«داعش» خلال مسيرة عام... بين التمدد والانهيار

تفسير بأطروحتين متناقضتين

عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
TT

«داعش» خلال مسيرة عام... بين التمدد والانهيار

عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)

بدأت القوات العراقية، الخميس 30 ربيع الأول 1438ه 29 ديسمبر (كانون الأول) 2016م، مرحلتها الثانية لتحرير الموصل التي أجلت عدة مرات لأسباب لوجيستيكية ومناخية. وتأتي هذه العملية واسعة النطاق في الوقت الذي شهد فيه التحالف العسكري الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية لمحاربة الإرهاب انضمام سلطنة عُمان لتكون الدولة الـ41 المشكلة لهذا التكتل التاريخي. وتأتي هذا الجهود الإقليمية والدولية للقضاء على الإرهاب في العراق وسوريا وغيرهما، في زمن أصبح فيه النقاش العلمي البحثي المتخصص في التنظيمات الإرهابية المتطرفة منقسمًا على نفسه، من حيث تقييم حجم الانتصار الدولي على الحركات الإرهابية، وخصوصًا تنظيم داعش.
صحيح أن هناك شبه إجماع من طرف مراكز البحث والخبراء على حصول تقدم نوعي في محاربة الإرهاب، وأن تنظيم داعش الإرهابي المتطرف تلقى ضربات موجعة، وهزائم متتالية أضعفت قدرته على الإمساك بأرض «خلافته» المزعومة. فإن الاختلاف بين المتخصصين والباحثين في مسار «داعش» يتركز حول نوعية وأثر الهزائم في تشكيل وتحديد مستقبل هذا التنظيم الذي يقوده «أبو بكر البغدادي». وهو ما يفسر انتشار أطروحتين شبه متناقضتين من حيث التفسير واستعمال المؤشرات والأحداث التي وقعت عام 2016، الشيء الذي يسمح علميًا بالحديث عن أطروحة التراجع والانهيار، وأطروحة التكيف وإعادة الانتشار. ومن الخبراء الذين يدافعون عن هذا الطرح، الأميركية لويس ماكفيت مديرة الأبحاث في مركز أبحاث دراسات الحرب، المتخصصة في متابعة تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» بسوريا والعراق، وسبق للكونغرس الأميركي أن استضافها للإدلاء بشهادتها البحثية أمامه في موضوع الإرهاب.
أما الأطروحة الثانية التي تتبنى مقولة الانهيار، فهي تنطلق من الوقائع العملية لعامي 2015 و2016، معتمدة على مؤشرات دامغة تثبت تراجع ونكوص قوة هذا التنظيم. وأبرز ما تستدل به هذه الأطروحة على تحول «دولة الخلافة» المزعومة، من واقع يتمدد جغرافيًا، إلى واقع ينحسر ويفقد الأرض والقيادات العسكرية والإعلامية، والدينية.

