«داعش» خلال مسيرة عام... بين التمدد والانهيار

تفسير بأطروحتين متناقضتين

عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
TT

«داعش» خلال مسيرة عام... بين التمدد والانهيار

عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)

بدأت القوات العراقية، الخميس 30 ربيع الأول 1438ه 29 ديسمبر (كانون الأول) 2016م، مرحلتها الثانية لتحرير الموصل التي أجلت عدة مرات لأسباب لوجيستيكية ومناخية. وتأتي هذه العملية واسعة النطاق في الوقت الذي شهد فيه التحالف العسكري الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية لمحاربة الإرهاب انضمام سلطنة عُمان لتكون الدولة الـ41 المشكلة لهذا التكتل التاريخي. وتأتي هذا الجهود الإقليمية والدولية للقضاء على الإرهاب في العراق وسوريا وغيرهما، في زمن أصبح فيه النقاش العلمي البحثي المتخصص في التنظيمات الإرهابية المتطرفة منقسمًا على نفسه، من حيث تقييم حجم الانتصار الدولي على الحركات الإرهابية، وخصوصًا تنظيم داعش.
صحيح أن هناك شبه إجماع من طرف مراكز البحث والخبراء على حصول تقدم نوعي في محاربة الإرهاب، وأن تنظيم داعش الإرهابي المتطرف تلقى ضربات موجعة، وهزائم متتالية أضعفت قدرته على الإمساك بأرض «خلافته» المزعومة. فإن الاختلاف بين المتخصصين والباحثين في مسار «داعش» يتركز حول نوعية وأثر الهزائم في تشكيل وتحديد مستقبل هذا التنظيم الذي يقوده «أبو بكر البغدادي». وهو ما يفسر انتشار أطروحتين شبه متناقضتين من حيث التفسير واستعمال المؤشرات والأحداث التي وقعت عام 2016، الشيء الذي يسمح علميًا بالحديث عن أطروحة التراجع والانهيار، وأطروحة التكيف وإعادة الانتشار. ومن الخبراء الذين يدافعون عن هذا الطرح، الأميركية لويس ماكفيت مديرة الأبحاث في مركز أبحاث دراسات الحرب، المتخصصة في متابعة تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» بسوريا والعراق، وسبق للكونغرس الأميركي أن استضافها للإدلاء بشهادتها البحثية أمامه في موضوع الإرهاب.
أما الأطروحة الثانية التي تتبنى مقولة الانهيار، فهي تنطلق من الوقائع العملية لعامي 2015 و2016، معتمدة على مؤشرات دامغة تثبت تراجع ونكوص قوة هذا التنظيم. وأبرز ما تستدل به هذه الأطروحة على تحول «دولة الخلافة» المزعومة، من واقع يتمدد جغرافيًا، إلى واقع ينحسر ويفقد الأرض والقيادات العسكرية والإعلامية، والدينية.

