2016 عام بدأ فيه عباس ترتيب بيته... لكنه لم يحقق الأهم بعد

الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى حضوره قداس ليلة عيد الميلاد بكنيسة سانت كاترين ببيت لحم في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ) - انصار حركة فتح يحيّون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ثان يوم للمؤتمر العام للحركة في رام الله نوفمبر الماضي (غيتي) - مؤيدون للقيادي في فتح محمد دحلان يرفعون رايات ولافتات في غزة خلال مظاهرة احتجاجية ضد الرئيس الفلسطيني في ديسمبر الماضي (غيتي)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى حضوره قداس ليلة عيد الميلاد بكنيسة سانت كاترين ببيت لحم في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ) - انصار حركة فتح يحيّون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ثان يوم للمؤتمر العام للحركة في رام الله نوفمبر الماضي (غيتي) - مؤيدون للقيادي في فتح محمد دحلان يرفعون رايات ولافتات في غزة خلال مظاهرة احتجاجية ضد الرئيس الفلسطيني في ديسمبر الماضي (غيتي)
TT

2016 عام بدأ فيه عباس ترتيب بيته... لكنه لم يحقق الأهم بعد

الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى حضوره قداس ليلة عيد الميلاد بكنيسة سانت كاترين ببيت لحم في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ) - انصار حركة فتح يحيّون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ثان يوم للمؤتمر العام للحركة في رام الله نوفمبر الماضي (غيتي) - مؤيدون للقيادي في فتح محمد دحلان يرفعون رايات ولافتات في غزة خلال مظاهرة احتجاجية ضد الرئيس الفلسطيني في ديسمبر الماضي (غيتي)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى حضوره قداس ليلة عيد الميلاد بكنيسة سانت كاترين ببيت لحم في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ) - انصار حركة فتح يحيّون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ثان يوم للمؤتمر العام للحركة في رام الله نوفمبر الماضي (غيتي) - مؤيدون للقيادي في فتح محمد دحلان يرفعون رايات ولافتات في غزة خلال مظاهرة احتجاجية ضد الرئيس الفلسطيني في ديسمبر الماضي (غيتي)

بعد 23 سنة على توقيع «اتفاق أوسلو» الذي كان يفترض أن يأتي بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، يمضي عام آخر من دون أن تأتي هذه الدولة التي تشظت منذ 10 أعوام إلى دولتين، واحدة في الضفة والثانية في غزة. الأولى مقطعة إلى «كانتونات» في حضن إسرائيل، والثانية تحاصرها إسرائيل برًا وبحرًا وجوًا وتحكمها سلطة ثالثة.
لقد أملت السلطة الفلسطينية في 2016 بخطوة صغيرة على الأقل تقرب الفلسطينيين من هذه الدولة، ودعمت بكل ما أوتيت مؤتمر سلام دوليًا كان يفترض أن يقام في باريس، لكنه لم يتحقق من ضمن أشياء أخرى، الدولة مثلا، والعضوية الكاملة في مجلس الأمن، ووقف الاستيطان، والمصالحة كذلك بين حركتي فتح وحماس.
أما الخطوة الأبرز التي أخذتها السلطة ويمكن الإشارة لها، فهي البدء بترتيب البيت الداخلي، بما يضمن انتقالاً سلسًا من حقبة إلى حقبة أخرى إذا ما غادر الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي ناهز 82 سنة منصبه لأي سبب كان.
* ترتيب البيت
قبل شهر واحد على انتهاء العام أبصرت لجنة مركزية جديدة لحركة فتح النور إيذانًا ببدء مرحلة جديدة، من شأنها أن ترسم ملامح شخصية الرئيس القادم، وتسمح بانتقال سلس للسلطة، إذا ما عرفنا أن الانتخابات الفتحاوية التي جاءت بلجنة مركزية جديدة، سبقت انتخابات أخرى مرتقبة في منظمة التحرير الفلسطينية، قد تجرى بداية 2017، من أجل ترسيم لجنة تنفيذية جديدة.
