جان بول سارتر: الدمار بيد الإنسان... والسلام كذلك

الحصيلة المادية في العالم هي التجسيد لأفكار عاشت في عقول العظماء

جان بول سارتر
جان بول سارتر
TT

جان بول سارتر: الدمار بيد الإنسان... والسلام كذلك

جان بول سارتر
جان بول سارتر

يظهر لنا إلقاء نظرة، ولو سريعة، على التاريخ، قمما شامخة تسمى «أبطال التاريخ». إنهم كالمنارات المضيئة التي تبرز لنا عظمتهم وفعلهم في التاريخ. ومن دونهم يصبح التاريخ ظلاما دامسا. إنهم بحق، المحرك الحقيقي البارز للتاريخ، والدافع بعجلته إلى الأمام. فكيف سيكون التاريخ من دون النبي الكريم محمد، أو السيد المسيح؟ وماذا سيكون من دون الإسكندر المقدوني أو نابليون بونابرت؟ بل ماذا سيكون من دون أرسطو، أو ابن الهيثم، أو ديكارت، أو آينشتين، أو آخرين غيرهم؟ أكيد سيصبح الأمر سوادا معتما، سكونا وتكرارا.
يجود التاريخ بهؤلاء الأبطال، وكأن العناية الإلهية تبعث بهم لإنقاذ البشرية. ألم يقل الاسكوتلندي توماس كارليل (1881 - 1795)، صاحب الكتاب المشهور «الأبطال»: «لقد عرفت شعوبا تصرخ مستغيثة بأعلى صوتها: أين البطل، أين الزعيم؟ إنه ليس هناك، لم تبعث العناية الإلهية به بعد، وينهار المجتمع، لأن البطل لم يظهر حين نودي عليه».
فالتاريخ العالمي، بحسب كارليل، هو تاريخ ما أنجزه العظماء. فالحصيلة المادية في العالم، ما هي إلا التجسيد الملموس لأفكار عاشت في عقول العظماء. فالأبطال هم مخ تاريخ البشر وصميم لبابه. هم فحول شقوا خطى البشرية ورسموا ملامحها، إنهم روح التاريخ العالمي كله.
لكن، هل حقا يعد البطل هو كل شيء في التاريخ؟ وهل يمكنه أن يتحرك من دون جماعة؟ أليست الجماعة هي من تدفع به إلى الأمام وتعطيه الشرعية؟ ناهيك عن ذلك، ألا يمكن القول، إن الأحداث تصل إلى مرحلة معينة من النضج فيتولد لنا البطل، ليصبح، في نهاية المطاف، مجرد تتويج وثمرة وليس أبدا منطلقا وبداية؟ باختصار، يمكن أن نسأل بالطريقة التالية: من صنع هتلر؟ هل الأحداث هي التي شكلته أم هو من شكلها؟ هل التاريخ يوجه البطل؟ أم هو من يوجه التاريخ؟ بكلمة واحدة، هل تملك الإنسانية زمام أمر التاريخ؟
نحن نعلم أن فكرة إعطاء الصلاحيات الكبرى للبطل في صناعة الأحداث التاريخية، قد أصبحت مثار شك منذ هيغل على الأقل. فهذا الفيلسوف الألماني، ابن القرن التاسع عشر، وهو قرن الوعي التاريخي بامتياز، يؤكد أن التاريخ يتحرك وفق تخطيط محكم وإرادة تاريخية مضبوطة، يسميها «روح العالم». فهناك مشيئة عليا وسامية مهيمنة، تكافح وتقرر مسار الأحداث، وتأخذها بشكل تقدمي نحو الاكتمال، أي نحو مزيد من العقل والوعي والحرية، التي تشكل، بالنسبة لهيغل، المطلق الذي ببلوغه يتوقف التاريخ. لهذا؛ فالبطل لا يصنع التاريخ أبدا، بل ينفذ قرار التاريخ وإرادته. إنه الخادم الطيع لروح العالم. نعم، قد يعتقد البطل وهو ينجز المنجزات، ويشق طريقه مخلفا الأعمال تلو الأعمال، إنه فاعل ومريد. لكن هذا مجرد وهم. فالحقيقة أنه وسيلة في قبضة التاريخ. فما يقدمه ليس موهبة منه، بل هو يأخذ كل شيء كـ«وحي» يأتيه من الروح المخفي، الذي يظهر ويتجسد بواسطته، وبمقدار محدد، يمليه مستوى التقدم في التاريخ. إن ما يبدو أنه من بنات أفكار الأبطال، ما هو إلا قبس أملته تلك القوة السامية والمتعالية المحركة للتاريخ. أما البطل، فأقصى ما يفعله هو أنه يفهم ويدرك هذه الروح. فهو له حساسية مفرطة وقدرة على الإنصات الجيد لنداء تيار التاريخ. فيحسن الارتماء فيه. وهذا ما يميزه عن العامة. فما حققه البطل كان موجودا قبله. فهو أخرج ما كان مضمرا وخفيا، ليجعله يسري في الواقع.