* أطروحة التكيف
وإعادة الانتشار
تنطلق هذه الأطروحة من القدرة الذاتية للخط والعقيدة الآيديولوجية الداعشية على الصمود وإعادة الانبعاث بشكل متوالٍ ومتجدد. وتعتبر أن هذا الجانب هو روح تنظيم البغدادي الذي يجعله محافظًا على «تقديس» مطلب الخلافة، رغم تحوله إلى مربّع الدفاع. ومن هنا تدعونا هذه الأطروحة إلى الانتباه والأخذ بالحسبان أن «داعش» عدو مرن ويمتلك قدرة فائقة على التحرك والتكيف، الشيء الذي يعني أن الهزائم العسكرية التي جعلت التنظيم اليوم في موقف دفاعي، لا تؤشر على الضعف التنظيمي، ذلك أن استراتيجية «داعش» تشمل التوسع في أفريقيا ومناطق أخرى. وهذا التوسع لن يتأثر كثيرًا بالهزيمة المؤقتة في العراق وسوريا، لأن استراتيجية الانبعاث والتجدد، تجعل من القوة القتالية لـ«داعش» تهديدًا عنيفًا لمنطقة جغرافية واسعة توفر صراعاتها الطائفية والدينية الأرضية الخصبة للتعبئة، وكذلك للهروب من الهزيمة الكاملة لتنظيم البغدادي وآيديولوجيته القتالية.
وانسجامًا مع هذه الأطروحة، يدافع عالم السياسة الفرنسي أوليفييه روا (Olivier Roy)، الأستاذ الجامعي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، عن الانتشار المخيف لـ«داعش» آيديولوجيًا مما يمكن التنظيم من التجنيد عن بعد، وخلق مناطق غير آمنة في عدة دول أوروبية. ولقد ساعده في ذلك ما راكمه من خبرة بحثية كبيرة، جعلت منه أكبر متخصص فرنسي في الحركات الإرهابية. وهو ينطلق من صلابة وانتشار البعد العقدي القتالي وتغلغله في صفوف الجيل الثالث للشباب المسلم المولود والمتعلم بالغرب.
ومن هذا المنطلق يسجل روا التقدم الداعشي في كسب العقول رغم ما يظهر من تراجع جغرافي لـ«دولته» المزعومة. ولذلك ينبه روا لدور تنظيم البغدادي في تثبيت ونشر الراديكالية الدينية، معتبرًا أن أوروبا وليس العالم العربي فقط تعيش ظاهرة جديدة ولدت مع «داعش»، وهي ظاهرة «أسلمة الراديكالية»، وتحويل الجيل الجديد من الشباب بالغرب إلى حامل قوي للعقيدة القتالية العالمية الداعشية.
هذا الانتشار السريع والشبكي لم يستطع تنظيم القاعدة تحقيقه في السابق. لأن آيديولوجية البغدادي تتمركز - وفق زعمه حول «الخلافة» وتجعل القتال تحت رايتها هو السبيل الوحيد لتحقيق الحلم العقدي. وربما هذا ما يفسر تحول الشباب المسلم بالغرب من عالم الجريمة إلى راديكاليين «إسلاميين» قادرين على شن هجمات في أماكن عدة وبطرق لم تكن معروفة زمن «القاعدة»، ومن ذلك هجوم برلين يوم 19 ديسمبر 2016 بالشاحنة الذي أسفر عن 12 قتيلاً وعشرات الجرحى. وقبله مجزرة نيس بجنوب فرنسا يوم 14 يوليو (تموز) 2016، واعتداء بالفأس قرب فورتزبورغ بوسط ألمانيا بتاريخ يوليو، واعتداء آنسباخ (ألمانيا أيضًا) يوم 24 يوليو، وذبح كاهن بمنطقة النورماندي الفرنسية في 26 يوليو.
ويبدو أن هذا الانتشار، الذي استقطب عددًا كبيرًا من المقاتلين وصل بحسب دراسة نشرتها «مجموعة سوفان» الأميركية إلى ما بين 27 ألفًا و31 ألفًا من نحو 86 دولة آسيوية وأفريقية وأوروبية، أنتج بدوره سياسة إعادة الانتشار، التي تعني نقل «داعش» للمعركة خارج سوريا والعراق، وفق تصور ومنهج يضمن له شن هجمات قوية في مختلف بقاع العالم، والظهور بمظهر التنظيم الشبكي القوي رغم فقدانه الأرض. وهذا ما يعزز من تشبث الشباب المقاتلين بالتنظيم الإرهابي في سوريا والعراق، كما شجع على تمدد ظاهرة «الذئاب المنفردة» في الغرب.
من جهة أخرى، حقق «داعش» تمددًا تنظيميًا وآيديولوجيًا في أفريقيا الشمالية بكل من ليبيا ومصر، وفي دول جنوب الصحراء، في مالي والنيجر ونيجيريا وتشاد، والصومال، حيث استقطب التنظيم شخصيات دعوية وعسكرية مهمة، من «حركة الشباب» الصومالية قررت الانضمام لفرع تنظيم البغدادي بشكل جماعي. ووصل هذا التوسع ليشمل الجارة كينيا، في تطور آخر للتنظيم يمزج بين الآيديولوجية الدينية والانتماء العرقي والقبلي مما يسهل جلب التمويل والتجنيد، ويهدد ببناء شبكة أفريقية لـ«داعش».

