رغم أن الإرهاب يوحد العالم لكنه لا يتحد، أو على الأقل كما ينبغي أن يتحد. العالم هنا عالم من له الغلبة والقوة والتأثير، فظاهرة الإرهاب والتطرف العنيف أشبه بعنكبوت ينسج خيوطه على خارطة الأزمات والمآسي، ويبرر ببقائها آيديولوجيته، وما إن يتراجع في مكان أو يخفف وطأته في مكان، حتى يعود في مكان آخر، مصرًا على الحضور والاستنزاف والإنهاك انطلاقًا من بؤر تمكينه المستمرة وسط هذه الأزمات، وفي منطقة الشرق الأوسط، تحديدها وفوضاها، وتنازعها طائفيًا بين راديكالية سنية تمثلها «جماعات» و«إمارات» وراديكالية الولي الفقيه التي يمثلها نظام ودولة يبايعها ويتحرك بأوامرها آلاف المقاتلين في كل مكان كذلك.
هي رسالة واحدة يرسلها الإرهاب مع احتفالات الميلاد (الكريسماس) ورأس السنة، إلى العالم أجمع، من ألمانيا إلى تركيا وفرنسا مرورًا بجنوب شرقي آسيا والولايات المتحدة الأميركية...
إذ يهدد تنظيم داعش الإرهابي المتطرف كل القارات، وهو رغم ورطته في العراق وسوريا يريد توصيل رسالة للعالم تختصر بكلمات «لا شيء يمكن أن يقتلعنا»، وذلك عبر توجيه ضربات في كل مكان. وحقًا، منذ توالي هزائم التنظيم وانتشار الهجمات الإرهابية في كل اتجاه، نجد نفس الرسالة تتكرر كل عام، من تفجيرات باريس نهاية العام الماضي التي خلفت 130 قتيلاً، وعمليتين في لبنان أسفرتا عن 43 قتيلاً في تفجير مزدوج ببيروت، ومسافة أسبوعين هي ما تفصل بين هذا وذاك لتتحطم الطائرة الروسية في سيناء ويقتل فيها 224 شخصًا.
إثارة الكريسماس ورأس السنة الميلادية وقربها، التي تستنفر مختلف الأجهزة الأمنية في الغرب والشرق كله الآن، تظل رغم ضخامتها عمليات استنزافية تستهدف توصيل الرسالة، ولكن تظل المعارك الحقيقية للإرهاب في بؤر الأزمات وضد دول المنطقة - باستثناء إيران. وحتى عمليات الإرهاب عبر «الذئاب المنفردة» والخلايا الفردية تهدف إلى تخفيف الضغط وتأكيد الحضور على مواطن التركيز الرئيسية في المنطقة.
وشهد العالم العربي - خلال العقد الأخير فقط - ما لا يقل عن 78 في المائة من عمليات الإرهاب حول العالم، وخصوصًا تلك الكبرى التي يزيد عدد ضحاياها على 500 قتيل، لكونه يمثل فضاء للتمكين في التصور الإرهابي. وفي المقابل، لم تشهد الدول الغربية وغيرها أكثر من 21 في المائة من مجموع هذه العمليات منذ عامي 2000 و2003، لكون الغرب فضاءً للاستنزاف والإنهاك والحضور الإعلامي بشكل رئيسي، وليس هدفًا للتمكين في الأصل. إنه العدو البعيد للإرهاب بينما تظل الأنظمة الوطنية العربية هي العدو القريب والهدف الأقرب.
مثل هذا التحديد، في فهم أهداف وغايات الإرهاب، وكذلك تمثلاته وتنوعها، قد يساعد في صياغة عالمية واضحة وحاسمة في التعاطي مع معضلة الإرهاب وظاهرته العنكبوتية، بعيدًا عن محاولة دؤوبة من مصادر وأطراف للأزمة - شأن نظامي إيران وسوريا - توظيفه دائمًا في التبرير لإرهاب مضاد له.
بعض أصوات الخطاب «القومي» العربي كانت من أكثر الأصوات تبشيرًا بما يسمى «الربيع العربي» وثوراته عام 2011، إلا أنها رغم شجبها وإدانتها لجرائم نظام بشار الأسد، ووصف نظامه بـ«جمهورية الصمت والخوف» قبل اندلاع الثورات، فإنها استثنت الشعب السوري من حقه دون سواه في التغيير والإصلاح، بل ومنحت الأسد حصانة شعار «المقاومة» ومارست دعاية انغلاقية اختزلت سوريا - الشعب والنظام والدولة - في شخص حاكمها.