ووفق منطق «فتحاوي» خالص، فإن أي رئيس قادم، بالضرورة يجب أن يكون عضوًا في لجنة مركزية فتح، وعضوًا في تنفيذية منظمة التحرير.
ويريد عباس الذي يسعى إلى تعزيز قبضته على السلطة وفتح، تعيين نائب له لتفويت أي فرصة على أعدائه، داخل حركة فتح - وأبرزهم القيادي المفصول من الحركة محمد دحلان -، وكذلك خصومه السياسيين وأبرزهم حركة حماس، الانقضاض على الموقع الأهم في سلطة بلا سلطة.
ولقد استشعر عباس الخطر الداهم بعد تدخلات إقليمية من أجل مصالحة مع «العدو اللدود» دحلان، وهي التدخلات التي رفضها عباس، ورد عليها بعقد مؤتمر فتح الذي أخرج دحلان وأنصاره كذلك خارج فتح إلى الأبد، أو على الأقل على المدى المنظور والمتوسط. ويمكن القول إن عباس أخذ الخطوة الأولى فقط في طريق ترتيب البيت، وهو ما أطلق عليه بنفسه «الجهاد الأصغر» بعد انتخاب قيادة جديدة في فتح، بانتظار انتخاب نائب لعباس في فتح، ومن ثم إجراء انتخابات في منظمة التحرير واختيار نائب له في السلطة.
ويرى مراقبون أن اختيار نائب الرئيس داخل حركة فتح، وأمين سر منظمة التحرير سيحدد إلى حد بعيد الاسم المقترح الذي يؤمن به عباس لخلافته. وتبدو هذه معركة أخرى داخلية في ظل وجود أسماء قوية متنافسة، من بينها عضو مركزية فتح المعتقل في السجون الإسرائيلية مروان البرغوثي، ومسؤول المخابرات الفلسطيني ماجد فرج، وعضو اللجنة المركزية لفتح جبريل الرجوب، وأمين سر منظمة التحرير الدكتور صائب عريقات، إضافة إلى آخرين.
* البرغوثي في الصدارة
«الفتحاويون» صوتوا في هذا المؤتمر للأسير البرغوثي على رأس منتخبي اللجنة المركزية الجديدة، بعدما حصل على 930 صوتًا من أصل نحو 1100 صوت، في استفتاء على الحضور الذي يحظى به البرغوثي داخل حركة فتح. وتلا البرغوثي في ترؤس قائمة المنتخبين جبريل الرجوب، وهو مؤسس جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية، ورئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. وحصل الرجوب على 878 صوتًا. والرجوب يعد أحد «صقور» الحركة والأسماء المرشحة بقوة في فتح ليصبح نائبا لعباس. ومن جهة أخرى، عاد إلى المركزية كذلك أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، والمفاوض السابق والاقتصادي محمد إشتية، ومسؤول الشؤون المدنية حسين الشيخ، ومسؤول العضوية جمال محيسن، ومفوض التعبئة والتنظيم محمود العالول، ورئيس جهاز المخابرات السابق توفيق الطيراوي، ومسؤول ملف المصالحة، عزام الأحمد، وناصر القدوة ابن شقيقة عرفات والمندوب السابق في الأمم المتحدة، والمسؤول عن التواصل مع المجتمع الإسرائيلي محمد المدني، ومسؤول العلاقات الدولية عباس زكي.
* الوجوه الجديدة
ودخل إلى المركزية لأول مرة، الوجوه الجديدة، : وزير التربية والتعليم صبري صيدم وهو ابن أبو صبري صيدم عضو المركزية الذي قضى في الستينات، ومستشار عباس العسكري الحاج إسماعيل جبر، والقيادي الفتحاوي المعروف في غزة أحمد حلس، ورئيس المجلس التشريعي السابق روحي فتوح الذي شغل منصب الرئيس المؤقت بعد وفاة عرفات، وسمير الرفاعي المسؤول الكبير في إقليم سوريا، وامرأة واحدة هي دلال سلامة، النائب السابق في المجلس التشريعي من مخيم بلاطة في نابلس، وجميعهم تلقوا الدعم من عباس.