* أطروحة الانهيار
بعكس التوجه السابق، ترى أطروحة التراجع والانهيار أن «داعش» لا يتراجع فحسب، بل هو في طريقه إلى الانقراض. فهو من جهة لم يعد قادرًا على الإمساك بالأرض التي سيطر عليها خلال السنوات القليلة الماضية، وتراجعت موارده الطبيعية والمالية، كما استنزفت موارده البشرية، إذ قتل أهم رجاله الإعلاميين والعسكريين، وبعض الدعويين. ومن جهة ثانية، لم يعد يحظى التنظيم بتلك الصورة الإيجابية لدى شباب العالم العربي والغربي، ذلك أن كشف وحشية ممارساته غيّر من قناعات الرأي العام الشعبي تجاهه، وهذا في الوقت الذي شدد فيه التحالف الدولي من إجراءاته العسكرية، وتبنى سياسة محكمة من التنسيق الأمني، وهو ما عرقل وصول المجندين من «داعش»، عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحات القتال في العراق وسوريا.
ومن الباحثين الذين يدافعون عن هذه الأطروحة، دانيال ميلتون من مركز مكافحة الإرهاب في الأكاديمية العسكرية الأميركية - وست بوينت. فميلتون يعتبر أن هذه الحقائق جعلت «داعش» «يعاني كثيرًا من أجل الحفاظ على صورة دولة تعمل».. وفي الوقت نفسه استقطاب الأنصار والمتطوعين الجدد.
أكثر من ذلك، تدعونا هذه الأطروحة للرجوع للمسار التاريخي لـ«داعش» من يوم ولادته الرسمي بتاريخ 9 - 4 - 2013 وسيطرته على مدينة الرقّة، بشمال وسط سوريا، خلال صيف 2013، واعتبار هذه المدينة السورية عاصمة لـ«خلافته» المزعومة، وصولاً إلى سيطرة التنظيم على مدينة الموصل الاستراتيجية في شمال العراق 2014 وهو ما جعل من «داعش» أقوى وأغنى تنظيم إرهابي في العالم.
غير أن شعار «خلافة» البغدادي المزعومة الذي يدعي أنها «باقية وتتمدد» سرعان ما تلقى ضربات متوالية شلت من قدرته على التوسع والانتشار، وذلك منذ بدأ التحالف الدولي الذي أعلن عام 2014، في تطوير عمله وتنسيق عملياته. ومن هنا تعتمد أطروحة التراجع والانهيار على تاريخ فارق في المواجهة الدولية مع هذا التنظيم الإرهابي المتطرف وتعتبر استرجاع مدينة عين العرب (كوباني) التي بدأ «داعش» في 14 - 9 - 2014 هجومه للسيطرة عليها، تحولاً جوهريًا في مسار التنظيم. ذلك أن القدرة القتالية التي أبدتها الميليشيات الكردية - بدعم أميركي - داخل المدينة الصغيرة الحدودية (مع تركيا)، أظهرت لأول مرة منذ ظهور التنظيم أن هناك قوة محلية قادرة على الوقوف أمام قوة «داعش»، إذا ما حصلت على مساندة فعالة من طرف التحالف الدولي.
وعليه، فإن تحرير عين العرب بتاريخ 26 - 1 - 2015، أسقط أسطورة التنظيم الذي لا يقهر، وخلق جوًا جديدًا يعتمد على الطيف البشري المحلي لمواجهة «داعش»، في كلّ من سوريا والعراق، بتنسيق وتعاون مع التحالف الدولي ضد الإرهاب. وهذا المسار أنتج تراجعًا وانكسارات لصورة تنظيم البغدادي ومشروعه طيلة عامي 2015 و2016م، وأبرزها: تحرير مدينتي تل أبيض السورية والفلوجة العراقية، وكذلك تحرير البيشمركة لمدينة سنجار بشمال العراق في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015.
وفي هذا السياق، تدافع أطروحة انهيار «داعش» عن «مزاعمها»، بمؤشرات عام 2016، وتجعل منها حقائق دامغة، لا يكتنفها اللبس. فخلال العام المنتهي فقدت «خلافة البغدادي» المزعومة، مدينتها «المقدسة» دابق. وهي اليوم على وشك فقدان الموصل بشكل تام بعد المرحلة الثانية من معركة تحريرها التي انطلقت يوم الخميس قبل أيام. ويأتي هذا التراجع ليؤكد هزائم «داعش» في مدينة الرمادي، عاصمة محافظة العراق بغرب العراق، وقاعدة القيارة الاستراتيجية (جنوب الموصل) وغيرها من المناطق بالعراق.
وفي الجانب السوري، أمكن تحرير مساحات ومدن وقرى قريبة من مدينة الرقة، عاصمة «داعش» هناك، وذلك بعدما تم تحرير مجينتي جرابلس ومنبج السوريتين الشماليتين. ويبدو أن الاستراتيجية الدولية نجحت في حشر التنظيم الإرهابي في الزاوية، خصوصًا بعد التقدم الذي حصل على أطراف مدينة الباب السورية، ونجاحات محاصرة الرقة، حيث سيطرت الميليشيات الكردية بدعم أميركي على نحو 140 قرية في سعيهم للوصول إلى حدود «عاصمة» البغدادي.
* مؤشرات تخدم الأطروحتين
عمومًا يمكن القول إن الأطروحتين تجدان من الناحية العلمية كثيرًا من المؤشرات التي تدل على صوابية طرحهما. غير أنه يمكن القول استنادًا لخبرة البحث العلمي وما راكمه الخبراء ومؤسسات ومراكز البحث في الظاهرة الإرهابية، أن قضية تراجع «داعش» وتمدده، لا يمكن عزلها عن السياق العام للآيديولوجية الدينية القتالية. ومن هنا، فإن الهزائم المؤقتة للتنظيم لا تعني بالضرورة الهزيمة الاستراتيجية لـ«الروح العقدية القتالية». وهذا حتمًا يعني تجدد التنظيم وانبعاثه بأسماء متجددة في زمن ممتد ينطلق من بؤرة عقدية موحدة للفكرة والتنظيم. ومن ثم، يجعل من الهزيمة انكفاءً مؤقتًا، ومجرد موجة من موجات إعادة تركيب «توحش» جديد في بنية تنطلق من الصراع الديني الطائفي والعرقي، الذي أصبح العراق وسوريا - للأسف - خزانًا له يسهل استثماره، سواءً من طرف القوى الدولية الكبرى أوالحركات الإرهابية المتعددة.. و«داعش» واحد منها.

* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».