لم ينتبه بعض هؤلاء للخطاب ولا الأداء الذي عضّد من استمراره وبقائه، وخصوصًا تأجيج المشاعر الطائفية والاستعانة بميليشيات طائفية موالية له والدعم الإيراني التوسعي في سوريا، والراديكالية المتعصبة الزاعقة التي يفاخر بها قادة وعناصر الحرس الثوري الإيراني في كل لحظة، وعقب كل معركة. وأخطر من كل ذلك التشتيت الذي يمارسه خطابها، في اتهام الولايات المتحدة تارة، واتهام العالم العربي والخليج وتركيا تارة أخرى في المؤامرة على نظام الأسد، وغير ذلك من أدوات تشتيت وتضبيب، لا تتجاهل فقط الحل السياسي وممكناته ومرجعياته، بل تتجاهل أيضًا، وبشكل واضح مآسي سوريا ومآلاتها مع الأسد طيلة السنوات الخمس الماضية.
عقب إسقاط مدينة حلب، جاءت تصريحات الحرس الثوري الإيراني معبرة عن فكرتي «التوسع والتدخل الإيراني» ولمزيد من الأزمات للمنطقة، وعن النزعة الميليشياوية الرسمية لهذا النظام. إذ ذكر العميد مسعود جزائري، مساعد رئيس هيئة أركان القوات المسلحة في تصريح لوكالة «تسنيم» - التابعة لجهاز استخبارات الحرس الثوري - يوم الأحد 18 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن تجربة الحرب والتدخل في سوريا «لن تقف عند حلب، بل ستتوسع في بؤر أخرى»، وأنها «دفاع مقدس عن إيران»!
وكرّر الجنرال حسين سلامي، نائب القائد العام للحرس الثوري، اتهامات «معتادة» للولايات المتحدة بتنفيذ «خطة تقسيم سوريا وإسقاط النظام فيها، انطلاقًا من أحلام الشرق الأوسط الكبير الأميركي، لكنها واجهت الفشل عبر انتصارنا والجيش السوري»، حسب زعمه.
وأيضًا، صرح العميد سعيد قاآني، نائب قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري، بأنه «سيتم تحديد مصير الحرب السورية خلال العام الحالي، وأن هذه الحرب مستمرة لأنها حرب تتعلق بالمصير والوجود»، كما أن «عمليات الحرس الثوري مستمرة هناك ولن تتوقف الحرب ضد الجماعات الإرهابية». وأردف أن لدى إيران ضباطًا وشبابًا في سوريا «خاضوا الحرب لأول مرة في حياتهم بها، لكنهم أصبحوا اليوم مثل قادة الحرب الإيرانية - العراقية قادرين على إدارة عدة عمليات عسكرية».
أما مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية، الدكتور علي أكبر ولايتي، فقال وفق وكالة «مهر» الإيرانية الرسمية للأنباء: «انتصارنا في حلب هو بداية لسلسلة انتصاراتنا المقبلة في المنطقة، ونحن نجحنا على مدار 5 سنوات من حربنا في سوريا في إثبات هويتنا وتحقيق أهدافنا. كما أن انتصارنا هذا يأتي ضمن كثير من الانتصارات التي حققناها في الفترة الماضية، من بينها انتصارنا في الموصل». وجدد مستشار قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية انتقاده واتهامه للولايات المتحدة بتواطئها وتهريب الإرهابيين - حسب زعمه بعد هزيمتهم في حلب!
ومن ناحية أخرى، صرح علاء الدين بروجردي، رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني، متباهيًا: «إننا نحتفل الآن بانتصارنا الكبير في حلب الذي كان نتيجة لانتصاراتنا في العراق واليمن ولبنان، كما نهنئ أنفسنا بهذا الانتصار الكبير».
هذا المنطق الإيراني التأزيمي والفوضوي والميليشياوي التوسعي يمثل الوجه الآخر لثنائية الإرهاب الطائفي، ولكن يبدو أن العالم لا ينتبه للوجهين معًا.
