تعامل ملتبس لـ«داعش» مع الغطاء الديني في هجماته

ما يُقرأ من عملية رأس السنة في إسطنبول

قناصل من 21 دولة ينعون ضحايا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
قناصل من 21 دولة ينعون ضحايا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
TT

تعامل ملتبس لـ«داعش» مع الغطاء الديني في هجماته

قناصل من 21 دولة ينعون ضحايا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
قناصل من 21 دولة ينعون ضحايا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول (غيتي)

الهجمة الإرهابية التي استهدفت مطعمًا وناديًا في مدينة إسطنبول التركية ليلة رأس السنة، وإن كانت امتدادًا لاستراتيجية داعشية تستهدف المحافل الدينية والاحتفالات، فلقد جاء اختيار بداية العام تحديدًا «رسالة إنذار» بوجود خطة مستقبلية تعرض تركيا لموجة مستمرة من الهجمات الإرهابية. وهذه الهجمات عزز مبرراتها الموقع الجغرافي لتركيا وحدودها مع سوريا والعراق، الأمر الذي سهل عبور المقاتلين المتطرفين من خلال تركيا من أجل الوصول إلى المناطق المضطربة التي تعد مقرًا للتنظيمات كـ«داعش».
لعل التوجّه التركي لمواجهة تنظيم داعش وتنفيذ حملات عسكرية في كل من العراق وسوريا كان أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى استهداف تركيا. وإذا كان التنظيم الإرهابي المتطرف قد بدأ في تنفيذ هجمات إرهابية منذ عام 2015، فإن الفترة الأخيرة تنذر بتكثيف لهذه الهجمات. وهذا، بعدما جدد البرلمان التركي في أكتوبر (تشرين الأول) 2016 تفويضه للحكومة التركية بإرسال قوات مسلحة في الخارج، تحديدًا في كل من سوريا والعراق، على أن ينتهي التمديد في نهاية أكتوبر 2017.
المعروف أن هدف أنقرة هو إقامة «منطقة أمنية» خالية من المنظمات الإرهابية، كما صرح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وضرب التنظيمات الإرهابية كـ«داعش» في عقر دارها. وبالفعل، عكف الجيش التركي على تنفيذ حملات عسكرية في سوريا تحت مسمى عملية «درع الفرات»، بينما انتشرت القوات التركية في قاعدة بعشيقة، بمحافظة نينوى في شمال العراق، لتدريب متطوعين من أجل استعادة السيطرة على مدينة الموصل المجاورة.
هذا الواقع ربما صار سببًا رئيسًا لرغبة «داعش» في تكثيف هجماته على تركيا في محاولة للضغط عليها، ولو عبر عمليات عشوائية تستخدم تقنيات متواضعة نسبيًا كمباغتة شخص مسلح مكانًا مكتظًا بالناس وإطلاق النار عليهم.
في الواقع لا يعد استهداف «داعش» في الآونة الأخيرة لتركيا تطورًا مفاجئًا، إذ إنه اجتهد في إعداد رسائل إعلامية كثيرة من خلال مواقعه الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي لإبراز عزمه على ذلك. هذه الرسائل بدأت من رأس هرم التنظيم المتطرف عبر بث تسجيل صوتي لزعيم «داعش» «أبو بكر البغدادي» في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، بعنوان «هذا ما وعدنا الله ورسوله». وفيه دعا البغدادي أتباعه إلى «غزو» تركيا ومهاجمة مصالحها. ومثل هذا الظهور الإعلامي للزعيم الداعشي كان مفاجئًا؛ إذ إنه لا يظهر إلا نادرًا. وكانت آخر رسالة صوتية له في ديسمبر (كانون الأول) 2015، وذلك للتأكيد على استمرار قوة التنظيم وعدم تأثره بالضربات الجوية التي تشنها روسيا وقوات التحالف عليه.
بناء عليه، جاء التسجيل الصوتي الأخير للبغدادي كإنذار بعزمٍ جدي على الهجمات وتحريض أعضاء التنظيم والمتعاطفين معه بطاعته والانصياع له.
* التباس داعشي لافت
ظاهريًا على الأقل، تبرز محاولة البغدادي استثارة المنتمين لـ«داعش» للمبادرة إلى مهاجمة تركيا ذات مضمون ديني صارخ في خطابه الموجه لهم، إذ قال: «أيها الموحِّدون، دخلت تركيا اليوم في دائرة عملكم ومشروع جهادك فاستعينوا بالله واغزوها، واجعلوا أمنها فزعًا، ورخاءها هلعًا، ثم أدرجوها في مناطق صراعكم الملتهبة». واستطرد زعيم «داعش» في تحريضه وحضه قائلاً: «يا أجناد الخلافة في أرض الشام، ها قد جاءكم الجندي التركي الكافر، وإن دم أحدهم كدم الكلب خسة ورداءة، فأروهم بطشكم واصلوهم بنار غضبكم وخذوا بثأر دينكم وتوحيدكم من إخوان الشياطين وقدوة المرتدين وحلفاء الملحدين».
ولكن إذا ما كان خطاب البغدادي موجّهًا إلى «أهل السنة» ومصرّحًا فيه كعادته على أن تنظيمه هو «الملجأ» الوحيد لهم، يلاحظ إشكالية لافتة والتباس غريب في تعاقب الرسائل الداعشية ما بين التقليدية التي تستخدم شعارات دينية تبرر بها أسباب إتيانها هجماتها الإرهابية، ووجود رسائل داعشية أخرى تبتعد عن الغطاء الديني لتصبح أشبه بمواجهة مباشرة بين التنظيم وتركيا. وحقًا، أشار البغدادي في خطابه الأخير إلى دور أنقرة في معركة الموصل كسبب لمهاجمة تركيا، بمطالبته مقاتلي «داعش» بأن يطلقوا «نار غضبهم» على تركيا ونقل المعركة إليها.
من جهة أخرى، قد يكون الظهور الإعلامي للبغدادي وتحريضه أتباعه نتيجة نجاحهم في تنفيذ عدد من الهجمات الإرهابية في تركيا في عام 2016، ليظهر أشبه بفارس مغوار تمكن من تحقيق انتصارات في الهجمات السابقة وسيستمر مستقبلاً. وتعد حادثة مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، التي حدثت يوم 28 يونيو (حزيران) 2016، أبرز تلك الهجمات وتسببت يومذاك بمقتل 43 شخصًا. ثم إن تلك الهجمة تعد الأكثر نجاحًا على صعيد التنظيم؛ كونها استهدفت مطارًا لمدينة مهمة وأكثر استقطابًا للسياح، ما سهل من مهمة إثارة الرعب وضرب تركيا سياحيًا. كذلك يعد المطار رمزًا «علمانيًا» بحمله اسم مصطفى كمال أتاتورك، أحد أبرز مؤسسي تركيا العلمانية الحديثة، وبالتالي، اكتسب استهدافه إشارة رمزية إلى تهديد «داعش» لنظام تركيا السياسي.
* تشكيك في «إسلامية» تركيا
ثم كامتداد أبعد لهذا التوجه في التشكيك في «إسلامية» تركيا، جاء البث المرئي لـ«داعش» في 22 ديسمبر 2016 والصادر عن «المكتب الإعلامي التابع لولاية حلب»، في تصوير بشع لاختطاف جنديين تركيين وضعا داخل قفص حديدي، ومن ثم تم جرّهما خارجه وهما مقيدان بالسلاسل قبل إحراقهما وهما على قيد الحياة.
هنا كان التعمد واضحًا أن يتسبب المشهد بالصدمة ويبث الرعب بأسلوب استعراضي. وصاحب هذا البث البشع وصف أحد عناصر «داعش» باللغة التركية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بـ«الطاغوت»، وقوله إن التنظيم أصبح يعتبر تركيا «أرض جهاد»، محرّضًا على إحراق تركيا وتدميرها. في مثل هذا التصريح استخدام مباشر لرسالة سياسية واضحة. وهو يشير إلى نوعٍ من التخبط في رسائل التنظيم المتطرف المازجة ما بين الديني تارة والسياسي المباشر تارةً أخرى، مع استهداف واضح للمسلمين سواء مدنيين أو جنودا دون إعطاء مبررات دينية مقنعة أو تخوف من استثارة مثل هذه الأحداث غضب المسلمين.
وفي الوقت نفسه قد تكون الرسالة السياسية المباشرة رد فعل لمهاجمة تركيا «داعش» في معاقلها في سوريا والموصل، وفتحها قاعدة جوية عسكرية تتيح لقوات التحالف الدولي توجيه ضربات نحو التنظيم. وكان ملاحظًا في الفترة الأخيرة كيف كثّف تنظيم داعش من تحريضه المنتمين إليه ضد تركيا، ويظهر ذلك جليًا عبر المنشورات الإعلامية للتنظيم، والتي تستخدم اللغة التركية بالتحديد موجهة لأعضائهم الأتراك، ولتجنيد أعضاء أتراك جدد من جهة، ولتصل رسائل التهديد بوضوح إلى تركيا من جهة أخرى، من أبرز تلك المواقع الإلكترونية مثل موقع «دار الخلافة» ومجلة «قسطنطينة».
