من التاريخ: «الموت الأسود»

توماس مالثوس
توماس مالثوس
TT

من التاريخ: «الموت الأسود»

توماس مالثوس
توماس مالثوس

وضع الكاتب واللاهوتي الإنجليزي توماس مالثوس أول نظرية بدائية شاملة حول السكان في دراسته الشهيرة «مقال حول مبادئ السكان» عام 1798، وفيها أشار إلى خطورة التطور غير المتكافئ بين سكان الأرض وقدرتهم على توفير الغذاء. ونبه لأول مرة بشكل دقيق إلى خطورة الزيادة السكانية لمستوى لا يعود للزراعة بعده أن تكفي لتغذية البشر. وضمن رسالته ذكر أن هناك الكثير من العوامل الطبيعية والسلوكية للإنسان التي أوقفت الزيادة السكانية عبر الأزمنة، متفادية بذلك الفجوة الغذائية حتى الآن، واستشهد بالأوبئة التي ضربت أوروبا من كل الاتجاهات على مدار العصور الماضية، إضافة إلى الحروب وضعف الصحة العامة، وهي كلها عوامل من شأنها وقف التزايد السكاني.
لقد كان مالثوس متأثرًا بشكل ملحوظ بانتشار وباء الطاعون في أوروبا عند منتصف القرن الرابع عشر. وحينذاك قضى هذا المرض على نحو ثلث سكان القارة، ما أعطاه وصف «الموت الأسود» الذي لم يجد أحد سبيلاً لوقف زحفه وهو يحصد الأرواح ويدفع الناس إلى سلوكيات متناقضة.
بعض المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت فسّرت ذلك الوباء، باعتباره غضبًا إلهيًا وقع على أوروبا لأنها انحرفت عن الروح الحقيقية للمسيحية، لا سيما أنه تزامن مع «الانفصال الكبير» داخل الكنيسة الكاثوليكية بوجود بابا في الفاتيكان وآخر في آفينيون (بجنوب فرنسا). وعزّز هذا الاعتقاد أن مدينة آفينيون - التي كانت تستضيف البابا الثاني كانت بين أكثر المدن تأثرًا بالطاعون في أوروبا، إذ هلك ما يقرب من نصف سكانها فيما وُصف بأنه عقاب إلهي. ولم تهتز أوروبا مثلما اهتزت لوباء الطاعون الذي لم تشهد أوروبا له مثيلاً من حيث عدد الضحايا إلا في الحرب العالمية الثانية.
لقد بدأت رحلة أوروبا مع الطاعون - أو «الموت الأسود» كما سمي في ذلك الوقت - خلال الفترة من 1347 وحتى 1350، وتجمع المراجع التاريخية على أن الناقل الرئيسي وراء تفشي الوباء في أوروبا كانت إحدى السفن الإيطالية الآتية من سواحل القوقاز. وكان الوباء قد بلغ منطقة القوقاز - وفق المراجع - من آسيا بعدما حصد أعدادًا كبيرة من سكان الصين والهند. ولقد رفضت موانئ كثيرة استقبال هذه السفينة، لكنها لم تستطع منع انتشار الوباء، فبدأ هذا الموت المتحرك مسيرته من شبه الجزيرة الإيطالية إلى فرنسا، ومنها إلى وسط أوروبا، ثم الجزر البريطانية ثم لدول الشمال. ولم ينتصف عام 1348 إلا كانت كثرة من الدول الأوروبية قد سقطت ضحية لانتشاره.
كتب التاريخ أثبتت أن هذا الطاعون الكبير، الذي ضرب أوروبا، كان مركّبًا. وأغلب الظن أنه تم تشويهه مع الوقت بعدما انتقل عبر الحشرات الموجودة في وبر الجرذان. وكان منقسمًا إلى أنواع مختلفة على رأسها الطاعون «الرئوي Pneumonic، و«البوبوني - في العقد اللمفاوية - Bubonic». وكان أخطر أنواع الطاعون النوع الأول الذي كانت العدوى تنتقل فيه عبر الهواء وبالتالي، الأكثر فتكًا لأنه كان يؤثر مباشرة على الجهاز التنفسي وما كان المصاب ليعيش أكثر من يومين أو ثلاثة على الأكثر، أما باقي الأنواع فكانت أعراضها تظهر في شكل تورمات متناثرة في الجسم سرعان ما تأخذ اللون الأسود أو الرمادي جراء النزيف الداخلي.
وعبثًا حاول الجراحون البدائيون في أوروبا التصدي للوباء بوسائل الطب التقليدي الذي لم يكن ليجدي مع هذا المرض اللعين، فلم تفلح محاولاتهم لشفط الدم الفاسد في الأورام، كما لم تفلح محاولاتهم لمواجهته بأنواع من المأكولات. ولم يفلح أيضًا السعي لتطهير الأورام عبر الأعشاب الطبيعية أو حتى الكيميائية، فحقيقة الأمر أن وضعية الطب المتخلف في ذلك الوقت لم يكن أمامها أي فرصة لمواجهة هذا الوباء.