* أطروحة التكيف
وإعادة الانتشار
تنطلق هذه الأطروحة من القدرة الذاتية للخط والعقيدة الآيديولوجية الداعشية على الصمود وإعادة الانبعاث بشكل متوالٍ ومتجدد. وتعتبر أن هذا الجانب هو روح تنظيم البغدادي الذي يجعله محافظًا على «تقديس» مطلب الخلافة، رغم تحوله إلى مربّع الدفاع. ومن هنا تدعونا هذه الأطروحة إلى الانتباه والأخذ بالحسبان أن «داعش» عدو مرن ويمتلك قدرة فائقة على التحرك والتكيف، الشيء الذي يعني أن الهزائم العسكرية التي جعلت التنظيم اليوم في موقف دفاعي، لا تؤشر على الضعف التنظيمي، ذلك أن استراتيجية «داعش» تشمل التوسع في أفريقيا ومناطق أخرى. وهذا التوسع لن يتأثر كثيرًا بالهزيمة المؤقتة في العراق وسوريا، لأن استراتيجية الانبعاث والتجدد، تجعل من القوة القتالية لـ«داعش» تهديدًا عنيفًا لمنطقة جغرافية واسعة توفر صراعاتها الطائفية والدينية الأرضية الخصبة للتعبئة، وكذلك للهروب من الهزيمة الكاملة لتنظيم البغدادي وآيديولوجيته القتالية.
وانسجامًا مع هذه الأطروحة، يدافع عالم السياسة الفرنسي أوليفييه روا (Olivier Roy)، الأستاذ الجامعي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، عن الانتشار المخيف لـ«داعش» آيديولوجيًا مما يمكن التنظيم من التجنيد عن بعد، وخلق مناطق غير آمنة في عدة دول أوروبية. ولقد ساعده في ذلك ما راكمه من خبرة بحثية كبيرة، جعلت منه أكبر متخصص فرنسي في الحركات الإرهابية. وهو ينطلق من صلابة وانتشار البعد العقدي القتالي وتغلغله في صفوف الجيل الثالث للشباب المسلم المولود والمتعلم بالغرب.
ومن هذا المنطلق يسجل روا التقدم الداعشي في كسب العقول رغم ما يظهر من تراجع جغرافي لـ«دولته» المزعومة. ولذلك ينبه روا لدور تنظيم البغدادي في تثبيت ونشر الراديكالية الدينية، معتبرًا أن أوروبا وليس العالم العربي فقط تعيش ظاهرة جديدة ولدت مع «داعش»، وهي ظاهرة «أسلمة الراديكالية»، وتحويل الجيل الجديد من الشباب بالغرب إلى حامل قوي للعقيدة القتالية العالمية الداعشية.
هذا الانتشار السريع والشبكي لم يستطع تنظيم القاعدة تحقيقه في السابق. لأن آيديولوجية البغدادي تتمركز - وفق زعمه حول «الخلافة» وتجعل القتال تحت رايتها هو السبيل الوحيد لتحقيق الحلم العقدي. وربما هذا ما يفسر تحول الشباب المسلم بالغرب من عالم الجريمة إلى راديكاليين «إسلاميين» قادرين على شن هجمات في أماكن عدة وبطرق لم تكن معروفة زمن «القاعدة»، ومن ذلك هجوم برلين يوم 19 ديسمبر 2016 بالشاحنة الذي أسفر عن 12 قتيلاً وعشرات الجرحى. وقبله مجزرة نيس بجنوب فرنسا يوم 14 يوليو (تموز) 2016، واعتداء بالفأس قرب فورتزبورغ بوسط ألمانيا بتاريخ يوليو، واعتداء آنسباخ (ألمانيا أيضًا) يوم 24 يوليو، وذبح كاهن بمنطقة النورماندي الفرنسية في 26 يوليو.
ويبدو أن هذا الانتشار، الذي استقطب عددًا كبيرًا من المقاتلين وصل بحسب دراسة نشرتها «مجموعة سوفان» الأميركية إلى ما بين 27 ألفًا و31 ألفًا من نحو 86 دولة آسيوية وأفريقية وأوروبية، أنتج بدوره سياسة إعادة الانتشار، التي تعني نقل «داعش» للمعركة خارج سوريا والعراق، وفق تصور ومنهج يضمن له شن هجمات قوية في مختلف بقاع العالم، والظهور بمظهر التنظيم الشبكي القوي رغم فقدانه الأرض. وهذا ما يعزز من تشبث الشباب المقاتلين بالتنظيم الإرهابي في سوريا والعراق، كما شجع على تمدد ظاهرة «الذئاب المنفردة» في الغرب.
من جهة أخرى، حقق «داعش» تمددًا تنظيميًا وآيديولوجيًا في أفريقيا الشمالية بكل من ليبيا ومصر، وفي دول جنوب الصحراء، في مالي والنيجر ونيجيريا وتشاد، والصومال، حيث استقطب التنظيم شخصيات دعوية وعسكرية مهمة، من «حركة الشباب» الصومالية قررت الانضمام لفرع تنظيم البغدادي بشكل جماعي. ووصل هذا التوسع ليشمل الجارة كينيا، في تطور آخر للتنظيم يمزج بين الآيديولوجية الدينية والانتماء العرقي والقبلي مما يسهل جلب التمويل والتجنيد، ويهدد ببناء شبكة أفريقية لـ«داعش».