إن الأبطال هم، في الحقيقة، خلاصة العصر وزبدة التاريخ وأقصى تجلياته؛ إذ هم من ينحتون الفكرة أو المفهوم المناسب لحقبة زمنية معينة. لكن هيغل يقول عنهم، إنهم يسقطون مباشرة بعد تنفيذهم قرار التاريخ مثل قشور فاكهة أفرغت نواتها. ولعل أوضح مثال على ذلك، هو ما أنجزه «الإسكندر المقدوني» الذي مات شابا. لكن منجزاته المتمثلة في غزواته، لقحت الغرب بالشرق. والأمر نفسه يقال «نابليون بونابرت». فهو وكما نعلم، قد اجتاح أوروبا بجيوشه، في عمل مستبد. لكنه في النهاية، خدم التاريخ عن طريق نشر مبادئ الثورة الفرنسية. هذا هو بالضبط ما يسميه هيغل بـ«مكر التاريخ»، بمعنى أن التاريخ يمكر ويحقق روحه، ويشق مساره، انطلاقا من هؤلاء العظماء.
نستنتج من موقف هيغل، أن البشر مقهورون، وخاضعون للتاريخ الذي يعد بنية خفية ومعتمة، تحرك المسارات والأحداث، وفق خطط لا يكون معها المرء سوى منفذ، وهو ما سيمهد، بعد ذلك، للقول بالحتميات بكل معانيها المتعددة وأنواعها المختلفة، التي ستفضي إلى الماركسية، باعتبارها تتحدث عن المضمر الاقتصادي للفعل الإنساني. بل ستؤدي إلى نضج كل أنواع البنيات اللاواعية، الصانعة لحركة الإنسان النفسية واللغوية والاجتماعية والمعرفية...حيث سيظهر الإنسان كريشة في مهب ريح الحتميات. فهو ليس صانعا، ولا فاعلا بالمعنى الأنواري، بل هو كائن ميت مسحوق بقوى تتجاوزه. وهذا ما عبّر عنه ميشال فوكو بـ«موت الإنسان». هذا القول الذي يرى الأفراد ذوات مفعول بها، خاضعة لشيء مخفٍ ومضمر، يحركها نحو وجهة وقدر محددين. وهي الفكرة التي نحس معها، بأن الإنسان مكبل ومجرد أداة ليس أكثر، سيناقشها الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، رافضا أن يكون الإنسان كذلك، أي مسيرا بلا فاعلية، إلى درجة أنه كان صوتا نشازا في حقبته. وهنا بيان ذلك:
يرى الفيلسوف الفرنسي سارتر، وتماشيا مع فلسفته الوجودية، المؤمنة بأن الإنسان حر وقادر على الاختيار بين البدائل، وفي الوقت نفسه، متحمل لمسؤولياته كاملة غير منقوصة، إن التاريخ ينجز فعلا، ولكن وفق قراراتنا التي بها نشق ونخطط لحياتنا، والتي قد تكون بناءة للإنسانية، كما قد تكون هدامة لها.
في مقال له، نشره في العدد الأول من مجلة «الأزمنة الحديثة»، في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1945، يوضح سارتر، أن الحدث التاريخي المهول، والمتمثل في تفجير قنبلة هيروشيما، قد دشن عهدا يهدد البشرية، ويسمح بالتفكير في إمكانية نهاية التاريخ. فالتفجير ليس إلا قرارا من طرف البعض، ولكن مسؤوليته ستسحق الكل. فأنت حينما تختار، لا تختار لنفسك فقط، بل تختار حتى للغير. إن هذه القنبلة الصغيرة التي يمكن أن تقتل مائة ألف شخص دفعة واحدة، قادرة أن تقتل غدا، أكثر من ذلك؛ ما يضع البشرية أمام مسؤوليتها الجسيمة التي لن تتحملها إلا هي. على الإنسان، بحسب سارتر، أن يكون الشاهد الوحيد على ما ينجز، وعلى ما يهندس لمصيره. فقرار الإنسانية في أن تستمر مرتبط بها، فبيدها أن تبقى وبيدها أن تفنى. يقول سارتر «إن كوني أعيش ليس لأني خلقت، بل لأني قررت أن أمدد حياتي».
كم يذكرنا كلام سارتر الذي كتبه إبان نهاية الحرب العالمية الثانية، والمعبر عن مخاوف حرب نووية محتملة بين البشر تجعله يندثر، بما أصبحنا نقوم به، في وقتنا الراهن، حينما نعلن صرختنا بضرورة حماية البيئة، مؤكدين أن المسؤول الأول والأخير عن هذا المآل هو الإنسان، وأن بيدنا حماية أرضنا وتركها للأجيال اللاحقة سليمة ونظيفة، وبيدنا أيضا إهدارها وتضييعها وضرب كل احتمال للبقاء فيها.
نخلص مع سارتر، إلى أنه لا ينبغي أن يترك الإنسان كريشة في مهب ريح التاريخ، والادعاء أنه مجرد خادم لروح تتجاوزه. فللإنسان مجال شاسع للاختيار. وبقدر ما يمكنه أن يسير في درب الدمار والحرب، بقدر ما يمكنه أن يسير في درب البناء والسلم.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».