لبنان تحت ضغط مليوني لاجئ سوري

الخسائر تتخطى ما حدث في حرب تموز.. والحكومة تتجه لتطبيق سياسات «جديدة وحازمة»

لبنان تحت ضغط مليوني لاجئ سوري
TT

لبنان تحت ضغط مليوني لاجئ سوري

لبنان تحت ضغط مليوني لاجئ سوري

يتخطى عدد اللاجئين السوريين المسجلين في لبنان المليون و25 ألفا، بحسب مفوضية الأمم المتحدة. أما عددهم الإجمالي (أي المسجلين وغير المسجلين) فيلامس المليونين، بحسب مصادر رسمية، ما يشكل ضغطا سياسيا وأمنيا واقتصاديا على البلاد، بالإضافة إلى التداعيات الإجتماعية. وبعد ان تعدت لبنان «عتبة المليون»، أعلنت تركيا أمس انها أيضا باتت تستضيف مليون لاجئ سوري.
ويبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين والذين يعيشون في لبنان منذ النكبة في عام 1948 نحو 460 ألفا، مما يعني أن مجمل عدد اللاجئين بات يوازي نصف عدد سكان لبنان، الذي أعلنت مفوضية شؤون اللاجئين أنّه بات يسجّل أعلى نسبة كثافة نازحين في العالم في التاريخ الحديث مقارنة بعدد السكان، مع وجود نحو 230 نازحا سوريا مسجلين مقابل كل 1000 لبناني.
وقد تضخم عدد اللاجئين السوريين المسجلين بشكل لافت خلال العامين الماضيين، فبعدما سجّل شهر أبريل (نيسان) 2012 دخول 18000 لاجئ سوري إلى لبنان؛ وصل العدد إلى 356000 بحلول أبريل من عام 2013، ليصل في الثالث من الشهر الحالي إلى مليون شخص. ورفضت الحكومة اللبنانية في الأعوام الثلاثة الماضية إقامة مخيمات للاجئين السوريين خوفا من تكرار تجربة اللجوء الفلسطيني بحيث لا يزال نحو نصف مليون لاجئ فلسطيني يستقرون منذ عام 1948 في 12 مخيما موزعة على المناطق اللبنانية.
ويعيش اللاجئون السوريون إما في شقق استأجروها أو في غرف صغيرة أو لدى عائلات لبنانية مضيفة، وإما في مخيمات عشوائية منتشرة على الأراضي اللبنانية تفتقر لحد أدنى من مقومات العيش.

* سياسة لبنانية جديدة

* وقد استنفرت أجهزة الدولة مؤخرا للتصدي لتداعيات أزمة اللجوء السوري والتي طالت كل القطاعات، وباشرت لجنة حكومية يترأسها رئيس مجلس الوزراء تمام سلام إعداد خطة جديدة وحازمة للتعاطي مع الملف. وأشار وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس إلى أن هذه الخطة سترتكز بشكل أساسي على تنظيم الدخول السوري إلى لبنان، متسائلا «ماذا يفعل ابن الحسكة ودرعا ودير الزور في لبنان؟ نتفهم أن يأتينا نازحون من حمص وحماه ويبرود والنبك وغيرها من المناطق الحدودية، لكن ليس سوريين من مناطق حدودية مع الأردن وتركيا».
ولفت درباس في حديث مع «الشرق الأوسط» إلى أنه بعدما أغلقت الدول المذكورة أبوابها في وجه اللاجئين بات لا مفر لهم إلا اللجوء إلى لبنان حيث الأبواب دائما مفتوحة من دون قيود، وأضاف «في السابق كنا نتحدث عن بضعة آلاف لبضعة أشهر، أما اليوم فنحن بصدد بضعة ملايين لبضع سنوات، وبالتالي فإن التعاطي مع الملف كما كان يتم سابقا لم يعد مسموحا».
وأشار إلى أن المطلوب اليوم إيجاد وسيلة لحث اللاجئين السوريين على العودة إلى مناطقهم خاصة أن هناك ما بين 700 و900 مخيم عشوائي منتشرة على الأراضي اللبنانية، وهي مخيمات تضم 17 في المائة من النازحين الذين لا يخضعون لأي نوع من الرقابة. وقال «المطلوب البحث جديا عن إنشاء أماكن استقبال للاجئين عند الحدود السورية كتوطئة لعودتهم إلى قراهم، على أن تهتم الأمم المتحدة بحماية هؤلاء اللاجئين وتأمين كل احتياجاتهم».
وشدّد درباس على أن القضية ليست قضية لبنانية بحتة بل قضية عربية – قومية، لافتا إلى أنه على الدول العربية وانطلاقا من جامعة الدول العربية إنشاء خلية أزمة لمعالجة القضية، خاصة أن «الوضع بات ينذر بإمكانية تحول اللجوء السوري إلى ما يشبه اللجوء الفلسطيني، مع اعتماد سياسة تطهير مناطق كاملة في سوريا لإخلائها بشكل تام من السكان».
ووصف وزير الشؤون الاجتماعية لبنان في كنف الظروف الحالية بأنها «قنبلة نووية بشرية موقوتة»، مما بات يستدعي استنفارا دوليا.