وتفيد النتائج بهذه الطريقة أن إرادة عباس انتصرت حتى داخل فتح وانتصرت كذلك على التدخلات.
وعمليًا قد ينتهي 2016 مع اختيار نائب لعباس في فتح ويبدأ 2017 مع اختيار نائب له في السلطة، وهو أمر بيد المجلسين الوطني والمركزي للمنظمة، ويكون عباس بذلك أوصل سفينة السلطة لنهاية مرحلة وبداية أخر، متجاوزًا عواصف داخلية ومشكلات، لكنه أبدًا لم يتجاوز الأهم، تحقيق مصالحة وإقامة الدولة.
وعلى الرغم من أن عباس وعد الفلسطينيين بالدولة في 2017، وقال بعد اختيار قيادة فتح الجديدة، إن القيادة الفلسطينية ستعمل على «حشد الجهود ليكون عام 2017 عام إنهاء الاحتلال الإسرائيلي»، فإن ذلك قوبل بتشكك كبير عززته وعود سابقة لم تتحقق.
* المؤتمر الدولي والمصالحة
تحدث عباس أيضًا عن أن الاتصالات مستمرة لعقد مؤتمر دولي للسلام بموجب المبادرة الفرنسية لحل القضية الفلسطينية وإقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967. كما تطرق عباس إلى المصالحة مع حماس، قائلا: «الكرة الآن في ملعب حركة حماس» للقبول بالمبادرات العربية الرامية إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني المستمر منذ منتصف عام 2007. وعمليًا حدد عباس بكلمته تلك أولوياته في العام الجديد، دون أن يتضح إذا ما كان سينجح في أي منها.
إذن، الذي تحقق فقط هو البدء في ترتيب البيت الداخلي لكن الأهم وهو إقامة الدولة وتحقيق مصالحة، ظل وعدًا في الهواء.
الذي لم يتحقق... المصالحة الداخلية. مثل سنوات أخرى سابقة اجتمعت وفود فتح وحماس أكثر من مرة، وأعلنوا في كل مرة أنهم اتفقوا أو أنهم قريبون من الاتفاق على حكومة وحدة وطنية تمهد لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية خلال شهور، لكن بقي الوضع على ما هو عليه.
واختلف الوفدان في العاصمة القطرية مجددًا على برنامج الحكومة الفلسطينية وعَقْد المجلس التشريعي وموظفي حكومة حماس السابقة. إذ تريد حماس برنامجًا يقر المقاومة بينما تريد فتح برنامج المنظمة الذي يعترف بالاتفاقات. وتريد حماس أن تعرض الحكومة على «التشريعي» بعد أن يستأنف عمله، بينما تريد فتح إقرارها من الرئيس. وتريد حماس توظيفًا فوريًا لموظفيها السابقين في الحكومة الجديدة بينما ترفض فتح وتعرض توظيفًا جزئيًا بحسب الحاجة.
* المؤتمر الدولي للسلام
انتظر الفلسطينيون أن يعقد المؤتمر قبل نهاية العام، وكان ثمة توقع بأن يعرض في النصف الثاني من شهر ديسمبر (كانون الأول) بحسب اتفاق فرنسي فلسطيني، لكن أجلت فرنسا المؤتمر مرة أخرى، بسبب عدم رضا الأميركيين عنه ورفض إسرائيل الكامل له.
وعلى الرغم من إعلان إسرائيل المسبق رفض المؤتمر، يقول الفلسطينيون إن انعقاده مهم لأن رفض إسرائيل الحضور سيجعلها مكشوفة أكثر للعالم ويستوجب اعترافًا فرنسيًا فوريًا بالدولة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.