* أطروحة الانهيار
بعكس التوجه السابق، ترى أطروحة التراجع والانهيار أن «داعش» لا يتراجع فحسب، بل هو في طريقه إلى الانقراض. فهو من جهة لم يعد قادرًا على الإمساك بالأرض التي سيطر عليها خلال السنوات القليلة الماضية، وتراجعت موارده الطبيعية والمالية، كما استنزفت موارده البشرية، إذ قتل أهم رجاله الإعلاميين والعسكريين، وبعض الدعويين. ومن جهة ثانية، لم يعد يحظى التنظيم بتلك الصورة الإيجابية لدى شباب العالم العربي والغربي، ذلك أن كشف وحشية ممارساته غيّر من قناعات الرأي العام الشعبي تجاهه، وهذا في الوقت الذي شدد فيه التحالف الدولي من إجراءاته العسكرية، وتبنى سياسة محكمة من التنسيق الأمني، وهو ما عرقل وصول المجندين من «داعش»، عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحات القتال في العراق وسوريا.
ومن الباحثين الذين يدافعون عن هذه الأطروحة، دانيال ميلتون من مركز مكافحة الإرهاب في الأكاديمية العسكرية الأميركية - وست بوينت. فميلتون يعتبر أن هذه الحقائق جعلت «داعش» «يعاني كثيرًا من أجل الحفاظ على صورة دولة تعمل».. وفي الوقت نفسه استقطاب الأنصار والمتطوعين الجدد.
أكثر من ذلك، تدعونا هذه الأطروحة للرجوع للمسار التاريخي لـ«داعش» من يوم ولادته الرسمي بتاريخ 9 - 4 - 2013 وسيطرته على مدينة الرقّة، بشمال وسط سوريا، خلال صيف 2013، واعتبار هذه المدينة السورية عاصمة لـ«خلافته» المزعومة، وصولاً إلى سيطرة التنظيم على مدينة الموصل الاستراتيجية في شمال العراق 2014 وهو ما جعل من «داعش» أقوى وأغنى تنظيم إرهابي في العالم.
غير أن شعار «خلافة» البغدادي المزعومة الذي يدعي أنها «باقية وتتمدد» سرعان ما تلقى ضربات متوالية شلت من قدرته على التوسع والانتشار، وذلك منذ بدأ التحالف الدولي الذي أعلن عام 2014، في تطوير عمله وتنسيق عملياته. ومن هنا تعتمد أطروحة التراجع والانهيار على تاريخ فارق في المواجهة الدولية مع هذا التنظيم الإرهابي المتطرف وتعتبر استرجاع مدينة عين العرب (كوباني) التي بدأ «داعش» في 14 - 9 - 2014 هجومه للسيطرة عليها، تحولاً جوهريًا في مسار التنظيم. ذلك أن القدرة القتالية التي أبدتها الميليشيات الكردية - بدعم أميركي - داخل المدينة الصغيرة الحدودية (مع تركيا)، أظهرت لأول مرة منذ ظهور التنظيم أن هناك قوة محلية قادرة على الوقوف أمام قوة «داعش»، إذا ما حصلت على مساندة فعالة من طرف التحالف الدولي.
وعليه، فإن تحرير عين العرب بتاريخ 26 - 1 - 2015، أسقط أسطورة التنظيم الذي لا يقهر، وخلق جوًا جديدًا يعتمد على الطيف البشري المحلي لمواجهة «داعش»، في كلّ من سوريا والعراق، بتنسيق وتعاون مع التحالف الدولي ضد الإرهاب. وهذا المسار أنتج تراجعًا وانكسارات لصورة تنظيم البغدادي ومشروعه طيلة عامي 2015 و2016م، وأبرزها: تحرير مدينتي تل أبيض السورية والفلوجة العراقية، وكذلك تحرير البيشمركة لمدينة سنجار بشمال العراق في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015.
وفي هذا السياق، تدافع أطروحة انهيار «داعش» عن «مزاعمها»، بمؤشرات عام 2016، وتجعل منها حقائق دامغة، لا يكتنفها اللبس. فخلال العام المنتهي فقدت «خلافة البغدادي» المزعومة، مدينتها «المقدسة» دابق. وهي اليوم على وشك فقدان الموصل بشكل تام بعد المرحلة الثانية من معركة تحريرها التي انطلقت يوم الخميس قبل أيام. ويأتي هذا التراجع ليؤكد هزائم «داعش» في مدينة الرمادي، عاصمة محافظة العراق بغرب العراق، وقاعدة القيارة الاستراتيجية (جنوب الموصل) وغيرها من المناطق بالعراق.
وفي الجانب السوري، أمكن تحرير مساحات ومدن وقرى قريبة من مدينة الرقة، عاصمة «داعش» هناك، وذلك بعدما تم تحرير مجينتي جرابلس ومنبج السوريتين الشماليتين. ويبدو أن الاستراتيجية الدولية نجحت في حشر التنظيم الإرهابي في الزاوية، خصوصًا بعد التقدم الذي حصل على أطراف مدينة الباب السورية، ونجاحات محاصرة الرقة، حيث سيطرت الميليشيات الكردية بدعم أميركي على نحو 140 قرية في سعيهم للوصول إلى حدود «عاصمة» البغدادي.
* مؤشرات تخدم الأطروحتين
عمومًا يمكن القول إن الأطروحتين تجدان من الناحية العلمية كثيرًا من المؤشرات التي تدل على صوابية طرحهما. غير أنه يمكن القول استنادًا لخبرة البحث العلمي وما راكمه الخبراء ومؤسسات ومراكز البحث في الظاهرة الإرهابية، أن قضية تراجع «داعش» وتمدده، لا يمكن عزلها عن السياق العام للآيديولوجية الدينية القتالية. ومن هنا، فإن الهزائم المؤقتة للتنظيم لا تعني بالضرورة الهزيمة الاستراتيجية لـ«الروح العقدية القتالية». وهذا حتمًا يعني تجدد التنظيم وانبعاثه بأسماء متجددة في زمن ممتد ينطلق من بؤرة عقدية موحدة للفكرة والتنظيم. ومن ثم، يجعل من الهزيمة انكفاءً مؤقتًا، ومجرد موجة من موجات إعادة تركيب «توحش» جديد في بنية تنطلق من الصراع الديني الطائفي والعرقي، الذي أصبح العراق وسوريا - للأسف - خزانًا له يسهل استثماره، سواءً من طرف القوى الدولية الكبرى أوالحركات الإرهابية المتعددة.. و«داعش» واحد منها.

* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.