عام من المفاوضات الصعبة لحل الأزمة الليبية

تعارض في توجهات الخصوم... لكن كوبلر متفائل

أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق قذيفة على عناصر من «داعش» في سرت في 2 أغسطس الماضي (رويترز) - قناص ليبي يستهدف عناصر من «داعش» في سرت في 21 سبتمبر الماضي (أ.ف.ب) - أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق النار على مقاتلي «داعش» في سرت في 21 يوليو الماضي (رويترز)
أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق قذيفة على عناصر من «داعش» في سرت في 2 أغسطس الماضي (رويترز) - قناص ليبي يستهدف عناصر من «داعش» في سرت في 21 سبتمبر الماضي (أ.ف.ب) - أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق النار على مقاتلي «داعش» في سرت في 21 يوليو الماضي (رويترز)
TT

عام من المفاوضات الصعبة لحل الأزمة الليبية

أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق قذيفة على عناصر من «داعش» في سرت في 2 أغسطس الماضي (رويترز) - قناص ليبي يستهدف عناصر من «داعش» في سرت في 21 سبتمبر الماضي (أ.ف.ب) - أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق النار على مقاتلي «داعش» في سرت في 21 يوليو الماضي (رويترز)
أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق قذيفة على عناصر من «داعش» في سرت في 2 أغسطس الماضي (رويترز) - قناص ليبي يستهدف عناصر من «داعش» في سرت في 21 سبتمبر الماضي (أ.ف.ب) - أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق النار على مقاتلي «داعش» في سرت في 21 يوليو الماضي (رويترز)

في ديسمبر من عام 2015 نقلت شاشات التلفزيون موجات من التصفيق الحار بين عدة أفرقاء ليبيين في بلدة الصخيرات المغربية. إذ جرى هنا توقيع أول اتفاق للتفاهم بين الأخوة الأعداء الذين كانوا يتقاتلون عقب إسقاط نظام معمر القذافي. وكان الهدف إنهاء الانقسام الذي يهدد بتفتيت الدولة بين حكومتين، واحدة في الشرق برئاسة عبد الله الثني، وأخرى في الغرب برئاسة خليفة الغويل. وقرّر اتفاق الصخيرات أن يكون في ليبيا حكومة واحدة فقط اسمها «حكومة الوفاق» برئاسة فايز السرّاج.
بيد أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن. والمحصلة النهائية بعد عام من توقيع الاتفاق الذي كان برعاية الأمم المتحدة، هو زيادة عدد رؤساء الحكومات في ليبيا إلى ثلاثة... أي الثني والغويل والسرّاج. وزاد فوق كل هذا ما يشبه «حكومة الظل» التي سُمّيت محليًا قبل شهرين تحت شعار «التجمع السياسي لنواب مصراتة»، وجرى التعامل مع الأمر على أساس أنه مزحة تضاف إلى المزح المبكية في هذا البلد النفطي، الذي أصبح غالبية سكانه يعانون من شح الأموال وارتفاع أسعار المؤن.
* بداية المشكلة
خلال عام من الشد والجذب والاجتماعات والوساطات، يتضح أن المشكلة الليبية بسيطة ومعقدة في الوقت نفسه. كيف؟
بسيطة، لأن الموضوع كان محددًا منذ البداية. أسقط الناخبون الليبيون غالبية نواب البرلمان السابق الذي كان يهيمن عليه تيار من المتطرفين الدينيين والجهويين. وحدث ذلك في صيف عام 2014، لكن هذا التيار لم يقر بالهزيمة، بل أوعز لنحو عشرين من نوابه الذين فازوا في البرلمان الجديد بمقاطعته، والتشكيك في قانونيته.
وما زاد من بساطة المشكلة وقابليتها للحل منذ بدايتها أن المجتمع الدولي اعترف بنزاهة الانتخابات، وأن البرلمان هو الممثل الوحيد لليبيين. وكان يمكن للدفع في هذا الاتجاه أن ينقذ الليبيين من استمرار الفوضى والاقتتال.
كان يمكن للمجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة والدول الكبرى تعضيد البرلمان ومخرجاته، ومن أهم هذه المخرجات، حكومة الثني، والقوات المسلحة بقيادة الضابط العائد من الماضي، خليفة حفتر.
* عودة النواب الراسبين
هذا لم يحدث. ذلك أنه كان هناك نوع من التراخي على ما يبدو في مؤازرة البرلمان الجديد وأذرعه التنفيذية والعسكرية. ووفقًا للإعلان الدستوري يعد رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح هو رئيس الدولة المؤقت.
واستغل النواب الراسبون في البرلمان السابق ما لديهم من ميليشيات، فطردوا البرلمان الجديد وحكومته من طرابلس، وواصلوا اجتماعاتهم باعتبارهم البرلمان الشرعي. وهنا تدخلت الأمم المتحدة وأرسلت مبعوثها الخاص برناردينيو ليون.
وبدأت المشكلة تتحول من قضية بسيطة تتعلق بشرعية الدولة وتمكين برلمانها الجديد، إلى قضية معقدة وتزداد تعقيدًا بعد مرور عام كامل من الاتفاق السياسي الذي جرى توقيعه في الصخيرات أواخر العام الماضي برعاية مبعوثها الجديد مارتن كوبلر. وسار كوبلر على نفس القضبان التي وضعها ليون؛ أي محاولة إشراك نواب البرلمان السابق (المؤتمر الوطني) في السلطة، سواء ممن فازوا أو ممن خسروا في انتخابات البرلمان الجديد.
ورغم كل شيء سارت الأحوال كما تريد الأمم المتحدة والدول الكبرى. فلا بد من توقيع اتفاق لإنقاذ الدولة من الفشل وإنهاء العنف وحل الميليشيات ومحاربة الجماعات المتطرفة التي تنشط على الساحل الليبي الطويل المواجه لأوروبا.
لقد كانت الأمور تجري على خير ما يرام، رغم امتعاض كثير من القيادات السياسية. وبدأ كل من البرلمان الجديد والبرلمان السابق في تقديم الأسماء المرشحة لرئاسة المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق. ولم يكن من بين الأسماء المطروحة اسم السرّاج الذي يشغل أساسًا عضوية مجلس النواب (البرلمان الجديد).
* الدخول على الخط
ووفقًا لشهادات استقتها «الشرق الأوسط»، على فترات، من كل من إبراهيم عميش رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان الجديد، وعوض عبد الصادق نائب رئيس البرلمان السابق، «دخلت على الخط قوى أخرى من خارج هذين البرلمانين تحاول أن تجد لها موضع قدم في الترتيبات الجديدة». وهنا في اللحظات الأخيرة قبيل توقيع اتفاق الصخيرات، قرر كل من البرلمان الجديد والبرلمان السابق سحب مندوبيهما من المفاوضات احتجاجًا على ما بدا أنه تغير غير مقبول في المسار.
وبدأت المشكلة تتعقد أكثر. إذ أغوى الزخم بعض النواب بعدم الانسحاب. وجرى توقيع الاتفاق. ورغم الخلافات العميقة التي كانت موجودة في الكواليس، فإن كاميرات التلفزيون أظهرت الأمر كإنجاز سوف يحوِّل نيران الاحتراب الأهلي إلى جنة من التوافق السياسي. وما إن بدأ رئيس البرلمان الجديد، عقيلة صالح - الداعم لحكومة الثني - ورئيس البرلمان السابق نوري أبو سهمين - الداعم لحكومة الغويل - انتقاد الاتفاق، حتى لوَّحت عدة دول كبرى بعصا العقوبات ضد من وصفتهم بـ«معرقلي الاتفاق السياسي».
وعلى هذا دخل السرّاج ومجلسه الرئاسي إلى طرابلس لكي يحكم منذ أواخر مارس (آذار) الماضي. غير أن الأمر لم يكن بتلك السهولة. إذ كان خصومه ينتظرونه لكي يفشلوا الطبخة كلها. ولم يحظ السرّاج بحماية كاملة من الميليشيات التي تسيطر على العاصمة في الغرب، خصوصًا أن قسمًا كبيرًا منها منحاز للغويل. ولم يحظَ في المقابل بثقة البرلمان الذي يعقد جلساته في الشرق ويؤازر حفتر. ولم يوضع حل لمشكلة من يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية.
* خيار الليبيين
كل هذه القضايا العالقة وضعتها «الشرق الأوسط» أمام المبعوث كوبلر، خلال زيارة قام بها أخيرًا للقاهرة. وسألته: ما الحل؟
كانت الإجابة بسيطة ومعقدة أيضًا. إذ قال المبعوث كوبلر - بكل وضوح - إنه مع ما يريده الليبيون.
لكن توجهات الليبيين يبدو أنها ستدخل عام 2017 وهي أكثر تعارضًا عن ذي قبل، بحسب تحركات كثير من الأطراف. فلقد عقدت اجتماعات في القاهرة وتونس، وفي الداخل الليبي أيضًا بمناسبة مرور عام على توقيع الاتفاق السياسي. ومن بين هذه التوجهات وجود محاولات للتقارب بين حكومة الغويل وحكومة الثني، تؤدي إلى تهميش السرّاج. إلا أن هناك أطرافًا في حكومة الغويل ترفض التعاطي مع المشير حفتر المحسوب على حكومة الثني.
وفي الوقت نفسه، ثمة قبول من جانب البرلمان الجديد (ومن مخرجاته حكومة الثني) للسرّاج بشرط تعديل الاتفاق السياسي والعودة إلى المسودة الرابعة منه، والتي تقضي بأن يكون للسرّاج نائبان فقط بدلاً من ثمانية كما هو الحال الآن. كما يضغط البرلمان نفسه من أجل حماية حفتر من الإقصاء، حيث يصر كثير من النواب على إلغاء المادة الثامنة التي تعطي للسرّاج القول الفصل في اختيار القيادات العسكرية والأمنية.
ومع مشارف العام الجديد، يقول كوبلر، إن كل شيء قابل للنقاش، وإن أهم الإنجازات التي تحققت منذ بداية الحوار بين الأفرقاء الليبيين هو أنه أصبح في الإمكان أن يجلس كل منهم في نفس غرفة المفاوضات التي يجلس فيها خصمه، وهذا أمر جيد يمكن البناء عليه بحثًا عن مستقبل أفضل لليبيين.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.