من حلب إلى برلين... الإرهاب يوحد العالم الذي لا يتحد

رسالته واحدة دائمة في الأعياد الغربية

عناصر من فرق الانقاذ عقب هجوم حادث الدهس في العاصمة برلين الذي راح  ضحيته 12 قتيلا وعشرات الجرحى قبل أيام من أفول العام الماضي («الشرق الأوسط»)
عناصر من فرق الانقاذ عقب هجوم حادث الدهس في العاصمة برلين الذي راح ضحيته 12 قتيلا وعشرات الجرحى قبل أيام من أفول العام الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

من حلب إلى برلين... الإرهاب يوحد العالم الذي لا يتحد

عناصر من فرق الانقاذ عقب هجوم حادث الدهس في العاصمة برلين الذي راح  ضحيته 12 قتيلا وعشرات الجرحى قبل أيام من أفول العام الماضي («الشرق الأوسط»)
عناصر من فرق الانقاذ عقب هجوم حادث الدهس في العاصمة برلين الذي راح ضحيته 12 قتيلا وعشرات الجرحى قبل أيام من أفول العام الماضي («الشرق الأوسط»)

رغم أن الإرهاب يوحد العالم لكنه لا يتحد، أو على الأقل كما ينبغي أن يتحد. العالم هنا عالم من له الغلبة والقوة والتأثير، فظاهرة الإرهاب والتطرف العنيف أشبه بعنكبوت ينسج خيوطه على خارطة الأزمات والمآسي، ويبرر ببقائها آيديولوجيته، وما إن يتراجع في مكان أو يخفف وطأته في مكان، حتى يعود في مكان آخر، مصرًا على الحضور والاستنزاف والإنهاك انطلاقًا من بؤر تمكينه المستمرة وسط هذه الأزمات، وفي منطقة الشرق الأوسط، تحديدها وفوضاها، وتنازعها طائفيًا بين راديكالية سنية تمثلها «جماعات» و«إمارات» وراديكالية الولي الفقيه التي يمثلها نظام ودولة يبايعها ويتحرك بأوامرها آلاف المقاتلين في كل مكان كذلك.
هي رسالة واحدة يرسلها الإرهاب مع احتفالات الميلاد (الكريسماس) ورأس السنة، إلى العالم أجمع، من ألمانيا إلى تركيا وفرنسا مرورًا بجنوب شرقي آسيا والولايات المتحدة الأميركية...
إذ يهدد تنظيم داعش الإرهابي المتطرف كل القارات، وهو رغم ورطته في العراق وسوريا يريد توصيل رسالة للعالم تختصر بكلمات «لا شيء يمكن أن يقتلعنا»، وذلك عبر توجيه ضربات في كل مكان. وحقًا، منذ توالي هزائم التنظيم وانتشار الهجمات الإرهابية في كل اتجاه، نجد نفس الرسالة تتكرر كل عام، من تفجيرات باريس نهاية العام الماضي التي خلفت 130 قتيلاً، وعمليتين في لبنان أسفرتا عن 43 قتيلاً في تفجير مزدوج ببيروت، ومسافة أسبوعين هي ما تفصل بين هذا وذاك لتتحطم الطائرة الروسية في سيناء ويقتل فيها 224 شخصًا.
إثارة الكريسماس ورأس السنة الميلادية وقربها، التي تستنفر مختلف الأجهزة الأمنية في الغرب والشرق كله الآن، تظل رغم ضخامتها عمليات استنزافية تستهدف توصيل الرسالة، ولكن تظل المعارك الحقيقية للإرهاب في بؤر الأزمات وضد دول المنطقة - باستثناء إيران. وحتى عمليات الإرهاب عبر «الذئاب المنفردة» والخلايا الفردية تهدف إلى تخفيف الضغط وتأكيد الحضور على مواطن التركيز الرئيسية في المنطقة.
وشهد العالم العربي - خلال العقد الأخير فقط - ما لا يقل عن 78 في المائة من عمليات الإرهاب حول العالم، وخصوصًا تلك الكبرى التي يزيد عدد ضحاياها على 500 قتيل، لكونه يمثل فضاء للتمكين في التصور الإرهابي. وفي المقابل، لم تشهد الدول الغربية وغيرها أكثر من 21 في المائة من مجموع هذه العمليات منذ عامي 2000 و2003، لكون الغرب فضاءً للاستنزاف والإنهاك والحضور الإعلامي بشكل رئيسي، وليس هدفًا للتمكين في الأصل. إنه العدو البعيد للإرهاب بينما تظل الأنظمة الوطنية العربية هي العدو القريب والهدف الأقرب.