إن الإرهاب الذي استعاد تدمر في نفس يوم تنفيذه جريمة الكنيسة البطرسية في القاهرة وتتمدد عملياته التفجيرية والتقتيلية لقلب أوروبا ومدنها وساحاتها، كما شاهدنا في برلين وبروكسل وباريس ونيس، تلتمس مكافحته والقضاء عليه حلاً ماسًا وضروريًا تقضي على بؤر تمكينه ومبرراته، كما يحتاج المساواة بين كل أطرافه ومجرميه الذي يقتلون باسم الخليفة أو المرشد ووقف سيل التدخلات المتحيزة لطرف على طرف التي تزيد الفوضى وتستجلب نصرات مضادة، ولا يكفي تألمنا من نتائجه واستعادته الحياة بين يوم وآخر.
وفي حين يستهدف الإرهاب في المنطقة العربية - الأكثر معاناة من ويلاته وعملياته التمكين وإقامة «ولايته» كما فعل في الرقة سابقًا أو الموصل، تظل باقي عملياته في سائر العالم استنزافًا وإنهاكًا وحضورًا يثبط عزائم العالم عن التدخل أو التشويش أو الحسم في مناطقه أهداف تمكينه الرئيسة.
لقد صعدت مخايل نصر الأسد وحلفائه في حلب، التي أعلنت في الأسبوع الأول من ديسمبر الماضي، وراجت معه دعايات أن «الاستقرار ودحر الإرهاب مشروط ببقائه». وهذا رغم مآسيه التي أدانتها المنظمات الدولية والإنسانية في العالم أجمع، وكان آخرها إدانة منظمة المؤتمر الإسلامي و53 دولة إسلامية له الخميس 22 ديسمبر.
هذا النظام وداعموه لم ينتصروا على «داعش» الذي استعاد مدينة تدمر الأثرية بعد ساعات من تسليمه حلب! بل إن ما حدث هو تمكينه من الاستفراد بالفصائل المعتدلة التي رفضت التوحّد مع «جبهة فتح الشام» (جبهة النصرة سابقًا) رغم ضغوط قوى خارجية عليها، وكان إعلانه بعد دقائق من إجلاء عشرات آلاف من المدنيين منها والمعارضة المعتدلة من آخر جيب فيها.
نعم. لم تتحقق أي من مخايل هذا النصر الكبير لنظام دمشق، الذي حاول ترويجها إقليميًا وعالميًا، إذ ما إن بدأ الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر حتى أعلن «داعش» استعادته السيطرة على مدينة تدمر في 11 ديسمبر، وفي اليوم نفسه كان تفجير الكنيسة البطرسية المصرية استهدافًا ومحاولة لضرب الوحدة الوطنية المصرية، التي زادت صلابة. وامتدت عملياته من مصر والصومال، وفي 20 ديسمبر كانت تفجيرات برلين، ولا يزال يصعد في كل مكان مخلفًا وراءه ضحاياه وقتلاه وآلامه.
في هذا المشهد الديسمبري العنيف الذي يستعيد فيه الإرهاب حيويته وخطورته ويسمع العالم صوته، هاجس قلق يخترق احتفالات الكريسماس، طُرحت أسئلة جديدة بعضها يخص سلاحه الجديد في استخدام الشاحنات، الذي سبق أن استخدمه في نيس في فرنسا هذا العام أيضًا، إلى مراجعة السياسات الألمانية والأوروبية عمومًا تجاه المهاجرين وازدياد الغضب ضدهم. وهذا فضلاً عن تبريراته وشرعنته للأصوات اليمينية المتطرفة التي توظف الخوف منه لترويج شعاراتها، ويبدو حضورها صاعدًا من نجاح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى صعود مارين لوبان وعودة النازية الجديدة في ألمانيا وصعودها من جديد.
رغم كل هذه التداعيات والنتائج فإن مراجعة التصورات الدولية للإرهاب، وإدراك تنوعاته وروافده وتبريراته وخطابه عن قرب دون تيه وتفسيرات لا علاقة لها بخطابه، كاتهام التراث تارة أو اتهام المؤسسة الدينية أو اتهام بعض دعاة وأدعياء التجديد الديني نفسه، تظل أمورًا مهمة في سبيل مكافحة وأد يموت بعدها أو يحتضر على الأقل.
من حلب إلى برلين... الإرهاب يوحد العالم الذي لا يتحد
رسالته واحدة دائمة في الأعياد الغربية
من حلب إلى برلين... الإرهاب يوحد العالم الذي لا يتحد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة