«داعش» خلال مسيرة عام... بين التمدد والانهيار

تفسير بأطروحتين متناقضتين

عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
TT

«داعش» خلال مسيرة عام... بين التمدد والانهيار

عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)
عناصر من «داعش» على أطراف مدينة كركوك العراقية (غيتي)

بدأت القوات العراقية، الخميس 30 ربيع الأول 1438ه 29 ديسمبر (كانون الأول) 2016م، مرحلتها الثانية لتحرير الموصل التي أجلت عدة مرات لأسباب لوجيستيكية ومناخية. وتأتي هذه العملية واسعة النطاق في الوقت الذي شهد فيه التحالف العسكري الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية لمحاربة الإرهاب انضمام سلطنة عُمان لتكون الدولة الـ41 المشكلة لهذا التكتل التاريخي. وتأتي هذا الجهود الإقليمية والدولية للقضاء على الإرهاب في العراق وسوريا وغيرهما، في زمن أصبح فيه النقاش العلمي البحثي المتخصص في التنظيمات الإرهابية المتطرفة منقسمًا على نفسه، من حيث تقييم حجم الانتصار الدولي على الحركات الإرهابية، وخصوصًا تنظيم داعش.
صحيح أن هناك شبه إجماع من طرف مراكز البحث والخبراء على حصول تقدم نوعي في محاربة الإرهاب، وأن تنظيم داعش الإرهابي المتطرف تلقى ضربات موجعة، وهزائم متتالية أضعفت قدرته على الإمساك بأرض «خلافته» المزعومة. فإن الاختلاف بين المتخصصين والباحثين في مسار «داعش» يتركز حول نوعية وأثر الهزائم في تشكيل وتحديد مستقبل هذا التنظيم الذي يقوده «أبو بكر البغدادي». وهو ما يفسر انتشار أطروحتين شبه متناقضتين من حيث التفسير واستعمال المؤشرات والأحداث التي وقعت عام 2016، الشيء الذي يسمح علميًا بالحديث عن أطروحة التراجع والانهيار، وأطروحة التكيف وإعادة الانتشار. ومن الخبراء الذين يدافعون عن هذا الطرح، الأميركية لويس ماكفيت مديرة الأبحاث في مركز أبحاث دراسات الحرب، المتخصصة في متابعة تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» بسوريا والعراق، وسبق للكونغرس الأميركي أن استضافها للإدلاء بشهادتها البحثية أمامه في موضوع الإرهاب.
أما الأطروحة الثانية التي تتبنى مقولة الانهيار، فهي تنطلق من الوقائع العملية لعامي 2015 و2016، معتمدة على مؤشرات دامغة تثبت تراجع ونكوص قوة هذا التنظيم. وأبرز ما تستدل به هذه الأطروحة على تحول «دولة الخلافة» المزعومة، من واقع يتمدد جغرافيًا، إلى واقع ينحسر ويفقد الأرض والقيادات العسكرية والإعلامية، والدينية.

* أطروحة التكيف
وإعادة الانتشار
تنطلق هذه الأطروحة من القدرة الذاتية للخط والعقيدة الآيديولوجية الداعشية على الصمود وإعادة الانبعاث بشكل متوالٍ ومتجدد. وتعتبر أن هذا الجانب هو روح تنظيم البغدادي الذي يجعله محافظًا على «تقديس» مطلب الخلافة، رغم تحوله إلى مربّع الدفاع. ومن هنا تدعونا هذه الأطروحة إلى الانتباه والأخذ بالحسبان أن «داعش» عدو مرن ويمتلك قدرة فائقة على التحرك والتكيف، الشيء الذي يعني أن الهزائم العسكرية التي جعلت التنظيم اليوم في موقف دفاعي، لا تؤشر على الضعف التنظيمي، ذلك أن استراتيجية «داعش» تشمل التوسع في أفريقيا ومناطق أخرى. وهذا التوسع لن يتأثر كثيرًا بالهزيمة المؤقتة في العراق وسوريا، لأن استراتيجية الانبعاث والتجدد، تجعل من القوة القتالية لـ«داعش» تهديدًا عنيفًا لمنطقة جغرافية واسعة توفر صراعاتها الطائفية والدينية الأرضية الخصبة للتعبئة، وكذلك للهروب من الهزيمة الكاملة لتنظيم البغدادي وآيديولوجيته القتالية.
وانسجامًا مع هذه الأطروحة، يدافع عالم السياسة الفرنسي أوليفييه روا (Olivier Roy)، الأستاذ الجامعي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، عن الانتشار المخيف لـ«داعش» آيديولوجيًا مما يمكن التنظيم من التجنيد عن بعد، وخلق مناطق غير آمنة في عدة دول أوروبية. ولقد ساعده في ذلك ما راكمه من خبرة بحثية كبيرة، جعلت منه أكبر متخصص فرنسي في الحركات الإرهابية. وهو ينطلق من صلابة وانتشار البعد العقدي القتالي وتغلغله في صفوف الجيل الثالث للشباب المسلم المولود والمتعلم بالغرب.
ومن هذا المنطلق يسجل روا التقدم الداعشي في كسب العقول رغم ما يظهر من تراجع جغرافي لـ«دولته» المزعومة. ولذلك ينبه روا لدور تنظيم البغدادي في تثبيت ونشر الراديكالية الدينية، معتبرًا أن أوروبا وليس العالم العربي فقط تعيش ظاهرة جديدة ولدت مع «داعش»، وهي ظاهرة «أسلمة الراديكالية»، وتحويل الجيل الجديد من الشباب بالغرب إلى حامل قوي للعقيدة القتالية العالمية الداعشية.
هذا الانتشار السريع والشبكي لم يستطع تنظيم القاعدة تحقيقه في السابق. لأن آيديولوجية البغدادي تتمركز - وفق زعمه حول «الخلافة» وتجعل القتال تحت رايتها هو السبيل الوحيد لتحقيق الحلم العقدي. وربما هذا ما يفسر تحول الشباب المسلم بالغرب من عالم الجريمة إلى راديكاليين «إسلاميين» قادرين على شن هجمات في أماكن عدة وبطرق لم تكن معروفة زمن «القاعدة»، ومن ذلك هجوم برلين يوم 19 ديسمبر 2016 بالشاحنة الذي أسفر عن 12 قتيلاً وعشرات الجرحى. وقبله مجزرة نيس بجنوب فرنسا يوم 14 يوليو (تموز) 2016، واعتداء بالفأس قرب فورتزبورغ بوسط ألمانيا بتاريخ يوليو، واعتداء آنسباخ (ألمانيا أيضًا) يوم 24 يوليو، وذبح كاهن بمنطقة النورماندي الفرنسية في 26 يوليو.
ويبدو أن هذا الانتشار، الذي استقطب عددًا كبيرًا من المقاتلين وصل بحسب دراسة نشرتها «مجموعة سوفان» الأميركية إلى ما بين 27 ألفًا و31 ألفًا من نحو 86 دولة آسيوية وأفريقية وأوروبية، أنتج بدوره سياسة إعادة الانتشار، التي تعني نقل «داعش» للمعركة خارج سوريا والعراق، وفق تصور ومنهج يضمن له شن هجمات قوية في مختلف بقاع العالم، والظهور بمظهر التنظيم الشبكي القوي رغم فقدانه الأرض. وهذا ما يعزز من تشبث الشباب المقاتلين بالتنظيم الإرهابي في سوريا والعراق، كما شجع على تمدد ظاهرة «الذئاب المنفردة» في الغرب.
من جهة أخرى، حقق «داعش» تمددًا تنظيميًا وآيديولوجيًا في أفريقيا الشمالية بكل من ليبيا ومصر، وفي دول جنوب الصحراء، في مالي والنيجر ونيجيريا وتشاد، والصومال، حيث استقطب التنظيم شخصيات دعوية وعسكرية مهمة، من «حركة الشباب» الصومالية قررت الانضمام لفرع تنظيم البغدادي بشكل جماعي. ووصل هذا التوسع ليشمل الجارة كينيا، في تطور آخر للتنظيم يمزج بين الآيديولوجية الدينية والانتماء العرقي والقبلي مما يسهل جلب التمويل والتجنيد، ويهدد ببناء شبكة أفريقية لـ«داعش».

* أطروحة الانهيار
بعكس التوجه السابق، ترى أطروحة التراجع والانهيار أن «داعش» لا يتراجع فحسب، بل هو في طريقه إلى الانقراض. فهو من جهة لم يعد قادرًا على الإمساك بالأرض التي سيطر عليها خلال السنوات القليلة الماضية، وتراجعت موارده الطبيعية والمالية، كما استنزفت موارده البشرية، إذ قتل أهم رجاله الإعلاميين والعسكريين، وبعض الدعويين. ومن جهة ثانية، لم يعد يحظى التنظيم بتلك الصورة الإيجابية لدى شباب العالم العربي والغربي، ذلك أن كشف وحشية ممارساته غيّر من قناعات الرأي العام الشعبي تجاهه، وهذا في الوقت الذي شدد فيه التحالف الدولي من إجراءاته العسكرية، وتبنى سياسة محكمة من التنسيق الأمني، وهو ما عرقل وصول المجندين من «داعش»، عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحات القتال في العراق وسوريا.
ومن الباحثين الذين يدافعون عن هذه الأطروحة، دانيال ميلتون من مركز مكافحة الإرهاب في الأكاديمية العسكرية الأميركية - وست بوينت. فميلتون يعتبر أن هذه الحقائق جعلت «داعش» «يعاني كثيرًا من أجل الحفاظ على صورة دولة تعمل».. وفي الوقت نفسه استقطاب الأنصار والمتطوعين الجدد.
أكثر من ذلك، تدعونا هذه الأطروحة للرجوع للمسار التاريخي لـ«داعش» من يوم ولادته الرسمي بتاريخ 9 - 4 - 2013 وسيطرته على مدينة الرقّة، بشمال وسط سوريا، خلال صيف 2013، واعتبار هذه المدينة السورية عاصمة لـ«خلافته» المزعومة، وصولاً إلى سيطرة التنظيم على مدينة الموصل الاستراتيجية في شمال العراق 2014 وهو ما جعل من «داعش» أقوى وأغنى تنظيم إرهابي في العالم.
غير أن شعار «خلافة» البغدادي المزعومة الذي يدعي أنها «باقية وتتمدد» سرعان ما تلقى ضربات متوالية شلت من قدرته على التوسع والانتشار، وذلك منذ بدأ التحالف الدولي الذي أعلن عام 2014، في تطوير عمله وتنسيق عملياته. ومن هنا تعتمد أطروحة التراجع والانهيار على تاريخ فارق في المواجهة الدولية مع هذا التنظيم الإرهابي المتطرف وتعتبر استرجاع مدينة عين العرب (كوباني) التي بدأ «داعش» في 14 - 9 - 2014 هجومه للسيطرة عليها، تحولاً جوهريًا في مسار التنظيم. ذلك أن القدرة القتالية التي أبدتها الميليشيات الكردية - بدعم أميركي - داخل المدينة الصغيرة الحدودية (مع تركيا)، أظهرت لأول مرة منذ ظهور التنظيم أن هناك قوة محلية قادرة على الوقوف أمام قوة «داعش»، إذا ما حصلت على مساندة فعالة من طرف التحالف الدولي.
وعليه، فإن تحرير عين العرب بتاريخ 26 - 1 - 2015، أسقط أسطورة التنظيم الذي لا يقهر، وخلق جوًا جديدًا يعتمد على الطيف البشري المحلي لمواجهة «داعش»، في كلّ من سوريا والعراق، بتنسيق وتعاون مع التحالف الدولي ضد الإرهاب. وهذا المسار أنتج تراجعًا وانكسارات لصورة تنظيم البغدادي ومشروعه طيلة عامي 2015 و2016م، وأبرزها: تحرير مدينتي تل أبيض السورية والفلوجة العراقية، وكذلك تحرير البيشمركة لمدينة سنجار بشمال العراق في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015.
وفي هذا السياق، تدافع أطروحة انهيار «داعش» عن «مزاعمها»، بمؤشرات عام 2016، وتجعل منها حقائق دامغة، لا يكتنفها اللبس. فخلال العام المنتهي فقدت «خلافة البغدادي» المزعومة، مدينتها «المقدسة» دابق. وهي اليوم على وشك فقدان الموصل بشكل تام بعد المرحلة الثانية من معركة تحريرها التي انطلقت يوم الخميس قبل أيام. ويأتي هذا التراجع ليؤكد هزائم «داعش» في مدينة الرمادي، عاصمة محافظة العراق بغرب العراق، وقاعدة القيارة الاستراتيجية (جنوب الموصل) وغيرها من المناطق بالعراق.
وفي الجانب السوري، أمكن تحرير مساحات ومدن وقرى قريبة من مدينة الرقة، عاصمة «داعش» هناك، وذلك بعدما تم تحرير مجينتي جرابلس ومنبج السوريتين الشماليتين. ويبدو أن الاستراتيجية الدولية نجحت في حشر التنظيم الإرهابي في الزاوية، خصوصًا بعد التقدم الذي حصل على أطراف مدينة الباب السورية، ونجاحات محاصرة الرقة، حيث سيطرت الميليشيات الكردية بدعم أميركي على نحو 140 قرية في سعيهم للوصول إلى حدود «عاصمة» البغدادي.
* مؤشرات تخدم الأطروحتين
عمومًا يمكن القول إن الأطروحتين تجدان من الناحية العلمية كثيرًا من المؤشرات التي تدل على صوابية طرحهما. غير أنه يمكن القول استنادًا لخبرة البحث العلمي وما راكمه الخبراء ومؤسسات ومراكز البحث في الظاهرة الإرهابية، أن قضية تراجع «داعش» وتمدده، لا يمكن عزلها عن السياق العام للآيديولوجية الدينية القتالية. ومن هنا، فإن الهزائم المؤقتة للتنظيم لا تعني بالضرورة الهزيمة الاستراتيجية لـ«الروح العقدية القتالية». وهذا حتمًا يعني تجدد التنظيم وانبعاثه بأسماء متجددة في زمن ممتد ينطلق من بؤرة عقدية موحدة للفكرة والتنظيم. ومن ثم، يجعل من الهزيمة انكفاءً مؤقتًا، ومجرد موجة من موجات إعادة تركيب «توحش» جديد في بنية تنطلق من الصراع الديني الطائفي والعرقي، الذي أصبح العراق وسوريا - للأسف - خزانًا له يسهل استثماره، سواءً من طرف القوى الدولية الكبرى أوالحركات الإرهابية المتعددة.. و«داعش» واحد منها.

* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.