مثل هذا التحديد، في فهم أهداف وغايات الإرهاب، وكذلك تمثلاته وتنوعها، قد يساعد في صياغة عالمية واضحة وحاسمة في التعاطي مع معضلة الإرهاب وظاهرته العنكبوتية، بعيدًا عن محاولة دؤوبة من مصادر وأطراف للأزمة - شأن نظامي إيران وسوريا - توظيفه دائمًا في التبرير لإرهاب مضاد له.
بعض أصوات الخطاب «القومي» العربي كانت من أكثر الأصوات تبشيرًا بما يسمى «الربيع العربي» وثوراته عام 2011، إلا أنها رغم شجبها وإدانتها لجرائم نظام بشار الأسد، ووصف نظامه بـ«جمهورية الصمت والخوف» قبل اندلاع الثورات، فإنها استثنت الشعب السوري من حقه دون سواه في التغيير والإصلاح، بل ومنحت الأسد حصانة شعار «المقاومة» ومارست دعاية انغلاقية اختزلت سوريا - الشعب والنظام والدولة - في شخص حاكمها.
لم ينتبه بعض هؤلاء للخطاب ولا الأداء الذي عضّد من استمراره وبقائه، وخصوصًا تأجيج المشاعر الطائفية والاستعانة بميليشيات طائفية موالية له والدعم الإيراني التوسعي في سوريا، والراديكالية المتعصبة الزاعقة التي يفاخر بها قادة وعناصر الحرس الثوري الإيراني في كل لحظة، وعقب كل معركة. وأخطر من كل ذلك التشتيت الذي يمارسه خطابها، في اتهام الولايات المتحدة تارة، واتهام العالم العربي والخليج وتركيا تارة أخرى في المؤامرة على نظام الأسد، وغير ذلك من أدوات تشتيت وتضبيب، لا تتجاهل فقط الحل السياسي وممكناته ومرجعياته، بل تتجاهل أيضًا، وبشكل واضح مآسي سوريا ومآلاتها مع الأسد طيلة السنوات الخمس الماضية.
عقب إسقاط مدينة حلب، جاءت تصريحات الحرس الثوري الإيراني معبرة عن فكرتي «التوسع والتدخل الإيراني» ولمزيد من الأزمات للمنطقة، وعن النزعة الميليشياوية الرسمية لهذا النظام. إذ ذكر العميد مسعود جزائري، مساعد رئيس هيئة أركان القوات المسلحة في تصريح لوكالة «تسنيم» - التابعة لجهاز استخبارات الحرس الثوري - يوم الأحد 18 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن تجربة الحرب والتدخل في سوريا «لن تقف عند حلب، بل ستتوسع في بؤر أخرى»، وأنها «دفاع مقدس عن إيران»!
وكرّر الجنرال حسين سلامي، نائب القائد العام للحرس الثوري، اتهامات «معتادة» للولايات المتحدة بتنفيذ «خطة تقسيم سوريا وإسقاط النظام فيها، انطلاقًا من أحلام الشرق الأوسط الكبير الأميركي، لكنها واجهت الفشل عبر انتصارنا والجيش السوري»، حسب زعمه.
وأيضًا، صرح العميد سعيد قاآني، نائب قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري، بأنه «سيتم تحديد مصير الحرب السورية خلال العام الحالي، وأن هذه الحرب مستمرة لأنها حرب تتعلق بالمصير والوجود»، كما أن «عمليات الحرس الثوري مستمرة هناك ولن تتوقف الحرب ضد الجماعات الإرهابية». وأردف أن لدى إيران ضباطًا وشبابًا في سوريا «خاضوا الحرب لأول مرة في حياتهم بها، لكنهم أصبحوا اليوم مثل قادة الحرب الإيرانية - العراقية قادرين على إدارة عدة عمليات عسكرية».
أما مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية، الدكتور علي أكبر ولايتي، فقال وفق وكالة «مهر» الإيرانية الرسمية للأنباء: «انتصارنا في حلب هو بداية لسلسلة انتصاراتنا المقبلة في المنطقة، ونحن نجحنا على مدار 5 سنوات من حربنا في سوريا في إثبات هويتنا وتحقيق أهدافنا. كما أن انتصارنا هذا يأتي ضمن كثير من الانتصارات التي حققناها في الفترة الماضية، من بينها انتصارنا في الموصل». وجدد مستشار قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية انتقاده واتهامه للولايات المتحدة بتواطئها وتهريب الإرهابيين - حسب زعمه بعد هزيمتهم في حلب!
ومن ناحية أخرى، صرح علاء الدين بروجردي، رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني، متباهيًا: «إننا نحتفل الآن بانتصارنا الكبير في حلب الذي كان نتيجة لانتصاراتنا في العراق واليمن ولبنان، كما نهنئ أنفسنا بهذا الانتصار الكبير».
هذا المنطق الإيراني التأزيمي والفوضوي والميليشياوي التوسعي يمثل الوجه الآخر لثنائية الإرهاب الطائفي، ولكن يبدو أن العالم لا ينتبه للوجهين معًا.
إن الإرهاب الذي استعاد تدمر في نفس يوم تنفيذه جريمة الكنيسة البطرسية في القاهرة وتتمدد عملياته التفجيرية والتقتيلية لقلب أوروبا ومدنها وساحاتها، كما شاهدنا في برلين وبروكسل وباريس ونيس، تلتمس مكافحته والقضاء عليه حلاً ماسًا وضروريًا تقضي على بؤر تمكينه ومبرراته، كما يحتاج المساواة بين كل أطرافه ومجرميه الذي يقتلون باسم الخليفة أو المرشد ووقف سيل التدخلات المتحيزة لطرف على طرف التي تزيد الفوضى وتستجلب نصرات مضادة، ولا يكفي تألمنا من نتائجه واستعادته الحياة بين يوم وآخر.
وفي حين يستهدف الإرهاب في المنطقة العربية - الأكثر معاناة من ويلاته وعملياته التمكين وإقامة «ولايته» كما فعل في الرقة سابقًا أو الموصل، تظل باقي عملياته في سائر العالم استنزافًا وإنهاكًا وحضورًا يثبط عزائم العالم عن التدخل أو التشويش أو الحسم في مناطقه أهداف تمكينه الرئيسة.
لقد صعدت مخايل نصر الأسد وحلفائه في حلب، التي أعلنت في الأسبوع الأول من ديسمبر الماضي، وراجت معه دعايات أن «الاستقرار ودحر الإرهاب مشروط ببقائه». وهذا رغم مآسيه التي أدانتها المنظمات الدولية والإنسانية في العالم أجمع، وكان آخرها إدانة منظمة المؤتمر الإسلامي و53 دولة إسلامية له الخميس 22 ديسمبر.
هذا النظام وداعموه لم ينتصروا على «داعش» الذي استعاد مدينة تدمر الأثرية بعد ساعات من تسليمه حلب! بل إن ما حدث هو تمكينه من الاستفراد بالفصائل المعتدلة التي رفضت التوحّد مع «جبهة فتح الشام» (جبهة النصرة سابقًا) رغم ضغوط قوى خارجية عليها، وكان إعلانه بعد دقائق من إجلاء عشرات آلاف من المدنيين منها والمعارضة المعتدلة من آخر جيب فيها.
نعم. لم تتحقق أي من مخايل هذا النصر الكبير لنظام دمشق، الذي حاول ترويجها إقليميًا وعالميًا، إذ ما إن بدأ الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر حتى أعلن «داعش» استعادته السيطرة على مدينة تدمر في 11 ديسمبر، وفي اليوم نفسه كان تفجير الكنيسة البطرسية المصرية استهدافًا ومحاولة لضرب الوحدة الوطنية المصرية، التي زادت صلابة. وامتدت عملياته من مصر والصومال، وفي 20 ديسمبر كانت تفجيرات برلين، ولا يزال يصعد في كل مكان مخلفًا وراءه ضحاياه وقتلاه وآلامه.
في هذا المشهد الديسمبري العنيف الذي يستعيد فيه الإرهاب حيويته وخطورته ويسمع العالم صوته، هاجس قلق يخترق احتفالات الكريسماس، طُرحت أسئلة جديدة بعضها يخص سلاحه الجديد في استخدام الشاحنات، الذي سبق أن استخدمه في نيس في فرنسا هذا العام أيضًا، إلى مراجعة السياسات الألمانية والأوروبية عمومًا تجاه المهاجرين وازدياد الغضب ضدهم. وهذا فضلاً عن تبريراته وشرعنته للأصوات اليمينية المتطرفة التي توظف الخوف منه لترويج شعاراتها، ويبدو حضورها صاعدًا من نجاح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى صعود مارين لوبان وعودة النازية الجديدة في ألمانيا وصعودها من جديد.
رغم كل هذه التداعيات والنتائج فإن مراجعة التصورات الدولية للإرهاب، وإدراك تنوعاته وروافده وتبريراته وخطابه عن قرب دون تيه وتفسيرات لا علاقة لها بخطابه، كاتهام التراث تارة أو اتهام المؤسسة الدينية أو اتهام بعض دعاة وأدعياء التجديد الديني نفسه، تظل أمورًا مهمة في سبيل مكافحة وأد يموت بعدها أو يحتضر على الأقل.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