وفي الوقت الذي تعظم هذه المنشورات من أهمية فكرة «الخلافة الإسلامية» كملاذ لجميع المسلمين وحل لكل مشكلاتهم، ظهر توجه لـ«شخصنة» المواجهة، وتجريم إردوغان، وتوجيه الوعيد له ولرئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو. أيضًا يلاحظ وصف عناصر الجيش التركي بأنهم «كفار»، وبأن مؤسستهم «غير دينية» في «شرعنة» لمواجهتهم وقتلهم. وبالفعل جاء في بيان للتنظيم نشر في موقع «دار الخلافة» باللغة التركية تهديد مباشر لتركيا «عليكم أن تتراجعوا فورًا عن الحرب، وسحب أيديكم منها، فأميركا التي تثقون بها لن تنقذكم، وغدًا عندما تغزوكم الدولة الإسلامية، وتنفجر القنابل فجأة، لا تبكوا». ويستمر التهديد في ذات البيان «اليوم الذي يشعرون بفرحة لأنهم يوجهون ضربات للدولة الإسلامية، فغدًا لنرى ماذا سيقولون عندما يلتهم متفجراتهم أسود الخلافة».
الأمر اختلف بعض الشيء في بيان التنظيم إثر الهجوم على المطعم والنادي في إسطنبول مطلع العام الجديد، إذ ذكر «داعش» في بيان له استهدافه «احتفالاً شركيًا» في العام الجديد؛ ردًا على «استهداف الحكومة التركية للمسلمين»، إضافة إلى أن الهجوم جاء تلبية لنداء من زعيم التنظيم البغدادي لاستهداف تركيا. وبأنه يعد بـ«مواصلة العمليات المباركة التي تخوضها الدولة الإسلامية ضد تركيا حامية الصليب، وقد دك أحد جنود الخلافة الأبطال أحد أشهر الملاهي الليلية حيث يحتفل مسيحيون بعيدهم الشركي». وفي هذا السياق أظهر هذا البيان استخدام الغطاء الديني وإن تمازج ذلك مع التعبير عن الرغبة في الانتقام من الهجمات التركية الموجهة للتنظيم والاستجابة لتوجيهات قائد التنظيم.
* اعتبارات تجنيدية
مراقبون يرون في التمازج أعلاه وفي صميمه قلة تحمس «داعش» لتغيير لهجته الدينية للتركيز على شن مواجهة مباشرة مع تركيا بضعة أسباب، أهمها ما يلي:
1 - وجود قاعدة كبيرة للتنظيم داخل تركيا، قائمة من خلال مكاتب للتجنيد في عدد من المدن التركية كمدينة غازي عنتاب، الحدودية مع سوريا، كوّنت لها خلايا في مدن تركية كبرى كإسطنبول وإزمير.
2 - استهداف عملية التجنيد بشكل عام المناطق الريفية التركية التي يعرف سكانها بالبساطة ما يسهل من استقطابهم عبر الالتقاء بالمتعاطفين منهم وإقناعهم في أماكن تجمع قبل تجنيدهم دون تمحيص للرسائل الداعشية.
3 - وجود عدد من الجنسيات المختلفة المنتمية لـ«داعش» والمنفذة للهجمات الانتحارية، ممن قدموا من الرقة في سوريا أو من مناطق أخرى. إذ صرحت السلطات التركية بأن منفذ هجوم المطعم والنادي في إسطنبول، من أقلية الأويغور المسلمة الناطقة باللغة التركية في إقليم سنكيانغ في الصين - أو تركستان الشرقية - وإن تحفظت عن الكشف عن هويته، في حين كشف عن هوية منفذي هجوم مطار أتاتورك وهم ثلاثة من جنسيات روسية وأوزبكية وقرغيزستانية.
أخيرًا، إن ما زاد من خطورة الهجمات الإرهابية الأخيرة في تركيا يكمن في تقاطعها ما بين تنظيمات مختلفة. فتنظيم داعش ليس وحده من نفذ مثل هذه العمليات، إذ يأتي من جهة أخرى حزب العمال الكردستاني وإن كان الأخير لا يطلق تصريحات مباشرة كي ينسب العمليات لنفسه كما يفعل «داعش». وحقًا نسبت السلطات التركية الهجمة الإرهابية التي تلت هجوم ليلة رأس السنة بأربعة أيام مستهدفة إزمير (غرب تركيا) إلى حزب العمال الكردستاني المتطرف المحظور.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.