* الخسائر الاقتصادية

* وترك اللجوء السوري بصمات كبيرة على الأوضاع الأمنية والاقتصادية والإنسانية والصحية والاجتماعية في لبنان، وتخطى حجم الخسائر الاقتصادية التي مني بها لبنان في السنوات الثلاث الماضية، بحسب دراسة أعدها البنك الدولي، 7.5 مليار دولار، مما يعني أن الخسائر نتيجة النزوح السوري تخطت حجم خسائر حرب تموز، كما تؤكد مصادر رسمية. وأفادت دراسة البنك الدولي، التي أجريت بطلب من الحكومة اللبنانية نهاية العام الماضي، بأن المصاريف المباشرة للخزينة اللبنانية لتأمين الخدمات الإضافية للنازحين السوريين بلغت 1.1 مليار دولار، ونبّهت إلى أن 170 ألف لبناني سيكونون تحت خط الفقر في إطار التداعيات السورية على لبنان، علما بأن 40 في المائة من اللبنانيين هم أصلا تحت هذا الخط.
ولفت الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان إلى أن تكلفة النازح السوري الواحد على لبنان تتراوح ما بين 1700 و2000 دولار أميركي لتأمين الخدمات الصحية والتعليمية والطاقة والمياه وغيرها، مشيرا إلى أن لبنان بحاجة اليوم لما يقارب المليارين و200 مليون دولار أميركي لتغطية تكاليف النازحين الموجودين على أراضيه.
وأوضح أبو سليمان، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن المدارس الرسمية اللبنانية تستقبل حاليا 450 ألف تلميذ سوري مقابل 350 ألف طالب لبناني، مشيرا إلى أن الإشكالية الكبيرة التي تشهدها البلاد هي لجهة منافسة اللاجئ السوري المواطن اللبناني بسوق العمل، باعتبار أن اللاجئ يتقاضى نحو 16 في المائة أقل مما يتقاضاه اللبناني. وقد قدرت منظمة العمل الدولية نسبة البطالة في لبنان بنحو 22 في المائة في عام 2013، فيما يقدر البنك الدولي هذه النسبة بنحو 34 في المائة. وكشفت منظمة العمل الدولية، في تقرير لها بعنوان «اتجاهات العمل العالمية لعام 2014»، أن تدفق النازحين السوريين إلى لبنان قد يزيد حجم القوى العاملة بنسبة 30 إلى 50 في المائة.
وأشار أبو سليمان إلى أنه عندما تزيد البطالة ترتفع تلقائيا نسبة الفقر خاصة في بلد تخطى الدين العام فيه الـ64 مليار دولار في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، أي بزيادة 400 مليون دولار عن نهاية عام 2013. ولفت إلى أن لبنان وصل للذروة في ما يخص موضوع اللاجئين، وعليه دق ناقوس الخطر كي تتحرك المنظمات العالمية لإغاثته «فهو يعيش في حالة كساد منذ نشوب الأزمة السورية، وقد انخفضت وارداته 6 في المائة في مقابل ازدياد النفقات 5.5 في المائة جراء انعدام النمو».

