إسطنبول مطلع العام الجديد، إذ ذكر «داعش» في بيان له استهدافه «احتفالاً شركيًا» في العام الجديد؛ ردًا على «استهداف الحكومة التركية للمسلمين»، إضافة إلى أن الهجوم جاء تلبية لنداء من زعيم التنظيم البغدادي لاستهداف تركيا. وبأنه يعد بـ«مواصلة العمليات المباركة التي تخوضها الدولة الإسلامية ضد تركيا حامية الصليب، وقد دك أحد جنود الخلافة الأبطال أحد أشهر الملاهي الليلية حيث يحتفل مسيحيون بعيدهم الشركي». وفي هذا السياق أظهر هذا البيان استخدام الغطاء الديني وإن تمازج ذلك مع التعبير عن الرغبة في الانتقام من الهجمات التركية الموجهة للتنظيم والاستجابة لتوجيهات قائد التنظيم.
* اعتبارات تجنيدية
مراقبون يرون في التمازج أعلاه وفي صميمه قلة تحمس «داعش» لتغيير لهجته الدينية للتركيز على شن مواجهة مباشرة مع تركيا بضعة أسباب، أهمها ما يلي:
1 - وجود قاعدة كبيرة للتنظيم داخل تركيا، قائمة من خلال مكاتب للتجنيد في عدد من المدن التركية كمدينة غازي عنتاب، الحدودية مع سوريا، كوّنت لها خلايا في مدن تركية كبرى كإسطنبول وإزمير.
2 - استهداف عملية التجنيد بشكل عام المناطق الريفية التركية التي يعرف سكانها بالبساطة ما يسهل من استقطابهم عبر الالتقاء بالمتعاطفين منهم وإقناعهم في أماكن تجمع قبل تجنيدهم دون تمحيص للرسائل الداعشية.
3 - وجود عدد من الجنسيات المختلفة المنتمية لـ«داعش» والمنفذة للهجمات الانتحارية، ممن قدموا من الرقة في سوريا أو من مناطق أخرى. إذ صرحت السلطات التركية بأن منفذ هجوم المطعم والنادي في إسطنبول، من أقلية الأويغور المسلمة الناطقة باللغة التركية في إقليم سنكيانغ في الصين - أو تركستان الشرقية - وإن تحفظت عن الكشف عن هويته، في حين كشف عن هوية منفذي هجوم مطار أتاتورك وهم ثلاثة من جنسيات روسية وأوزبكية وقرغيزستانية.
أخيرًا، إن ما زاد من خطورة الهجمات الإرهابية الأخيرة في تركيا يكمن في تقاطعها ما بين تنظيمات مختلفة. فتنظيم داعش ليس وحده من نفذ مثل هذه العمليات، إذ يأتي من جهة أخرى حزب العمال الكردستاني وإن كان الأخير لا يطلق تصريحات مباشرة كي ينسب العمليات لنفسه كما يفعل «داعش». وحقًا نسبت السلطات التركية الهجمة الإرهابية التي تلت هجوم ليلة رأس السنة بأربعة أيام مستهدفة إزمير (غرب تركيا) إلى حزب العمال الكردستاني المتطرف المحظور.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.