آثار الوباء كانت حقًا كارثية. وبالأخص، أن كثيرين - كما سبقت الإشارة - اعتبره أنه غضب من المولى سبحانه وتعالي لسوء السلوكيات، وقارنوا بين أحوالهم وما ورد في «العهد القديم» (التوراة) عندما ابتلى الله فرعون وشعبه جراء ظلمهم لبني إسرائيل. في حين فسره بعض المسيحيين على أنه التمهيد الإلهي ليوم القيامة وهو ما جعل الملايين يستعدون لنهاية العالم والعودة الثانية للسيد المسيح تمهيدًا للوقوف أمام بارئهم.
ولكن هذا لم يكن الشعور لدى الجميع، إذ أدى انتشار هذا المرض إلى سلوك متناقض بعض الشيء لدي كثيرين ظنوا أن نهاية العالم رخصت لهم اقتراف المعاصي والمفاسد والفجور على أساس أن أيامهم في الدنيا محدودة، فولغوا أكثر في الرذيلة التي انتشرت بشكل متناقض جدًا في أوروبا مع التيار الآخر.
عند هذا الحد وصل المواطن الأوروبي البسيط، ذو التعليم والثقافة المتدنية إلى حيرة فكرية وسلوكية لم تنته إلا مع انتهاء الطاعون في عام 1450، وبينما كانت الشعوب الأوروبية قد أعيتها الحيلة أمام هذا الوباء المميت ولم يكن باستطاعتها غير الانتظار والدعاء، كانت الطبقة الكنسية من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا المرض خاصة مع وجوب حضور القس لتلقين المحتضر والإصغاء لاعترافاته الأخيرة، ما جعل القساوسة والكهنة أكثر عرضة للمرض من غيرهم، وحقًا، تقدر بعض المصادر أن الكنيسة فقدت ما يقرب من ثلث طاقتها البشرية في هذا الوباء.
من جهة ثانية، كان لهذا الوباء أثره المباشر على الحياة الأوروبية، خاصة، بعدما قضى على ثلث السكان بلا تفرقة بين الطبقات منهم: ثمانية ملايين في فرنسا، ومليونان في إنجلترا على سبيل المثال. بيد أن الآثار الأساسية للوباء على القارة امتدت لتشمل متغيرات لافتة على التركيبة السكانية والإنتاجية الأوروبية. واعتبر بعض المفكرين أن هذا الوباء كان من الأسباب المحوَرية لضرب الإقطاع والقضاء التدريجي عليه، ذلك أن طبقة المزارعين كانت من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا الوباء، الذي أدى في النهاية إلى موت أو هروب الكثير من المزارعين الذين كانوا يزرعون الأرض ويحرثونها، ما ترك الأراضي الزراعية بلا رعاية وبدأ يؤثر مباشرة على الإنتاجية الزراعية في القارة. ولكن الأهم من ذلك أنه أدى إلى تحرير نسبي للمزارعين المربوطين بالإقطاعيات، وفقًا لهذا النظام العقيم، وبدأ المزارعون العمل الحر مطالبين بأجورهم مقابل عملهم بعد هجرتهم لإقطاعيتهم. ثم إن ندرتهم أدت إلى ارتفاع كبير في الأجور وأسعار الغذاء في القارة الأوروبية. وكذلك أدى إلى انتشار الثورات المحدودة بين هذه الطبقات ما ساهم في ضرب منظومة الإقطاع في أوروبا ككل.
أضف إلى ما تقدم، أن الغضب الشعبي من جراء هذا الوباء كان بحاجة إلى تنفيس سياسي واجتماعي، خاصة مع اعتقاد البعض أنه كان مؤامرة. وهنا كان اليهود من أوائل الضحايا لهذا الوباء، فتعرضوا لحملة من الاضطهاد في شتى الربوع الأوروبية، خاصة في سويسرا وفرنسا، حيث أحرق ما يقرب من ألفي يهودي في مدينة ستراسبورغ، وكذلك في مدينة بازل. أما في الأراضي الألمانية، فقد أدت هذه الموجة إلى هروب عشرات الآلاف من اليهود إلى بولندا، كما أن المدن شهدت اضطرابات كثيرة خاصة خلال العام الذي سبق انتهاء الطاعون في القارة الأوروبية التي تركها في حالة رثاء إنساني وتأثر اقتصادي واجتماعي لم تشهده من قبل.
وهكذا فإن «الموت الأسود» حصد الأرواح بالملايين وغيّر ن الخريطة الديموغرافية للقارة الأوروبية، فضلاً عن أنه غير من سلوكيات البشر على المستوى الفردي، ولم تشهد أوروبا وباءً مثل هذا إلا مع الحرب العالمية الثانية.
«الموت الأسود» كان من صناعة الطبيعة، أما الموت الثاني فكان من صناعة البشر أنفسهم، وهكذا يظل الإنسان أكبر عدو لبني الإنسان وحاصد الأرواح الأول حتى الآن وليس الطبيعة، تمامًا كما ورد في قوله تعالى «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ» (صدق الله العظيم).



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.