* التكلفة الصحية السنوية

* ويشكل الملف الصحي أحد أبرز التحديات التي يواجهها لبنان مع بروز أمراض جديدة لم يعرفها من قبل، مما استدعى استنفار وزارة الصحة والمنظمات العالمية المعنية لمنع انتقال الأمراض المعدية إلى المجتمعات اللبنانية المضيفة. ولفت الدكتور بهيج عربيد، مستشار شؤون التخطيط في وزارة الصحة اللبنانية، إلى أنه تم تسجيل 110 حالات سل في صفوف اللاجئين السوريين في لبنان، وأكثر من 1300 حالة من اللشمانيا (حبة حلب) في عام 2013، وأكثر من 220 حالة في العام الحالي، وهو داء لم يعرفه لبنان من قبل، وقد يتسبب في تشوهات.
وأوضح عربيد، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن ازدياد أعداد اللاجئين وكثرة حركتهم يعقدان الأمور لجهة مراقبتهم صحيا ومنع انتقال الأمراض إلى لاجئين آخرين أو إلى اللبنانيين. ونظّمت وزارة الصحة بالتعاون مع منظمات صحية عالمية 4 حملات للتلقيح ضد شلل الأطفال بعد ظهور 60 حالة في سوريا و220 حالة أخرى غير مؤكدة، علما بأن هذا المرض لم يعرفه لبنان منذ أكثر من 12 عاما. وتستهدف الحملة الرابعة التي انطلقت يوم الجمعة الماضي نحو 600 ألف طفل سوري ولبناني وفلسطيني لا تتعدى أعمارهم خمس سنوات. وأشار عربيد إلى أن الظروف السيئة التي يعيش بكنفها اللاجئون تجعلهم عرضة لكل هذه الأمراض وسواها، لافتا إلى أن الأمراض الأكثر شيوعا حاليا بينهم هي: التيفويد، الحمى الملطية (التهاب الكبد)، والتهاب السحايا. ولم تتسلم وزارة الصحة اللبنانية أي مبالغ مالية لإغاثة اللاجئين منذ 3 سنوات وحتى اليوم باعتبار أن المنظمات الدولية فضّلت تقديم الخدمات الصحية بشكل مباشر أو عبر جمعيات محلية وأهلية.
ونبّهت منظمة «الأمم المتحدة للطفولة» (اليونيسيف) في فبراير (شباط) الماضي إلى أن هناك قرابة ألفي طفل سوري لاجئ في لبنان يعانون من سوء التغذية الحاد ويحتاجون إلى علاج فوري كي يكتب لهم البقاء على قيد الحياة. وأشارت «اليونيسيف» إلى أن أشد فئات أطفال اللاجئين السوريين ضعفا في لبنان، خاصة الأطفال دون سن الخامسة الذين يعيشون ظروفا عصيبة، هم الأكثر عرضة لخطر الإصابة بسوء التغذية.

* تحذير من صراع لبناني ـ سوري على لقمة العيش

* وتخشى مصادر رسمية من انفجار أزمة اللجوء السوري على شكل صراع لبناني – سوري على لقمة العيش، لافتة إلى أن معظم الدول التي تعرب عن نيتها لتقديم مساعدات للاجئين السوريين باتت تعي تماما أن هذه المساعدات يجب أن توزع وبالتساوي على اللاجئين والمجتمعات المضيفة نظرا للحساسية الكبيرة التي تتزايد بين المجتمعين اللبناني والسوري.
وأشارت المصادر في حديث مع «الشرق الأوسط» إلى أن الأمور حتى الساعة لا تزال مضبوطة لكنها قد لا تبقى كذلك خاصة أنه باتت للسوريين مجتمعاتهم الخاصة في لبنان، مدارسهم ومؤسساتهم التي لا توظف إلا السوريين. وقد قدمت ألمانيا نهاية الشهر الماضي 5 ملايين دولار أميركي للحكومة اللبنانية لدعم المجتمعات المستضيفة للاجئين السوريين، على أن يتم ذلك من خلال إدخال مشاريع تنموية تعمل على تطوير بنى الإنتاج المحلي، مما يؤمن عملا لائقا يساعد اللبنانيين على الصمود والمواجهة واحتضان اللاجئين.
ولفتت الناطقة باسم مفوضية شؤون اللاجئين في بيروت جويل عيد إلى أن المفوضية كما الدولة اللبنانية دقت ناقوس الخطر بعدما تخطى عدد اللاجئين السوريين المليون في دولة هي الأصغر في العالم التي تستوعب هذا العدد من النازحين. ونبّهت عيد في حديث مع «الشرق الأوسط» من تداعيات جمّة لملف اللاجئين على مجمل القطاعات اللبنانية خاصة على الاقتصاد، مشددة على وجوب وقوف المجتمع الدولي إلى جانب لبنان في هذه المحنة، خاصة أن وتيرة النزوح لا تزال على حالها مع توقعات بأن يتم تسجيل مليون و500 ألف نازح سوري في لبنان نهاية العام الحالي.
وشددت على وجوب أن يبقي لبنان حدوده مفتوحة على الرغم من كل الصعوبات التي ترافق ذلك باعتبار أن اللاجئين هم مدنيون فروا مضطرين من القتال الدائر في سوريا ولم يجدوا خيارا آخر إلا الهروب، داعية المجتمع الدولي لإيجاد حلول طارئة للأزمة خاصة في ظل غياب القرار السياسي اللبناني بإنشاء مخيمات لهم. وأشار مصدر دبلوماسي أوروبي في حديث مع «الشرق الأوسط» إلى أن أكثرية الدول الأوروبية كانت تدعم ومنذ اندلاع الأزمة السورية إقامة مخيمات للاجئين في لبنان على غرار ما حصل في تركيا والأردن، باعتبار أن ذلك يتيح «إدارة أفضل لملفات الصحة والغذاء والتعليم والأمن».
ولفت المصدر إلى أن قرار الحكومة اللبنانية السابقة كان نهائيا لجهة رفض خيار المخيمات، مما جعل الأمور تتفاقم على كل المستويات.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.